أنا والجوال

منذ 2022-01-07

لا تتخذوني هزوًا لو أسمعتُكم اليومَ قصةً ظريفة، تنسكب دموعُ الفرحة عند سماعها، مع سيلان دموع الحزن والكآبة منها، سخط مَن سمعها، وغضب مَن لم يسمعها.

لا تتخذوني هزوًا لو أسمعتُكم اليومَ قصةً ظريفة، تنسكب دموعُ الفرحة عند سماعها، مع سيلان دموع الحزن والكآبة منها، سخط مَن سمعها، وغضب مَن لم يسمعها.

 

آه على نفسي أنا... أواه... يا ويلتاه... يا حزناه... يا مَن...

 

كنتُ في صلاة العصر، فرنَّ جوَّالي وهو صامتُ الرَّنَّة، فارتعَش ارتعاشًا فاحشًا، فما سمعتُ صاحبي في الصلاة إلا وهو يضْحك ضحكةً فاجرة، تعجَّبتُ أولاً، ثم تذكرتُ أنني في الصلاة، فما هذا اللهو والطغيان؟

 

ومع الأسف الشديد رنَّ جوَّالي ثانيًا، والآن نسيتُ نقر زرِّه حتى يسكت؛ لأنني الآن بدأتُ الصلاة بالخضوع التامِّ المبرأ مِن كل عيب فيها، فما عرفتُ ما حدَث إلا حينما أتممتُ صلاتي، هرَب الجميعُ مِن حولي كأنهم أُصيبوا بما لم يتحمَّلوا بقيامهم قليلًا، فما رأيتُ هناك إلا طفلًا، وكان على وجهه ابتسامة ساخرة، فألهَيْتُه عما ينظر إليه عابسًا، ففغر فاه ناظرًا إلى ذلك، فدهشتُ مما حدَث قبْل، ثم مِن الذي يحدث الآن، وتفكَّرتُ هل هذا معي أو مع الآخرين أيضًا، فلوَّحتُ بطرف ردائي يمنة ويسرة ليتوجَّه إليَّ، ولكنه ظلَّ يلمحه غافلًا عمَّا حواليه، وكان على وجهه استبشارٌ يزيده ملاحة، فما عرفتُ منه سببَ نظرته؛ لأنه أحيانًا يرفع نظره ويُلاقي وجهي، ثم يخفضه فينظر إليه، يا هذا! ما هذا؟ صحتُ في وجهه، وقمتُ آخذًا جوَّالي، أَخْبَث الأغراضِ مِن جيبي المبارك، فألهاني عن خطَّتي وكيف؟ إنه فقير مثلي، وليس له حتى (هللة) واحدة ليكون قادرًا على الاتصال، ولربما يتَّصل بي أحدٌ فتنفَّست الصعداءَ إذ لا يمكن ذلك؛ لأن رقمي كان مسروقًا فأُغلقَ، فاستعرتُ مِن بعضهم رقم الاتصال لأكونَ صاحب الجوال عند التجوال بين العامَّة.

 

بعد مضيِّ نصف ساعة رنَّ جوالي مرة أخرى، وبدأ يتذبذب بالشدَّة الفزعة، فنقرتُ على الزرِّ الرئيس القابل للاتصال بسرعة دُون عِلم، وكنتُ جالسًا بين الأصدقاء، وكدتُ أصرخ لما رأيتُها وجهًا لوجه، وهي مبتسمة، والحياء يروق وجهها، ويزيد جمالها، وشعرها المتدلي يزداد لمعانًا، ففغر فمي للوهلة الأولى، وأصبحتُ مُولعًا بزيارتها، إنها جميلة، معجبة، مثيرة، رائعة، كذا وكذا، فقفزتُ مِن بين الأصدقاء وهم ينظرون إليَّ كأنني ارتكبتُ جريمة؛ مع أنهم اشتاقوا إلى رؤيتها ثانيًا، ولكن كيف يقوم أولئك؟

 

هم يتناولون العشاء جائعين، هربتُ إليها وشعرتُ بفؤادي مُلتاعًا، فبدأ يتدلَّه في حبها ودلالها، ويجرُّني إليها شيئًا فشيئًا، فوصلتُ إليها بخطو متقارب، ولم أُسرع كي لا تنظر إليَّ؛ وكذلك فلا أحبُّ الزحام، ولربما هي أيضًا، فمشيتُ وراءها زهاء مائة قدم، وفجأةً توقفَت كأنها شعرَت بشيءٍ خلْفها، ولكنها لم تنظر إلى الوراء، بل أخرجَت الجوَّال مِن جيبها الأيمن، ثم بدأتْ تتَّصل ببعضهم وأنا أقترب إليها أكثر فأكثر، وفزعت مِن المفاجأة الطارئة حينما رنَّ جوَّالي للمرة الرابعة، فضغطتُه بشدَّة لئلَّا تعلم أن وراءها أحدًا، وأنا أسمع ما تتكلم وقد أفعمتني لهجتُها بالمسرَّة، وألقتْني في بحر حبها العميق، أحسستُ أنني لا أرى إلا كلامها دون شيء آخر، وأنا أسمعها تقول: يا حبيبي لماذا لا تتكلَّم اليوم؟ هل أنتَ ساخط مني؟ هل حدث شيء؟ قل لي بالله عليك... إلخ.

 

فما استطعتُ أن أصبر مزيدًا حتى تخيَّلتُ أني أسمعها كأنها تخاطبني بلهجة ناعمة، تأثَّرَ بها قلبي وكاد ينفلق بالقول: أيا... بالله عليكِ، اسمعيني أنا... انظري إليَّ... لا أريدك أنتِ لأنكِ غالية... بل أشتاق لرؤيتكِ أنتِ لأومن بجمالكِ أنتِ فأنت...

 

ارتعش جوالي مرة خامسة، فأخرجتُه ناظرًا إلى ظهرها وقد تناثر عليه شعرٌ كسنبلة ناعمة، فقبلتُ الاتصال بسرعة لأتفرَّغ لها، فما سمعتُ منه إلا ضحكات هادئة، وهي ترى كأنها تأتي مِن الفضاء الواسع، فقلتُ: ما هذا يا فلان؟ قال بصوت فيه غضب وعقاب: أنا أراقبُك منذ أن غلبتْك الشهوة، هل تعرف المسكينة؟

 

خفق قلبي، وارتجف صوتي، وتوقف نفَسي، فالتفتُّ إلى الوراء ولم يكن هناك أحد، تحيرتُ فصحتُ: أيا هذا مَن أنتَ، وأين أنت؟ قال لي: هوِّن عليك، أخبرك مَن أنا؟ أنا المسكين الشيطان الرجيم، وهذه التي أمامك هي أنا، إنكَ أدَّيتَ الصلاة بالخضوع اليوم، فخفتُ أن أفقد أحدًا مِن أصدقائي، فحاولتُ هذا ونجحتُ، فأنت مشكور في مساعدتي، والشيطان سوف يُكافئني الآن، ويَفرح إذا أخبرتُه أنكَ ما زلتَ معنا، ولا حُرمتَ أنتَ مِن دعائنا عليك، أجبْني الآن، وكُن صاحبَها أبدًا، هل تحبُّ أن تراها وتلامسها وتداعبها وتعشقها كالشيطان الضالِّ المضلِّ؟ قلتُ فورًا: معاذ الله، فتغيَّرَت صورتُها وانقلبَت إلى حالها الأقبح القبيح الذي يضرب بها المثل.

 

وذاك البريء الطاهر مِن كل ذنب قد اقترب منِّي وقبَّلني، ثم قال: أنا المَلَكُ السماويُّ، لو لم يكن النصر مِن الله تعالى لضللتَ ولذهبتَ إلى شرِّ عاقبة، وكنتُ أدعو في كل هذا الوقت لك وعليه كيلا يُغالبك، فاشكُر اللهَ، ودع ما يريبك منه، ثم ارتفع إلى العُلا حتى أقصى ما يمكن.

 

فاستيقظتُ مباشرةً وعرفتُ أنها رؤيا، تفكَّرتُ قليلا لِمَ رأيتُها كذلك، وما رأيتُ قط قبل ذلك مثل هذا المنام فتذكرتُ، بلى بلى قد أدَّيتُ الصلاة بالليل أمس أول مرة في حياتي بالوضوء، ثم تعاهدتُ نفسي ألا أقضيها بعد، وأنا سجَّلت في بطاقة جوَّالي عددًا مِن الفيديو الفاحش والأغاني السامَّة برغم أن أحد أصدقائي قد منعني ونهرني من ذلك، لكنني فعلتُ ما فعلتُ، والآن رأيتُ ما رأيتُ، فحذفتُ جميع ما فيها مِن اللهو، وسجلتُ مكانها عددًا مِن سوَر القرآن الكريم، وبعضَ الأحاديث للنبي عليه الصلاة والسلام، ثم أضفتُ إليها عددًا مِن الخُطب والنصائح والأدعية الطيِّبة.

 

وفي اليوم التالي أخذ مني عمر جوَّالي لينظر فيه ما يريد، فأعطيتُه، وحينما لم يجد ما يقصده، قال لي يا هذا ماذا بك؟ ألا تعرف أنني سجَّلتُ في بطاقتك بعضَ الأغاني التي أحبُّها حبًّا جمًّا، وأنا جمعتُها بعد تعبٍ شديد حتى أتعبتُ نفسي في حشدها، اللعنة اللعنة! بقيتُ صامتًا حتى سكتَ هو، ثم هدأ غضبه، فذهبتُ به إلى حانوت العسل والفواكه، وجلسنا هناك، واعتذرتُ إليه على إضاعة ما لديَّ سواء له أو لي، ثم دعوتُه إلى العمل الصالح الذي بنفسي بالأمس ونصحتُه، وفي أثناء ذلك أسمعتُه بعضَ الأبيات الشعرية لأبي العتاهية الشاعر للعصر العباسي:

لا تأمَنِ الموتَ في طرْف ولا نفَسٍ ♦♦♦ ولو تسترتَ بالأبوابِ والحرَسِ

 

وأيضا:

لا تلعبنَّ بك الدُّنيا وأنتَ تَرى ♦♦♦ ما شئتَ مِن عِبَرٍ فيها وأمثالِ

 

انظر يا عمر، إن الموت يأكل كل ذي روح كما تأكل النار الخشب، وهذا الموتُ نعمة ونقمة، نعمة للمتقين، فقد أمَرَهم اللهُ تعالى بلسان رسوله صلى الله عليه وسلم: أكْثِروا ذكْر هادِم اللَّذَّات الموت، ونقمة لأصحاب الكبائر والصغائر، عندما يحين أجلُهم يصرخون ولكن لا يسمع صرخاتهم أحد، يبكون ولكن ليس لهم نصير، ويأمُر اللهُ ملائكتَه: خذوه، مع أنه رحيم ورؤوف ورحمن وغفور وحليم... كل ذلك مِن أجل فوات الفرصة، هذه فرصة لي ولك يا أخي العزيز، إن الله هدانا إلى صراط مستقيم، وهذا قدَر اللهِ إذا شاء ولمَن شاء، فقد وفَّقني لهذا العمل، وأنا لبَّيتُه، وهداك إلى الحق، وأنتَ تسمعني، أسعدتني يا خالد، فعلمني الصلاة، وأنا في كثير من الأحيان أتذكَّر أمِّي رحمها الله تعالى، وقد توفيتْ قبل ثلاثة أعوام، كم مرة علمتْني الصلاة وأنا أهرب منها، وهي تخوِّفني وتفزعني مِن الموت، وأنا أجهلها، فقد قال ما قال أبو العتاهية، لا جرم إن الموت لنا بالمرصاد، ونحن في لهو عن ذلك، يا للأسف! اللهم اهدنا، اللهم اهدنا، ولا... قال ذلك ثم ذهب إلى الوضوء، وأنا رفعتُ رأسي إلى السماء وفكرتُ: كم هنالك في الأرض، لا بل في سبع أرضين مِن ملأٍ لا يعرفون عن الدِّين القيِّم الحنيف، وهم يلمسون ويرون الدُّعاة أو ييأسون فيموتون بائسين.

__________________________________________________
الكاتب: د. محمد زبير عباسي