الذات والوطن والاستعمار

منذ 2022-01-10

الذات والوطن والاستعمار.. قراءة في (مذكرات شاهد قرن) لمالك بن نبي

جاءت (مذكرات شاهد قرن)[1] للمفكر الإسلامي الجزائري مالك بن نبي (1905 - 1973م)، لتكون نموذجاً فريداً في أدب السيرة الذاتية، بالنظر إلى التكوين المتميز لكاتبها الذي جمع الثقافتين العربية والفرنسية، واعتز بهويته الإسلامية ونظر إليها بوصفها أيديولوجيا يقرأ بها الحضارة الغربية الحديثة، التي اغترف من علومها الإنسانية والتقنية طالباً للعلم في فرنسا. كما أنه عاصر منذ طفولته الحقبة الاستعمارية الفرنسية للجزائر حتى تحرُّرها، ليصوغ في النهاية الإشكالات والتحديات التي تواجه الجزائر خاصة والعالم الإسلامي عامةً في كتب عديدة، على نحو ما يفصِّلها في كتابه (القضايا الكبرى)، وتتمثل تلك الإشكاليات في تصفية راسب العسف المتخلف عن العهد الاستعماري، ومجموع ضروب العطالة التي ندين بها إلى القابلية للاستعمار، وفي توجيه البلاد صوب انتمائها التاريخي العربي والإسلامي[2].

 ويمكن القول: إن بن نبي، قدَّم سيرته الذاتية من خلال منظورين مترابطين ومتقابلين في آنٍ معاً، وهما: إدانة الاستعمار، والاعتزاز بالإسلام هوية وأخلاقاً، وكأنه يؤكد أن بديل الاستعمار، وطريق النهضة هو التمسك بالإسلام الصحيح؛ إسلامِ الأخلاق والقيم والحضارة والتاريخ العظيم.

 

تشكُّل الذاكرة والوعي:

وهو ما نلمسه في القسم الأول من المذكرات وعنوانه «الطفل» (1905 - 1930م)، حيث نرصد تفتح وعي بن نبي منذ نعومة أظفاره على جرائم المستعمر في بداية احتلاله، تلك الحكايات التي وصلته عن جدته الحاجة (بايا). فعندما اقتحم الجنود الفرنسيون المدينة، فرَّت العائلات عبر الجبال مصطحة بناتها خوفاً من الاغتصاب، وكثيراً ما تمزقت بهنَّ الحبال ليَهويْن في عمق المنحدَر. كما فرَّت بقية العائلات إلى طرابلس الغرب، بعدما باعت ممتلكاتها[3]. ثم يفيض مسجلاً ما فعله الاستعمار من محو الهوية الإسلامية للشعب، ونشر الخمور والرذائل، وتغيير العادات والتقاليد في الملابس والاحتفالات، واندثار الحِرَف التقليدية، وحصل اليهود الجزائريون على الجنسية الفرنسية، وتكاثر الأجانب في البلاد. إنها ملامح تغيير ديموغرافي، وثقافي، واجتماعي، كان ديدناً للاستعمار الفرنسي[4]، وقد رصدها بن نبي في مدينة تبسة، حيث تصعلكت (أو تفرنست) نخبة المجتمع الجزائري، وتملَّك الفقر قاعدته.

ونتيجة الخطوب التي أصابت عائلته عاش بن نبي في فقر مع أبيه وأمه، اللذَين رفضا الهجرة مع الجد، ومكثا في تبسة دون مورد رزق، ويصاحب الطفل جدته لأمه، التي حكت له عن فضائل الإحسان الذي هو مرتبة عليا في الإسلام. وكان الحاكم الفرنسي جونارت قد جعل اسمه على طراز معيَّن من المباني إذ بدا الفصل بين الحي الأوروبي والأحياء الشعبية، في تضادٍّ صارخ بين فئتين اجتماعيتين[5]، الأولى ثرية يحميها المستعمر، والثانية تعاني الهيمنة والفقر والخوف.

 وفي قسنطينة ذهب إلى المدرسة وتعرَّف على تلاميذ الشيخ عبد الحميد بن باديس، (وهو أحد العلماء الأفذاذ في العربية والشريعة، وله دور كبير في الحفاظ عليهما ضد سياسات الفرنسة)، وقد بات حي الطلبة المقارب للمدرسة في قسنطينة نموذجاً في التثاقف العربي والشرعي بين الشيخ بن باديس وبين الطلاب، وغيرهم من الشعراء أمثال محمد العيد، والهادي السنوسي، وكذلك حضور محاضرات الشيخ بن العابد في الشريعة الإسلامية[6]، وهو ما أهَّله بعد ذلك لمواجهة ونقد الثقافة الاستعمارية التي تغلغلت في مناحي الحياة في الجزائر: لغةً وتعليماً وفنوناً وثقافةً.

وجهاً لوجه مع المستعمر:

وهو ما يرصده بن نبي تفصيلاً في القسم الثاني من المذكرات وعنوانه «الطالب» (1930 - 1939م)، وذلك إبَّان دراسته في فرنسا، وإن كان قد تعرَّف على المستعمر في الجزائر عن كثب، ورأى المبشرين على رأسهم القس زويمر، الذي آلَى على نفسه نشر الكاثوليكية في الجزائر وسائر إفريقيا، ولكن على النقيض من ذلك كان الفرنسيون العقلاء يغيِّرون من قناعاتهم المعادية للإسلام عندما يحتكُّون مع المسلمين ويتفهمون حقيقة دينهم، ومنهم من تزوج زنجية مسلمة، وتغيرت نظرته، وأيضاً عقيدته بسببها، ولكنه واجه احتقاراً عندما ذهب بها إلى مجتمعه الفرنسي الأبيض[7].

لقد أدرك بن نبي خطر الاستعمار على نقاء البيئة الريفية والبدوية في الجزائر، وقد شاهدها بالفعل في منطقة أفلو حيث الرعاة كرماء صادقون، على عكس ما رأى في مدن الجزائر ثم فرنسا من احتيال وكذب وشهادة زور[8]، ولذا التزم الصدق في إجابته عن دينه عندما أعلن ديانته، فكان المسلمَ الوحيد في رابطة نصرانية في باريس، ويتذكر بعد أربعين سنة من هذه الواقعة كيف أن روحه تفتحت على حقيقة المشكلات الحضارية والاستعمارية؛ خاصة أن التقاليد البرجوازية كانت هي السمة الغالبة على المجتمع الفرنسي[9]؛ بكل التعالي الذي نظر به الفرنسيون إلى أبناء المستعمرات المقيمين في فرنسا. وقد أدرك بن نبي ثقافة الغرب وفلسفاته المادية والواقعية، ونظرتهم إلى الإسلام بوصفه ديانة أقرب إلى الأساطير، وَفْقَ الموروث الغربي الاستشراقي عن الإسلام[10]، وهو ما أهَّله بعد ذلك لمناقشة الحضارة الغربية باستفاضة ودقة في مؤلفاته، بعدما سبرَ كُنهها، وعرف أغوارها، وتحدث بلغة أهلها، بل كتب مؤلفاته بها.

من ملامح البنية السردية:

إذا نظرنا أدبياً إلى هذه المذكرات، فإن المقدمة تدهشنا؛ عندما يشير المؤلف إلى أنه صلَّى العصر في مسجد تحوَّل إلى كاتدرائية إبَّان الاحتلال الفرنسي، ثم عاد مسجداً بعد التحرير، حيث شعر وهو يصلي بشخص يضع لفافة بجانبه، وعندما فرغ بن نبي من صلاته لم يجد الشخص، واكتشف أن اللفافة عبارة عن ورق مقوى، يشتمل على أوراق بخط دقيق ولكنه واضح؛ وعندما قرأها اكتشف اسمه فيها، فيقرر نشرها[11]. فالموقف هنا دالٌّ على أن بن نبي في سيرته الذاتية - كما تذكُر زهور كرَّام - يقف وجهاً لوجه أمام ذاته، في محاولة منه لخلق مسافة معها وتحويلها إلى موضوع للتأمل، فتنتقل الذات من مصدر المعرفة إلى موضوع للمواجهة[12]، وهي أيضاً دلالة على موضوعية الذات، وهي تعيد قراءة ما خطته أناملها. خاصة أن المذكرات رويت بضمير المتكلم، وذلك ديدن أدب السيرة الذاتية؛ فقوامه الاستبطان الداخلي للشخصية في علاقتها بالواقع الموضوعي، ليتركز الخطاب على سرد الحياة الشخصية للكاتب، والتأرجح بين المسوغ الذاتي للحياة الفردية والشخصية، بالإضافة إلى الاستقراء الخارجي لأحداث الواقع، ويمثل النثر والكتابة السردية المحكية طريقة في التعبير، وكذلك الميل إلى استخدام الزمن الهابط[13]، أي الزمن المسترجع في لحظة الكتابة، التي نجدها عند بن نبي في منتصف الستينيات من القرن الماضي[14]، بعد رحيل المستعمر.

كذلك، تعمَّد بن نبي تصوير بعض الفنون الشعبية الجزائرية المحلية، التي تشابه بقية الأقطار العربية، فهناك الحاوي ذو الثعابين، والمهرِّج ذو الحركات البهلوانية، ورواة ألف ليلة والسير الشعبية[15].

وقد ظهرت شفافيته مع ذاته عندما يعترف بأنه ورث من عائلته الفقيرة حسداً وغَيرة حيال العائلات الكبيرة، وهو ما جعله لا يتقبل الشيخ العربي ذا الأصول الغنية، ويقرُّ أن فهمه الاجتماعي الخطأ يجعله يظن أن قربه للإسلام يكون بالتواصل مع البدو، وليس أهل الحضر والمدن[16]، ونجد هذا واضحاً في كثير من المواضع، في دلالة على أنه لم يكتب المذكرات متفاخراً بحياته؛ وإنما أراد قراءة نفسه ومجتمعه، والعالم من حوله، بكل شفافية وصدق ونقد.

 وإذا كانت الرؤية السائدة هي المقابلة بين الثقافة الفرنسية، والثقافة الإسلامية؛ فإن هذه المقابلة نجدها أيضاً على مستوى الأمكنة، فنرصد المقارنة بين تبسة المدينة القديمة بكل ما فيها من بساطة وتلقائية للشعب الجزائري ورضاه بمعيشته، وبين مدينة قسنطينة التي عاد إليها بن نبي، ورأى مأساة التهجير، والقيود المفروضة على الجزائريين الذين نعتهم الفرنسيون المستوطنون بأبناء المستعمرات[17]، والنعت يحمل تمييزاً وعنصرية دالة على مهانة المنعوت، وتكبُّر الناعت.

 كما نرصد المقابلة في بنية المذكرات نفسها، فالقسم الأول عن طفولته يشمل الجزائر المكان والجغرافيا والثقافة، أما القسم الثاني فهو فرنسا الحياة والعلم والتغريب، إلا أنه فصلٌ ظاهره الزمن والمكان، وباطنه المقارنة بين الشرق والغرب.

 ونقول أخيراً: إذا كان مالك بن نبي قد جمع في شخصيته الثقافتين الإسلامية والغربية، فقد أدرك بالمقارنة والتحليل والتأمل أزمة المسلمين الحضارية، مثلما عرف مثالب الحضارة الغربية، وأنها لن تكون سبيلاً إلى خير وسعادة الإنسانية.


 


[1] من إصدارات دار الفكر المعاصر، بيروت - دمشق، ط2، 1984م.

[2] القضايا الكبرى، دار الفكر المعاصر، بيروت - دمشق، 2000م، ص104.

[3] مذكرات شاهد قرن، ص15 - 16.

[4] انظر تفصيلاً: تاريخ الجزائر الثقافي، أبو القاسم سعد الله، دار الغرب الإسلامي: 5/ 340 وما بعدها.

[5] مذكرات شاهد قرن، ص 26 - 29 -60.

[6] مذكرات شاهد قرن، ص84 - 86.

[7] المرجع السابق، ص133.

[8] المرجع السابق، ص174 - 177.

[9] المرجع السابق، ص211 - 215

[10] مذكرات شاهد قرن، ص238 - 240.

[11] المرجع السابق، ص14.

[12] ذاتُ المؤلف من السيرة الذاتية إلى التخييل الذاتي، زهور كرَّام، دار الأمان، الرباط، 2013م، ص23.

[13] فن السيرة الذاتية، جميل الحمداوي، دار التنوخي للنشر، الرباط، 2010م، ص11.

[14] مذكرات شاهد قرن، ص14.

[15] المرجع السابق، ص 28.

[16] المرجع السابق، ص131.

[17] مذكرات شاهد قرن، ص85.

_______________________________________________________
الكاتب: 
. مصطفى عطية جمعة