لماذا يقدمون على الاعتفار؟!
ابحثوا فيمن حولكم وتحسَّسوا، فهناك أناس قد اعتفروا، فعزة أنفسهم وإظهار تماسكهم يخفي أوجاعهم، أدركوهم قبل أن يتمكَّن اليأس منهم، ويجهز عليهم...
مرَّت قريش بمراحل من الجوع والفقر الشديد، حتى وصل الأمر ببعضهم (عائلة من بني مخزوم) أن أخذ أهل بيته لمكان يسمى بالخباء يبقون فيه حتى يموتوا كلُّهم من الجوع، وهذه العادة في الجاهلية كان اسمها "الاعتفار".
وحين استفحلت تلك العادة، وفاحتْ روائح الموت، وتعالى أنينُ الجياع، أنقذ الله تلك الأنفس بأحد كبار التجار، وهو هاشم بن عبد مناف، حين جمع فقيرهم وغنيَّهم، فقال لهم: (أنتم أحدثتم عادة تُذَلُّون بها بين العرب وأنتم أهل بيت الله والناس لكم تبعٌ..)، تلك الكلمات وقعت في قلوب قريش، فاستشعرتْ مكانتها بين العرب، وخافت أن يُنتقَصَ منها شيءٌ، فاستجابت لنداء الأخوَّة والنَّسب.
فكان الحل من هاشم بن عبد مناف أولًا بتدخُّل الأغنياء لحل المشكلة مؤقتًا؛ حيث دعاهم لتقسيم أموالهم مع فقرائهم حتى تساوى فقيرهم مع غنيهم، وبعد ذلك علَّمهم أصول التجارة وأرشدهم لرحلة الشتاء والصيف إلى اليمن والشام، وبذلك يكون قد أعطاهم السمكة والسنارة معًا، فالمثل الصيني يقول: (لا تعطني سمكة، ولكن علِّمني كيف اصطاد)، وهو مثل غير دقيق، فهناك حالات لا بد لها من حل مؤقت وآخر بعيد المدى.
ولكن لماذا تُقدم تلك العوائل على المقابر الجماعية بعيدًا وعلى انفراد، إنه تصرُّف يدعو للفضول، وحقيقة جعلني الأمر أحاول فَهم تلك الظاهرة المنقرضة، فوجدت عدة احتمالات للأمر، أولها أنه نوع من الاستسلام والرغبة في الخلاص، وثانيها أن ذَهابهم لساحات الموت هو إعلان عن وصولهم لمرحلة الانهيار للفتِ الموسرين أنهم على شفا جُرف هارٍ، وأن عليهم إدراكهم وإنقاذهم بعد أن يئسوا وهم بالقرب منهم يتضوَّرون جوعًا، كما أن فيه انفصالًا لتلك الفئات عن مجتمعهم، كنوع من خيبة الأمل وشعورهم بالخِذلان، فأرادوا الابتعاد عنهم؛ لأنهم لم يلمسوا منهم حسن الجيرة أو قُرب النَّسب، أو قد يكون بسبب عزة نفوسهم، ولذلك اختاروا ألا يرووا في حالة الشدة، وخاصة أنهم شارفوا على الموت.
والسبب الأقوى هو وضْع قبيلتهم في موقف مُحرج مع القبائل الأخرى؛ حيث تركتهم للجوع والموت، وهو ما يفسِّره قول هشام: ((أنتم أحدثتم عادة تُذَلُّون بها بين العرب).
هذه حادثة غابرة قد نجد في عصرنا الحديث مشابهًا لها، ممن اعتفروا وابتعدوا عن الحياة بسبب ظروفهم القاسية، هؤلاء ماتت أحلامهم، وتلاشت طموحاتهم، وانهدَّت عزائمهم تحت خيم الاعتفار، لماذا نتركهم يموتون بصمت، ولماذا نتركهم للموت يمتصهم يومًا بعد يوم، فموتهم البطيء أشد إيلامًا من موتهم السريع.
ابحثوا فيمن حولكم وتحسَّسوا، فهناك أناس قد اعتفروا، فعزة أنفسهم وإظهار تماسكهم يخفي أوجاعهم، أدركوهم قبل أن يتمكَّن اليأس منهم، ويجهز عليهم، وقتها سيخرجون من خيمهم حفاة بثياب مهترئة؛ ليناموا تحت الجسور، ويَهيموا على وجوههم في الطرقات، وقتها لن تستطيعوا إنقاذهم؛ لأنهم أصبحوا جسدًا بلا رُوحٍ!
____________________________________________________
الكاتب: أمين محمد عبدالرحمن
- التصنيف: