من منطلقات العلاقات الشرق والغرب (التنصير- البدايات)

منذ 2022-01-26

نواةَ العلاقة بين النصرانية والإسلام، حول طبيعة المسيح عيسى ابن مريم - عليهما السلام

عندما قَدم وفد من نصارى نجران إلى المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم كانت بينه وبينهم مناقشات وحوار وحِجَاج، انصرف الوفد بعدها فاختلفوا في قبول الرسالة، فمنهم من عاد وآمن بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ومنهم من بقي على نصرانيته[1].

 

ويُعَدُّ هذا الموقفُ والموقفُ الذي تم في الحبشة بين النجاشي أصحمةَ ومهاجرةِ المسلمين - نواةَ العلاقة بين النصرانية والإسلام، التي تجسدت في هذا الحوار والنقاش الذي دار حول طبيعة المسيح عيسى ابن مريم - عليهما السلام[2].

 

منذ ذلك الحينِ والحوارُ بين المسلمين وغيرهم قائمٌ؛ مصداقًا لأمر الله تعالى المسلمين إلى الحوار في قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} [آل عمران: 64].

 

ومن أشكال الحوار بين النصرانية والإسلام ذلك المفهوم القديم المتجدد في دعوة غير النصارى إلى النصرانية، واصطلح عليه باسم التنصير، ويسميه البعض بالتبشير، ولكنه إلى التنصير ألصق[3]،فقام لهذا رجال ونساء منصرون يجوبون البلدان مدنها وقُرَاها وأريافها، يدعون الناس إلى اتباع يسوع المسيح ابن مريم - عليهما السلام - على أنه ابن الله، أو أنه ثالث ثلاثة، أو أنه هو الإله المخلص الشافي، يدعون إلى ذلك من دون أن يكونوا جميعًا في عمق إيمانهم على اقتناع تام بما يدعون إليه.

 

وعندما يعملون في هذا المجال في مجتمع مسلم يتعرفون على عقيدة المسلمين القائمة على التوحيد - وليس الاتحاد - فيجدون الأمان الروحي الذي يبحثون عنه، فلا تلبث طائفة منهم طويلًا في البحث والدرس والقراءات حتى يعلنوا إسلامهم ويتخلَّوْا عن الحملات التي يقودونها أو يشاركون فيها،ومن هؤلاء مَن يتحول إلى داعية إلى الإسلام، محاولًا بنهجه الجديد أن يكفِّرَ عن جهوده في التنصير بعد أن تبين له الحق.

 

ولم تعُدْ هذه الفكرة في التحول تمثل حالات فردية، ولكنها أضحت ظاهرة يمكن رصدها وبحثها والكتابة عنها،ولا يقتصر الأمر على المنصرين العاديين، بل إن القسس أنفسهم أقبلوا على الإسلام، ليس في الماضي فحسب، بل إن هذه الظاهرة تتجدد إلى يومنا هذا،ولا يكتفي القسس بالتحول إلى الإسلام ونبذ النصرانية، ولكنهم بحُكْم ما هم عليه من مرتبة دينية يسعون إلى كشف بعض أسرار النصرانية، وما يدور في مجتمع الرهبان والكهان والراهبات، مما يزيد من الابتعاد عن النصرانية، وبالتالي الاقتراب من الإسلام[4].

 

ويستمر هذا الشكل من أشكال الحوار، الذي تتجلى فيه هداية الحيارى إلى الدين الحق إذا ما لاحظنا أن ارتداد المسلمين من خلال هذا الحوار يكاد يكون معدومًا؛ نظرًا لقوة السلاح العقدي لدى المسلمين، الذي يحيِّرون به محاوريهم بما في ذلك إيمانهم بالمسيح عيسى ابن مريم - عليهما السلام - وبمريم الصِّدِّيقة - عليها السلام - وبالنصرانية دينًا منزلًا على عيسى ابن مريم - عليهما السلام - وبالإنجيل كتابًا منزلًا على عيسى ابن مريم - عليهما السلام - وأن القرآن الكريم قد أفرد سورة باسم مريم - عليها السلام - وأنه قد ورد ذكر لعيسى - عليه السلام - في القرآن الكريم أكثر من ورود محمد صلى الله عليه وسلم،يقدِّم المسلمون هذا السلاح العقدي دون أن يتأثروا هم بما لدى الآخر من مقدمات خاطئة، تقوم عليها نتائج خاطئة، مما يؤدي إلى تخلي الآخر عن هذه المقدمات والنتائج والوصول إلى الأمن العقدي باعتناق الإسلام.

 

ولا بد من التركيز على هذا الحوار والإكثار منه؛ لما فيه من فوائد عديدةٍ، يأتي منها تجلية الإسلام وتخليصه مما ألحقه به الآخر وبعض أهله من تشويه، ثم يأتي منها هداية الآخر إلى دين الله، إن هو رغب في ذلك.

 


[1] انظر: ابن قيم الجوزية، الإمام المحدث شمس الدين أبو عبدالله محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي،زاد المعاد في هدي خير العباد/ حقق نصوصه وخرج أحاديثه وعلق عليه شعيب الأرناؤوط وعبدالقادر الأرناؤوط - 5 مج - بيروت، مؤسسة الرسالة، 1399هـ/ 1978م - 3: 629 - 638.

[2] انظر: محمد بن فارس الجميل،الهجرة إلى الحبشة: دراسة مقارنة للروايات - مرجع سابق - ص 70 - 80.

[3] انظر: محمد عثمان صالح،النصرانية والتنصير أم المسيحية والتبشير: دراسة مقارنة حول المصطلحات والدلالات - المدينة المنورة: مكتبة ابن القيم، 1410هـ/ 1989م - ص69.

[4] انظر: محمد بن ناصر الطويل،إسلام القساوسة والحاخامات - الرياض: دار طويق، 1424هـ - ص،وانظر أيضًا: محمد عزت الطهطاوي،لماذا أسلم هؤلاء؟: قساوسة ورهبان وأحبار مستشرقون وفلاسفة وعلماء - القاهرة: مكتبة النافذة، 2005م - ص 194.

_______________________________________________
الكاتب: أ. د. علي بن إبراهيم النملة