حقوق المسنين في الإسلام

منذ 2022-01-27

رعاية المسنين في الإسلام نموذج أمثل للتكافل الاجتماعي؛ فقِيَمُنا قيمٌ إسلامية أصيلة، ترحم الضعيف والصغير، وتوقر الكبير، وتحترم العالم والسلطان، وقيم غيرنا من غير المسلمين قيم غربية غريبة، تفككت أسرهم، فلا يكاد الابن يعرف أباه أو أمه بمجرد أن يبلغ الحلم..

لقد عُني الإسلام بمرحلة الشيخوخة، وهي مرحلة طبيعية من مراحل حياة الإنسان، والشيخوخة مرحلة ضعف؛ كما قال تعالى: ﴿  {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ}  ﴾ [الروم: 54]، فالأيام ومُضيُّ الأعوام وعوامل النحت تعمل عملها في الإنسان؛ وقد عبَّر عن ذلك نبي الله زكريا حينما قال: ﴿  {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا}  ﴾ [مريم: 4]، فهذه طبيعة الإنسان، أن يَهِنَ عظمه، وتضعف قوته وحيلته، ويفتقر إلى معونة غيره.

 

ومن الشيخوخة مرحلة متأخرة سماها القرآن الكريم أرذل العُمُر؛ قال تعالى: ﴿  {وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا}  ﴾ [الحج: 5]، وأرذل العمر كما قال ابن عباس: أردؤه، ولقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم بالله من أمور خمسة، فقال: (( «اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجُبن، وأعوذ بك أن أُرَدَّ إلى أرذلِ العُمر، وأعوذ بك من فِتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر» ))؛ [رواه البخاري]، فاستعاذ صلى الله عليه وسلم بالله من أن يرد إلى أرذل العمر فيَنسى بعد تذكُّر، ويَضعُف بعد قوة، ويصبح كَلًّا على غيره.

 

وبنتا الرجل الصالح شعيب ﴿  {قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ}  ﴾ [القصص: 23]؛ أي: فهذا الحال الملجئ لنا إلى ما ترى؛ فأبونا شيخ كبير لا قوة له على السقي؛ فلذلك احتجنا نحن إلى سقي الغنم، فليس فينا قوة نقتدر بها، ولا لنا رجال يزاحمون الرعاء.

 

وإخوة يوسف ﴿ {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} ﴾ [يوسف: 78]، قالوا مستعطفين ليوفوا بعهد أبيهم: إن له أبًا شيخًا كبيرًا؛ أي: كبير القدر، يحبه ولا يطيق بُعْدَه.

هذا شيء من شأن كبير السن وقَدْره في كتاب الله تبارك وتعالى.

 

نعم عباد الله، لقد جاء دين الإسلام بخُلُقِ البر والإحسان للشيوخ وكبار السن، ورعاية حقوقهم، وتعاهُدِهم، وعدَّ هذا الأمر من أعظم أسباب التكافل الاجتماعي ومن جليل أعمال البر والصلة؛ ذلك أنه عندما يتقدم العمر ويهن العظم ويشتعل الرأس شيبًا - يحتاج الكبير إلى رعاية خاصة، واحترام وتبجيل، وحسن صحبة بالمعروف؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((جاء شيخ يريد النبي صلى الله عليه وسلم، فأبطأ القوم عنه أن يوسعوا له، فقال صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا» ))؛ [ (رواه الترمذي، وقال : حديث حسن صحيح) ].

 

الشيوخ والكبار لهم فضلٌ في الإسلام، ولهم حقوق وواجبات تحفَظ قدرهم؛ فالخير والبركة في ركابهم، والمؤمن لا يُزاد في عمره إلا كان خيرًا له، وفي الحديث: (( «... وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرًا» ))؛ (رواهما مسلم) .

 

وكبار السن الصالحون خير الناس؛ فعن عن عبد الله بن بُسْرٍ الأسلمي -رضي الله عنه- مرفوعاً: (( «خير الناس من طَال عُمُرُه، وحَسُنَ عَمَلُهُ» ))؛ لأن من طال عمره، ازداد علمه وإنابته ورجوعه إلى الله عز وجل؛ فالشيخوخة موجبة للخير والزهادة في الدنيا.

 

دخل سليمان بن عبد الملك مرة المسجد، فوجد في المسجد رجلًا كبير السن، فسلَّم عليه وقال: يا فلان، تحب أن تموت؟ قال: لا، قال: ولمَ؟ قال: ذهب الشباب وشرُّه، وجاء الكبر وخيرُه، فأنا إذا قمت قلت: بسم الله، وإذا قعدت قلت: الحمد لله، فأنا أحب أن يبقى لي هذا.

 

إجلال الكبير من خلال احترامه وتوقيره؛ فعن أبي موسى أنه صلى الله عليه وسلم قال: (( «إن من إجلال الله تعالى: إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط» ))؛ [ (حديث حسن، رواه أبو داود) ].

 

فـ" إكرام ذي الشيبة المسلم"؛ أي: تعظيم الشيخ الكبير في الإسلام بتوقيره في المجالس، والرفق به، والشفقة عليه، ونحو ذلك، كل هذا من كمال تعظيم الله؛ لحرمته عند الله. [عون المعبود 13 / 132].

 

ويظهر ذلك التوقير والاحترام في العديد من الممارسات العملية الحياتية؛ فمن إجلال الكبير بدؤه بإلقاء التحية والسلام عليه؛ قال صلى الله عليه وسلم: (( «يسلِّم الصغير على الكبير، والراكب على الماشي» ))؛ [ (رواه البخاري) ].

 

ومن إجلال الكبير: الابتداء به وتقديمه في الأمور كلها؛ كالتحدث والتصدر في المجالس، والبدء بالطعام والجلوس، وغير ذلك، فالأولى في الصلاة أن يليَ الإمام مباشرةً كبار القوم وذوو المكانة والمنزلة العلمية والعمرية أهل العقول والحكمة؛ كما قال: صلى الله عليه وسلم (( «لِيَلِني منكم أولو الأحلام والنُّهى، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» ))؛ [ (رواه مسلم) ].

 

ومن إجلال الكبير: تقديمه في الكلام؛ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تحدث عنده اثنان بأمر ما، بدأ بأكبرهما سنًّا، وقال: كَبِّرْ كَبِّرْ.

 

وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( «أراني أتسوك بسواك، فجاءني رجلان، أحدهما أكبر من الآخر، فناولت السواك الأصغر منهما، فقيل لي: كَبِّرْ، فدفعته إلى الأكبر منهما» ))؛ [ (رواه مسلم) ].

 

ومن إجلال كبير السن في الحديث: مناداته بألطف خطاب وأجمل كلام، وليس من أدب الإسلام الاستخفاف بالكبير، أو إساءة الأدب في حضرته، أو رفع الصوت بحضرته أو في وجهه بكلام يسيء إلى قدره وعمره؛ روى الشيخان عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أنه قال: "لقد كنتُ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم غلامًا، فكنت أحفَظ عنه، فما يَمنعني من القول إلا أن ها هنا رجالًا هم أسن مني".

 

ومن إجلال الكبير: الدعاء له بطُول العمر في طاعة الله، والتمتُّع بالصحة والعافية، وبحسن الخاتمة، ومن بر الوالدين الدعاء لهما في حياتهما وبعد مماتهما؛ قال تعالى: ﴿  {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}  ﴾ [الإسراء: 24].

 

ومن إجلال الكبير: أن يعيش مكفول الحاجات المادية، يُوفَّر له غذاؤه ودواؤه، وملبسه ومسكنه، وأولى الناس بالاهتمام بهذا أسرته وأولاده؛ فكما ربَّاهم صغارًا، يجب أن يَكفلوه كبيرًا، فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان، ولا يجوز لأبنائه وذويه بحال أن يفرِّطوا في هذا الواجب، ولا أن يَمُنُّوا على والديهم بهذا؛ فهي نفقة واجبة وحق مؤكد.

 

وشكر الوالدين من شكر الله جل وعلا يقول: ﴿  {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ}  ﴾ [لقمان: 14]، والأبناء البررة، يحرصون على مراعاة كبرة والديهم، والجزاء من جنس العمل؛ فإنه وإن كان المرء قويًا الآن، فسيعود يومًا إلى ضعف وشيبة وقلة حيلة، فيحتاج إلى من يكرمه ويرعاه، فبرِّوا آباءَكم، تَبرَّكم أبناؤكم.

 

لقد أوصى القرآن بالوالدين، وخصَّ بالذكر حالة بلوغ الكبر؛ فقال تعالى: ﴿  {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}  ﴾ [الإسراء: 23، 24].

وكان أبو هريرة رضي الله عنه إذا أراد أن يخرج من بيته وقف على باب أمه، فقال: السلام عليك يا أمتاه ورحمة الله وبركاته، فتقول: وعليك السلام يا بني ورحمة الله وبركاته، فيقول: رحمك الله كما ربيتِني صغيرًا، فتقول: رحمك الله كما بررتني كبيرًا، وإذا أراد أن يدخل صنع مثله.

 

معاشر الأبناء والشباب، ليس من البر قطيعة الوالدين وهجرهما، وإسلامهما للخادم أو للوحدة الموحشة، فالإنسان ليس مجرد مخلوق يأكل ويشرب، الإنسان أكبر من ذلك؛ فله أشواق وطموحات وحقوق أدبية، ومن حق الأب والجد أن يعيش مع أولاده وأحفاده، ومن حق الأحفاد أن يفيدوا من تجارب جدهم، وأن يؤنسهم، ويؤنسوه.

 

إن رعاية المسنين في الإسلام نموذج أمثل للتكافل الاجتماعي؛ فقِيَمُنا قيمٌ إسلامية أصيلة، ترحم الضعيف والصغير، وتوقر الكبير، وتحترم العالم والسلطان، وقيم غيرنا من غير المسلمين قيم غربية غريبة، تفككت أسرهم، فلا يكاد الابن يعرف أباه أو أمه بمجرد أن يبلغ الحلم، وهام كل واحد على وجهه؛ ولذلك احتاجوا إلى أن يحتفلوا بعيد للأم، يوم في العام يتذكر الواحد منهم فيه أن له أمًّا، وغاية ما يفعل؟ يرسل بهدية، أو رسالة ود أو نحو ذلك، هذه هي حياتهم، يرمونهم في المصحات ودور المسنين، ويعيش أحدهم في وحدة وغربة، لا يتمتع فيها بأبناء ولا أحفاد، والإسلام لا يرضى للإنسان إلا أن يحيا كريمًا عزيزًا موقرًا.