من آداب وعبادات فصل الشتاء

منذ 2022-02-18

من سنة الله تعالي في خلقه، أنه يقلِّب الليل والنهار، وجعل الشمس والقمر آيتين، وجعل الزمان يتقلب بالناس ما بين حر وبرد، وغنى وفقر، وصحة ومرض، ولا يدوم أحد على حال إلا الله الواحد الأحد...

من سنة الله تعالي في خلقه، أنه يقلِّب الليل والنهار، وجعل الشمس والقمر آيتين، وجعل الزمان يتقلب بالناس ما بين حر وبرد، وغنى وفقر، وصحة ومرض، ولا يدوم أحد على حال إلا الله الواحد الأحد، قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190].

 

ونحن في فصل الشتاء بما يصحبه من ظواهر كونية من رعد وبرق وريح ومطر، وكل هذه آيات يجب أن نقف معها وقفة تأمل، لنأخذ منها الدرس والعظة والعبرة؛ قال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59].

 

وهكذا كان حال النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم مع تلك الظواهر؛ حيث تذكر السيدة عائشة رضي الله عنها حال النبي عندما يري غيمًا أو ريحًا، فتقول: (ما رأيت النبي مستجمعًا ضاحكًا حتى أرى لهواته[1]، إنما كان يبتسم وكان إذا رأى غيمًا أو ريحًا، عرف ذلك في وجهه، فقلت: يا رسول الله، الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عُرف في وجهك الكراهية، فقال: «يا عائشة، ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب؟ فقد عذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب، فقالوا: هذا عارض ممطرنا»[2]، كما حدث مع قوم عاد عندما رأوا الريح، فقالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [الأحقاف: 24، 25]، فالمسلم الحق يتأثر بهذه الظواهر الكونية وقدوته في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي كان حاله عند حدوث هذه الظواهر يقوم ويقعد ويدخل ويخرج، أما الكافر وأصحاب القلوب القاسية، فلا يتأثرون ولا يعتبرون؛ قال تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ} [الطور: 44]؛ أي: لو سقط عليهم من السماء من الآيات الباهرة "كسف"؛ أي: قطع من العذاب كبيرة، "يقولوا سحاب مركوم"؛ أي متراكم كالعادة، فلا يبالون بما رأوا من الآيات ولا يعتبرون، فلا داء لهم إلا العذاب.

 

وكان أصحاب رسول الله الكرام ومن جاء من بعدهم يتدبرون هذه الآيات ويخافون من تلك الظواهر، فقد تزلزلت الأرض على عهد سيدنا عمر بن الخطاب، فقال: أيها الناس، ما كانت هذه الزلزلة إلا عن شيء أحدثتموه، والذي نفسي بيده إن عادت لا أساكنكم فيها أبدًا[3].

 

وفي عهد عمر بن عبدالعزيز، حدث رعد وبرق شديد وظلمة عظيمة، فخرج على الناس خطيبًا، وقال: أيها الناس إن الله يستعجلكم؛ "أي بالتوبة"، فقولوا كما قال يونس عليه السلام: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87]، وقولوا كما قال آدام عليه السلام: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]، ويروى عن أبي سليمان الداراني رحمه الله، كان إذا نزل في زمانه الثلج يبكي بكاءً شديدًا، فيقولون: يا أبا سليمان، لِمَ كل هذا البكاء؟ يقول: تذكرت يومًا تتطاير فيه الصحف تطاير الثلج عليكم، هكذا كان حال الصحابة والسلف الصالح رضوان الله عليهم، يتعاملون مع هذه الأحداث والآيات بقلوب خائفة وجلة تتأثر وتَعتبر.

 

وعلَّم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه كيف يتعاملون مع هذه الظواهر عند حدوثها بأن يفزعوا إلى ذكر الله والدعاء والصلاة والصدقة، فقد كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم مات ابنه إبراهيم، فقال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم، فخطب النبي صلى الله عليه وسلم في الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما آيتان من آيات الله، يخوِّف الله بهما عباده، فإذا رأيتم ذلك فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم[4]، فالمطلوب منا أن نفزع إلى الصلاة والذكر والدعاء والتكبير.

 

 

من عبادات الشتاء:

مع أن الشتاء فيه من الظواهر والآيات التي تخيف المؤمن، إلا أنه فرصة عظيمة لأداء بعض العبادات المنسية أو المتكاسل عنها، فالشتاء ربيع المؤمن يفرح بقدومه؛ ليغنم الأجر والثواب، فقد كان عبدالله بن مسعود يقول: مرحبًا بالشتاء تنزل فيه البركة؛ أي: المطر، ويطول فيه الليل للقيام، ويقصر النهار للصيام، ومن العبادات المستحبة في فصل الشتاء:

1- عبادة إسباغ الوضوء على المكاره: فالبعض منا يتكاسل عن الصلاة في الشتاء خوفًا من الوضوء، ولا يعلم أن من أعظم العبادات خاصة في الشتاء، إسباغ الوضوء على المكاره؛ أي إتمامه وإكماله؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع الدرجات» ، قالوا: بلى يا رسول الله، «قال إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط فذلكم الرباط»[5].

 

2- عبادة الصوم: وهو من العبادات التي يتكاسل عنها بعض المسلمين، رغم قصر اليوم وبرودة الجو في الشتاء، بل هي الغنيمة الباردة؛ كما قال سيدنا أبو هريرة: (ألا ادلكم على الغنيمة الباردة الصيام في الشتاء والقيام)، ويقول الحسن البصري رحمه الله: (الشتاء ربيع المؤمن، طال ليله فقامه، وقصر نهاره فصامه، ويعلق ابن رجب على مقولة الحسن البصري، فيقول: (الشتاء ربيع المؤمن؛ لأنه يرتع في بستان الطاعات، ويسرح في ميادين العبادات، ويتنزه قلبُه في رياض الأعمال الميسرة فيه).

 

3- عبادة قيام الليل: ليل الشتاء طويل فلا تضيعه بالغفلة أو بكثرة النوم، أو الجلسات التي لا طائل من ورائها، فقد بكى الصحابة والتابعون والصالحون عند الموت على فراق قيام الليل، حتى قال أحدهم: "لولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا"، أيها الحبيب الغالي تذكَّر أن دقائق الليل غالية فلا ترخصوها بالغفلة.

 

4- عبادة الدعاء: والدعاء من أعظم العبادات، بل هو العبادة كما صح عن رسول الله: «الدعاء هو العبادة»[6]، وفي الشتاء علَّمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الريح التي تعصف من روح الله، تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب، فإذا رأيتموها فلا تسبوها ولكن قولوا: «اللهم إنا نسألك خيرها وخير ما فيها، وخير ما أُرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به»[7]، فإذا نزل المطر علَّمنا النبي أن نقول: «اللهم صيبًا نافعًا»؛ أي للبلاد والعباد، فإذا اشتد المطر حتى خيف منه حصول الضرر، نقول: (اللهم حوالينا لا علينا، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الأشجار، اللهم اجعلها سقيا رحمة لا سقيا عذاب)[8]، واعلم أخي الحبيب أن الدعاء مستجاب عند نزول المطر بإذن الله، إذا ما اتقى العبد ربه عز وجل وتحرَّى الحلال، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اطلبوا إجابة الدعاء عند التقاء الجيوش، وإقامة الصلاة ونزول المطر»[9].

 

 

من آداب الشتاء:

ومن آداب الشتاء الأخذ بالأسباب بالرخص، خاصة في أحكام الوضوء والصلاة من المسح على الخف والجورب، وكذلك يجوز الجمع بين الصلوات في البرد الشديد والمطر الشديد، ويجوز أن يصلي المسلم في رحله وبيته عند المطر الشديد.

 

ومن الآداب أيضًا مواساة الفقراء والأيتام بما يحتاجونه من أدوات التدفئة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادِّهم وتعاطفهم وتراحمهم، مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»[10].

 

ومن الآداب عدم ترك نار التدفئة مشتعلة في البيت عند النوم، فقد حذَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك، فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد جاءت فأرة فأخذت تجر الفتيلة فجاءت بها فألقتها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخُمرة التي كان قاعدًا عليها، فأحرقت منها مثل موضع الدرهم، فقال صلى الله عليه وسلم: «إذا نِمتُم فأطفئوا سُرجكم، فإن الشيطان يدل مثل هذه على هذا فتَحرقكم»[11].

 

ولَمَّا قيل لرسول الله: احترق بيت بالمدينة في الليل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما هذه النار عدو لكم، فإذا نمتم فأطفئوها»، وهكذا كان النبي حريصًا على إرشاد أمته على كل خير، ويحذِّرهم من كل شر، ومن ذلك إطفاء النار وإغلاق ينابيع المياه، والتأكد من عدم وجود ما يمكن أن يؤذي عند الغفلة.

 

ومن الآداب أيضًا بل من السنن أن تعرض نفسك للمطر، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك؛ كما جاء في حديث أنس بن مالك، قال: (أصابنا ونحن مع رسول الله مطر، قال: فحسر رسول الله ثوبه؛ "أي كشفه" حتى أصابه من المطر، فقلنا: يا رسول، لم صنعت هذا؟ قال: «لأنه حديث عهد بربه تعالى»[12]، وعن ابن عباس رضي الله عنه أن السماء أمطرت فقال لغلامه: (أخرِج فراشي ورحلي يصيبه المطر، فقال أبو الجوزاء لابن عباس: لم تفعل هذا يرحمك الله؟ قال: أما تقرأ قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} [ق: 9]، فأحب أن تصيبه البركة فراشي ورحلي، وكان سيدنا علي رضي الله عنه وأرضاه، إذا أمطرت السماء خرج، فإذا أصاب صلعته الماء مسح رأسه ووجهه وجسده، وقال: (بركة نزلت من السماء لم تمسها يدٌ، ولا سقاء).

 

وفي النهاية نؤكد أن هذه الظواهر والآيات نرى فيها قدرة الله سبحانه وتعالى، وضعف الإنسان، فقد يأذن بالريح أن تدمر البلاد وتقلع البيوت في غمضة عين، الله قادر على زلزلة الأرض زلزلة تهدم كل ما فوقها، الله قادر على إنزال الماء من السماء، فيغرق الأرض وما فوقها، فكل هذا يحملنا على زيادة الخوف من الله تعالى.

 

نسأل الله ألا يُهلكنا بعذابه، وصلِّ اللهم وسلم على سيد الخلق وحبيب الحق محمد، وعلى أهله وصحبه وسلم.

 


[1] اللهاة: اللحمة المشرفة على الحلق، وجمعها لهوات.

[2] رواه البخاري ومسلم.

[3] رواه بن أبي شيبة في مصنفه.

[4] رواه مسلم وصححه الألباني.

[5] رواه مسلم.

[6] رواه أحمد في المسند، والبخاري في الأدب المفرد.

[7] رواه الترمذي.

[8] رواه الترمذي.

[9] حسَّنه الألباني في السلسة الصحيحة..

[10] رواه مسلم وأحمد وغيرهما.

[11] رواه أبو داود في سننه.

[12] رواه مسلم

__________________________________________________
الكاتب: عصام محمد فهيم جمعة