الحث على كسب الحلال والبعد عن الكسب الحرام
إن من نعمه سبحانه تمكينه لعباده في الأرض وتهيئته لهم من أنواع الرزق وطيب الثمار ما يقتاتون به وتتغذى به أبدانهم ليتناولوا من الطيب المباح ويحمدوا الربَّ الكريم ويشكروه على منّه وعطائه وفضله قال الله تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُون}
معاشر المؤمنين عباد الله اتقوا الله فإنّ من اتقاه الله وقاه وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه ثم اعلموا رعاكم الله أن نعم الله عز وجل علينا كثيرة لا تحصى عديدة لا تستقصى وإن من نعمه سبحانه تمكينه لعباده في الأرض وتهيئته لهم من أنواع الرزق وطيب الثمار ما يقتاتون به وتتغذى به أبدانهم ليتناولوا من الطيب المباح ويحمدوا الربَّ الكريم ويشكروه على منّه وعطائه وفضله قال الله تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُون} [الأعراف: 10]، والواجب على المسلم في هذا الباب أن يعي هذه الحقيقة جيدا وأن يعلم أن الرب الكريم والرزّاق المحسن سبحانه هيأ في هذه الأرض وجوه المكاسب الطيبة وأنواع الأرزاق المباحة وهيأ لهم السبل يقول الله جل وعلا: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15]، وقف هنا أيها المسلم متأملا في ختم الله تبارك وتعالى لهذه الآية بقوله: {وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15] أي المرجع والمآب فأنت في هذه الحياة لك أمد محدود ووقت معدود من بعده تنتقل إلى الله عز وجل وتقف بين يديه سبحانه ويسألك عما قدمت في هذه الحياة وإن مما سيسألك الله عنه يوم القيامة مالك ومطعمك ومشربك يسألك عن ذلك كله إذا وقفت بين يديه وقد صح في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع» وذكر منها عن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه فيا أيها المسلم الراشد ويأيها المؤمن الناصح انصح لنفسك وأنت في هذه الحياة قبل الوقوف بين يدي الله جل وعلا وأعد للسؤال جوابا وأعد للجواب صوابا فإنك والله مسؤول أمام الله جل وعلا وإن من نعمة الله على عباده معاشر المؤمنين أن هيَّأ لهم أنواع المكاسب الطيبة ووجوه الأرباح المباحة وجعل أمر الحل بينا وأمر الحرام بينا وتأمل هذا فيما ثبت في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه وهومن صغار الصحابة رضي الله عنه وأرضاه وقد تحمل هذا الحديث على صغر سنه مما يدل على كمال حرص الصحابة صغارهم وكبارهم عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول «إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» .
عباد الله:
ما أعظم هذا الحديث وما أروعَ بيانَه وما أكمل ما فيه من نصح ودلالة وإرشاد وقد قسم النبي صلى الله عليه وسلم قسم فيه الأمور إلى ثلاثة أقسام قسم الأشياء إلى ثلاثة أقسام قسم حلٌّ بيِّنٌ أي يعرف حلَّه كلُّ مسلم ولا يشتبه أمره على أحد فهوحل بيِّن أي واضح حله لاشتباه فيه بين والقسم الثاني عباد الله وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بالحرام البين أي الواضح حرمته لكل أحد فلا يشتبه على مسلم حرمته وهذا يتناول أنواع المحرمات التي جاءت الأدلة في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم دالة على حرمتها مبينةً سوء خطرها وسوء مغبَّتها فهي أمور محرمة بيِّنٌ حرمتها وقسم ثالث عباد الله قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه مشتبه مشتبهٌ ليس على الناس كلهم وعلى المسلمين جميعهم وإنما هومشتبهٌ على كثير من الناس أمور مشتبهات لا يعلمها كثيرٌ من الناس جُهَال المسلمين وعوامهم ومن ليس عندهم علم ولا فقه ولا بصيرة في دين الله فإن أمثال هؤلاء تشتبه عليهم بعض الأمور وتلتبس عليهم بعض الأشياء فلا يدرون أهي حل بين أم حرام بين وهاهنا عباد الله يظهر مقام العلماء ومكانتهم الرفيعة ومنة الله عليهم بزوال الاشتباه واتضاح الأمور وعدم التباسها لا يعلمهن كثير من الناس أي أن من الناس من يعلمهنَّ وهم العلماء الراسخون والفقهاء المحققون الذين لا غنى للمسلمين عن نصحهم وبيانهم وسؤالهم واستفتائهم والاسترشاد بعلومهم وفقههم فما أعظم أثرهم على الناس وما أوسع نفعهم وكيف لا وهم ورثة الأنبياء.
عباد الله:
ولقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الطريقة السديدة والمسلك الرشيد عند اشتباه الأمور والتباسها إلى ماذا يصير الإنسان وماذا يفعل فقال عليه الصلاة والسلام فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه من اتقى الشبهات أي ابتعد عنها ولم يقاربها فإنه بذلك يستبرئُ لدينه أي فيما بينه وبين الله ويستبرئُ لعرضه أي ما بينه وبين الناس أي يطلب البراءة لدينه وعرضه وبهذا يعلم معاشر المؤمنين أن طلب البراءة للعرض والدين إنما يكون باتقاء الشبهات والبعد عنها أما عباد الله إذا كان الإنسان يقارف الشبهات ويستهين بها ويستخفُّ من شأنها فإنها يوم من الأيام ولابد ستنقله إلى الحرام البين وتوقعه في حظيرته كما قال عليه الصلاة والسلام «فمن انتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام»
أي أن الشبهات عباد الله تنقل من يقع فيها إلى الحرام البين فمن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه حمى الله عز وجل التي حرمها على عباده هي المحارم هي الأمور التي نهى عباده عنها والحصافة هنا عباد الله والكياسة والفطنة أن يكون العبد بعيدا عن المحرمات أشد البعد وبعيدا في الوقت نفسه عن الوسائل المفضية والأسباب المؤدية إلى الوقوع في الحرام ومن ذلك التهاون في الأمور المشتبهات.
عباد الله:
إن الفقه في هذا الباب تمس إليه الحاجة ولاسيما في هذا الزمان الذي اختلط فيه الحابل والنابل والتبست فيه كثير من الأمور على الناس والواجب على المسلم أن يطلب دائما وأبدًا البراءة لدينه وعرضه ليلقى الله عز وجل بحالة طيبة وببعد عن المحرمات وأسبابها ووسائلها روى الإمام أحمد في مسنده عن وابصة بن معبد رضي الله عنه قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال «جئتَ تسأل عن البر» ؟ قلت نعم يا رسول الله قال «استفت قلبك البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك» .
وروى الإمام مسلم عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: «البر حسن الخلق والإثم ما حاك في النفس وخشيت أوكرهت أن يطلع عليه الناس» وعندما تستريب أيها المؤمن من أمر عندما تستريب من أمر أهومن الحلال البين أن من الحرام البين فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك كما صح بذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ففي الترمذي والنسائي من حديث أبي محمد الحسن بن علي سبط رسول الله عليه وسلم رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» والحسن بن علي رضي الله عنه من صغار الصَّحابة وقد تحمّل هذا الحديث في صغره مما يدل على كمال حرص الصحابة صغارهم وكبارهم على العناية بالسنة ومعرفة الحلال والحرام والتّفقه في دين الله بينما واقع كثير من شباب المسلمين الآن وصغارهم عدم المبالاة بهذا الأمر والاكتراث به وهذه مصيبة عباد الله يجب أن نعالجها بالنظر إلى حال الصحابة ومقامهم مع دين الله تبارك وتعالى الصغار منهم والكبار يعتنون بهذا الباب غاية العناية ويهتمون به تمام الاهتمام استبراء لدينهم وعرضهم وتهيؤا للقاء الله عز وجل بعيدين عن المحرمات متعففين ومتقين للمشتبهات متناولين للمباحات حامدين الله عز وجل شاكرين على نعمه التي لا تعد وآلائه التي لا تحصى فالله جل وعلا يقول: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7] اللهم فقهنا في دينك وبصرنا بسنة نبيك صلى الله عليه وسلم ووفقنا اللهم للمال الطيب والكسب المباح وباعد بيننا وبين المحرمات ووفقنا لاتقاء المشتبهات واجعلنا إلهنا ممن يأكلون الطيبات ويحمدونك على نعمك ويشكرونك على آلائك ومننك إنك سميع الدعاء وأنت أهل الرجاء وأنت حسبنا ونعم الوكيل.
أما بعد: عباد الله:
وإن من كمال حال الصحابة في هذا الباب والصور عنهم في هذا كثيرة والنماذج في حالهم عديدة الدالة على كمال فقههم وحرصهم على الاستبراء للدين والعرض واتقاء المحرمات والحذر من المشتبهات الصور في ذلك كثيرة ومن الصور الرائعة والنماذج المؤثرة في هذا الباب ما رواه البخاري في صحيحه عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: كان لأبي بكر رضي الله عنه رجلٌ يأتيه بالخراج أي عبد له يخرج له خرجا وكان أبوبكر رضي الله عنه يأكل من خراجه فأتاه يوما بشيء فأكل منه فلما فرغ رضي الله عنه من أكله قال له ذلك الرجل أتدري من أين هذا؟ ثم قال الرجل هذا مالٌ أعطانيه رجل كنت تعاملت معه في الجاهلية بالكهانة وكنت لا أحسن الكهانة وإنما خدعته وتكهّنت له ثم إنه أعطاني هذا المال فأعطيتك منه فلما بلغ ذلك أبا بكر رضي الله عنه أدخل أصبعه في فيه واستفرغ جميع ما في جوفه رضي الله عنه وأرضاه انظروا إلى هذه الصورة عباد الله شيء دخل في جوفه على أصل الحل والإباحة ولما تبينت له الحرمة واتضح له حال هذا المال أخرجه من جوفه وتقيّأه فكيف عباد الله ممن يزدردون ويبتلعون أموالا يعرفون حرمتها ويتضح لهم عدم حلِّها وليل نهار يدخلونها في أجوافهم ويملؤون بها أمعدتهم وأمعدة أبنائهم وأهليهم ألا يتقون الله ألا يتقون الله عباد الله.
اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
عبد الرزاق بن عبد المحسن العباد البدر
عضو هيئة التدريس بالجامعة الاسلامية بالمدينة المنورة
- التصنيف: