تعظيم النص الشرعي

منذ 2022-03-06

من الخطأ والخطر تبرير الواقع والمبالغة في فقه التيسير بالأخذ بأي قولٍ والعمل بأي اجتهادٍ دون اعتبار الحجة والدليل مقصدًا مُهِّمًا في النظر والاجتهاد.

قال عَبد اللهِ بن عمرو رضي الله عنهما: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَصْحَابِهِ، وَهُمْ يَخْتَصِمُونَ فِي الْقَدَرِ، فَكَأَنَّمَا يُفْقَأُ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ مِنَ الْغَضَبِ، فَقَالَ: «بِهَذَا أُمِرْتُمْ، أَوْ لِهَذَا خُلِقْتُمْ؟! تَضْرِبُونَ الْقُرْآنَ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ؟! بِهَذَا هَلَكَتِ الأُمَمُ قَبْلَكُمْ»، قَالَ: فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو: مَا غَبَطْتُ نَفْسِي بِمَجْلِسٍ، تَخَلَّفْتُ فِيهِ عَنْ رَسُولِ اللهِ، مَا غَبَطْتُ نَفْسِي بِذَلِكَ الْمَجْلِسِ، وَتَخَلُّفِي عَنْهُ؛ أخرجه أحمد، وقال الألباني: حسن صحيح.

 

في هذا الحديث يبدو غضب النبي صلى الله عليه وسلم من جرأة الناس في تعاملهم مع النص الشرعي، وإصدار الأحكام والفتاوى جزافًا، وضرب النصوص بعضها ببعض.

 

{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116].

 

قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: (لا يجوز للمفتي أن يشهد على الله ورسوله بأنه أحل كذا أو حرمه، أو أوجبه أو كرهه، إلا لما يعلم أن الأمر فيه كذلك مما نص الله ورسوله على إباحته أو تحريمه أو إيجابه أو كراهيته، ليحذر أحدكم أن يقول: أحل الله كذا أو حرّم كذا، فيقول الله له كذبت لم أحل كذا، ولم أحرمه).

 

إن من المؤلم أن تتحول أحكام الدين وشريعة رب العالمين إلى كلأ مباح وجدار قصير يتسلقه متطفلون يحلون الحرام ويحرمون الحلال.. فتاوى فيها الجرأة على التقوُّل على رب العالمين، وما زال واقعنا يتمخض بفتاوى لم يقل بها مَن سلف، أو قيلت ولكن بلا أثارة من علم.

 

فتاوى هزيلة تتسارع الأفواه في نقلها، وتتسابق الفضائيات في عرضها، أضلَّتْ أقوامًا، وتشبث بها مَن في قلبه مرض. إن الفتوى في أحكام الدين ومسائل الحلال والحرام مرتقى صعب إذا ارتقاه الذي لا يتقنه ولا يعلمه زلت به نحو الحضيض قدمه.

 

وأحكام الدين لا يستفتى فيها إلا العلماء المعروفون بطول باعهم في العلم، تحصيلًا وتبليغًا، والمشهود لهم بدقة الفهم، ومعرفة حال المستفتين، ومآلات الفتوى، العلماء الذين يعظِّمون النص، فلا يلتفّون على الأحكام الشرعية بتعليلات وهمية، ولا يوردون على النصوص القطعية احتمالاتٍ جدليةً.

 

قال ابن سيرين: إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم.

 

مسائل الدين لا تؤخذ من المفكرين، ولا من المثقفين، فضلًا عن غيرهم من الأدباء والصحفيين، فضلا عن أن يخوض فيها تافهون ومنحرفون... مسائل الإفتاء هي من العلماء وإلى العلماء.

 

إن لم يكن للعلم دين يقـــوده   ***   تحرف عن نهج الهدى وتنكبا 

إن لم يكن للمرء دين مسيطر   ***   عليه تعدى طوره وتزببــــــــا 

 

إن تعظيم النص الشرعي - قرآنا أو سنة - ليس مجرد موقف وجداني فحسب، بل هو أساس يمتد أثره إلى كافة خطوات التعامل مع النصوص الشرعية.

 

إنَّ من أعظم الضلال الذي تقع به الفتنة إهمال النصوص الشرعية، وتحكيم أهواء البشر في نصوص الكتاب والسنة، وقد ظهر من يتعدى على الحرمات والفضيلة، ومن حشد نصوصًا لا يدري موضعها من الشرع، ولا يعرف صدر معناها من عَجزه، ولا يعلم بالناسخ والمنسوخ والمتقدم والمتأخر، تولّد لديه شريعة غير شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، ومن تكلم في غير فنه أتى بالعجائب!!.

 

ولا فرق بين من يورد نصوص الاختلاط قبل تمام الشريعة وفي الناس بقايا جاهلية تستوجب الانتظار، وبين من يورد أحاديث المتعة وأكل الربا وشرب الخمر قبل تحريمها مساق الجواز، وهذا عكْسٌ للإسلام وقلبٌ لتاريخ التشريع، وكأننا بمن يسلك هذا المسلك يأخذ تشريع العاشر من الهجرة وينقضه بالتاسع، وتشريع المدينة ينقضه بتشريع مكة، وكأن الإسلام بساط يُطوى، وعُرى تُنقض، ليظهر تحته بساط الجاهلية.

 

فمن الخطأ والخطر تبرير الواقع والمبالغة في فقه التيسير بالأخذ بأي قولٍ والعمل بأي اجتهادٍ دون اعتبار الحجة والدليل مقصدًا مُهِّمًا في النظر والاجتهاد.

 

بل إن الآثار وعمل الصحابة تبين أن الناس إذا تساهلوا في أحكام الله أنه يؤخذ فيهم بالأشد حتى يكفوا؛ لما تساهل الناس بالطلاق أمضى عمر بن الخطاب الثلاث بالواحدة، ولما دنا الناس من القرى والريف وفشا الخمر وانتشر، استشار عمر كبار الصحابة فزاد الحد فيه إلى ثمانين جلدة.

 

{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115].

 

فقد غدت كثيرٌ من أحكام الإسلام ومسلماته وثوابته حمى مستباحًا يخوض فيها كل متطفل ممن لم يشموا رائحة الفقه - فضلًا أن يجتهدوا فيه -، وإنك لتعجب حينما ترى متعالمًا يفتي باستباحة الدماء، أو كاتبًا لا يستطيع عد فروض الوضوء، يناقش إباحة الغناء! أو مغنية فاجرة تقرر السفور والاختلاط والفساد، أو جاهلًا يبيح الربا!

 

إنه لا فرق بين من يورد نصوص الاختلاط قبل تمام الشريعة وفي الناس بقايا جاهلية تستوجب الانتظار، وبين من يورد أحاديث المتعة وأكل الربا وشرب الخمر قبل تحريمها مساق الجواز، وهذا عكْسٌ للإسلام وقلبٌ لتاريخ التشريع، وكأننا بمن يسلك هذا المسلك يأخذ تشريع العاشر من الهجرة وينقضه بالتاسع، وتشريع المدينة ينقضه بتشريع مكة، وكأن الإسلام بساط يُطوى، وعُرى تُنقض، ليظهر تحته بساط الجاهلية.

 

حياة بلا دين حياة حقيـــرة   ***   تصرفها الأهواء والشهوات 

تجادل في مكر لتأييد باطل   ***   ودحض لحق أكدته ثقــات 

 

إن انتهاك الدين تشديدًا، أو تمييعَ أحكامه تهاونًا جرم عظيم وخطر كبير، إن دين الله عظيم وحمل ثقيل، {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5].

 

فتوى الدين تؤخذ من الراسخين في العلم الذين ينتهجون نهج الكتاب والسنة بعلم ودراية...

عبد العزيز بن حمود التويجري

دكتوراه في الفقه المقارن من المعهد العالي للقضاء ١٤١٢هـ. عضو هيئة التدريس بقسم العلوم الإسلامية بكلية الملك عبدالعزيز الحربية.