لا تجعلهم نسخة منك بل أفضل نسخة منهم
ولكن عندما جلست وتأملت وجدت أن كل ما تمنيته كانت أحلامي أنا لا أحلامهم، أهدافي أنا لا أهدافهم، شغفي وحبي أنا لا شغفهم وحبهم، ولذلك كنت أبني قصورًا من الرمال سرعان ما تُهدم
كان حلمًا يكبر داخلي كل يوم، وكلي أملٌ أن أرى أبنائي دروعًا تحمي الأمة، كل منهم يقف على ثغرٍ من ثغور الإسلام، القرآن في قلبه، وطلب العلم الشرعي يجري في دمه، وأرسم لهم في مخيلتي مواصفات وصفات معينة جعلتُها مقياسًا لنجاحي في تربيتهم كنموذجٍ إسلامي متدين صحيح حسب وجهة نظري.
حتى إذ دارت الأيام إذا بأحلامي تتحطم على صخور رفضِ الأبناء تنفيذ آمالي بالصورة التي أردت، فما كان يصل منها إلى شاطئ الواقع إلا القليل مما تمنيت؛ يرفضون أن يحضروا دروس من اخترتهم من الشيوخ، ولا يجدون المتعة في حفظ ما جمعته لهم من المتون، ولا فيما أعددت لهم من العلوم.
يا له من شعور مؤلم ومحبط! ترى هل الخطأ مني أم منهم؟ أكانت المشكلة بسببي أم هم السبب؟
ولكن عندما جلست وتأملت وجدت أن كل ما تمنيته كانت أحلامي أنا لا أحلامهم، أهدافي أنا لا أهدافهم، شغفي وحبي أنا لا شغفهم وحبهم، ولذلك كنت أبني قصورًا من الرمال سرعان ما تُهدم؛ لأنها ليست على أساسٍ متين ينبع من رغبتهم وعزيمتهم.
أدركت أني ما قرأت السيرة بشكل صحيح، لم أعي دروس قدوتي ورسولي محمد صلى الله عليه وسلم جيدًا، عندما كان يرى ميول ومواهب صحابته ثم يوجههم ويرشدهم لينطلقوا في المجال الذي ميزهم الله به؛ فهذا النبي صلى الله عليه وسلم «يوضح بدقة ما تميز به بعض صحابته فقال: « أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في دين الله عمر، وأصدقهم حياءً عثمان، وأقضاهم علي بن أبي طالب، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، ألا وإن لكل أمة أمينًا وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح» ؛ [صحيح على شرط الشيخين].
ولا ننسى فراسته صلى الله عليه وسلم مع زيد بن ثابت، فقد أدرك موهبته في الفهم والحفظ، فقال له: « « يا زيد تعلَّم لي كتاب يهود، فإني والله ما آمن يهود على كتاب »، قال زيد: فتعلمت كتابهم، ما مرت بي خمس عشرة ليلة حتى حذقته، وكنت أقرأ له كتبهم إذا كتبوا إليه، وأجيب عنه إذا كتب» . [رواه الترمذي].
اكتشف في عبد الله بن عباس منذ صغره مدى اتساع أفقه وإدراكه، فقال صلى الله عليه وسلم: « اللهم فقِّه في الدين »، فأصبح فقيه الأمة وحبرها. بل وجد في أسامة بن زيد وهو شاب صغير صفات الفروسية والقيادة، فولاه قيادة جيش فيه كبار الصحابة وأمهر الفرسان.
وقد علمنا خالدًا سيفا مسلولًا من سيوف الله وما سمعنا أن له مكانًا في محاريب العلم.
إذا ليس المطلوب أن يتسابق جميع المسلمين في ميدان واحد فقط، بل لكل منهم ميدانه الذي يستطيع أن يبرع فيه، وإذا أردت أن أنفع الإسلام والأمة حقًا بأبنائي فما علي إلا أن أعرف موهبتهم وميولهم ثم أوجههم لها وأنميها.
لابد أن نعي وندرك أن زماننا غير زمان أبنائنا وتفكيرهم يختلف عن تفكيرنا، بل إن إجبارهم على فعل لا يميلون إليه قد يؤدي للعند والرفض بشدة ويأتي بعكس ما أردناه، فأهدم من حيث أردت أن أبني.
ثم إن مقاومتهم ورفضهم للسير على الطريق الذي رسمته لهم بحذافيره لا يعني أنهم قد حادوا عن الطريق، أو أنهم ضاعوا وابتلعتهم متاهات الحياة وزخارف الدنيا، ولا يعني أن أعيش الإحباط واليأس، ولكن أما يحب البعض أن يسمع القرآن بصوت الشيخ الحصري؟ وترتفع أرواح البعض إلى عنان السماء بصوت الشيخ عبد الباسط؟ بينما غيرهم لا يؤثر فيه إلا صوت شيوخ شباب من أمثال مشاري أو العجمي؟ فهل تغير القرآن باختلاف الشيخ؟ بالطبع لا، كذلك هناك من يؤثر فيه الترغيب وغيره لا يرتدع إلا بالترهيب، فلماذا نجبر أبناءنا على شيوخ بعينهم لأننا تربينا على أيديهم؟! وليس معنى أني حفظت القرآن في مدة زمنية معينة أن ابني عليه أن يحفظه في هذه المدة، وإنما قدرته في الحفظ تختلف عن قدراتي وقدرة إخوته، وهكذا.
ثم إذا كانوا يرفضون مجالس العلم لماذا لا أكون أنا شيخهم ومعلمهم؟ لماذا لا أنقل لهم ما تعلمته تارة بشكل مباشر، وأخرى بطريق غير مباشر؟ لماذا لا أحببهم في الدين وتعلمه لينقادوا إليه طائعين بدل أن أجرهم إليه مجبرين؟
ولكن هذا ليس معناه أن أتركهم بلا تعليم ولا تأديب، ولكن أختار ما يلائم شخصيتهم - سواء نوع العلم أو طريقة وأسلوب تعليمه - بل أضع لهم حدود ومعالم الطريق الذي يناسبهم، ثم نتفق على خطوط حمراء لا يمكن تجاوزها، وقواعد وأساسيات لا يمكن تخطيها مهما اختلفت الميول والأفكار؛ فلا بد من الحفاظ على الفروض، فليس لي أن أجبرهم مثلا على قيام الليل وإنما عليهم الحفاظ على الصلاة في وقتها - بل صلاتها في المسجد جماعة - مع تحبيبهم دوما في السنن وتذكيرهم بفضلها وثوابها وتشجيعهم عليها، وهكذا في بقية العبادات.
وهنا لابد من رسالة سريعة نوجهها للدعاة: خاطبوا الشباب بأسلوبهم وعقولهم وطريقة تفكيرهم؛ حتى تصلوا لقلوبهم، ويقبلوا على مجالسكم ودروسكم، نحتاج إلى دعاة على منهج صحيح بأسلوب عصري، نريد منكم أن تصلوا للشباب في كل مكان حتى ولو لم يأتوا إلى ساحات ومحاريب ومجالس الشيوخ، أن يرتبطوا بكم ويقبلوا عليكم حتى لو من خلال وسائل التواصل التي يحبون، وبأساليب الشباب التي يفهمون.
العبرة أن المسلم الحق لا يعرف فقط بمقدار ما حفظ من القرآن وتعلم من علوم الشرع فقط، وإنما بمقدار ما فهم وطبق، وليس المطلوب من كل المسلمين أن يتعمقوا في طلب العلم الشرعي، قال تعالى: {﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾} [التوبة: 122]، والباقي عليهم أن يتعلموا العلم الشرعي الواجب الذي لا يسع المسلم جهله من العقيدة الصحيحة وثوابتها، والعبادات وأحكامها، وإن كان تاجرا تعلم أحكام التجارة، وإن أراد الحج تعلم أحكام الحج، وإذا أراد الزواج تعلم أحكام الزواج والأسرة وهكذا.
نريد الطبيب والمهندس والمعلم والعامل والتاجر المسلم بحق، فإذا فعلنا ذلك مع أبنائنا نكون قد نجحنا النجاح الحقيقي.
هبة حلمي الجابري
خريجة معهد إعداد الدعاة التابع لوزارة الأوقاف بجمهورية مصر العربية
- التصنيف: