شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن

منذ 2022-03-17

إذًا فلنجمع في رمضان بين تعدُّد الختمات وبين القراءة بتدبُّر وتفكُّر، وليكن هدفنا أن نختم القرآن ثلاث أو أربع مرات في شهر رمضان

قال الله جل جلاله:  { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}  [البقرة: 185].

لقد امتاز شهر رمضان بأن الله عز وجل أنزل فيه القرآن، وفضَّله على سائر الشهور والعصور والأزمان، إنه شهر نزل فيه القرآن؛ ليعم الخير على جميع المسلمين، فنزول القرآن فيه هدى للناس عامةً وللمؤمنين خاصة، فمن يستمع إلى القرآن، وينصت له، سيجد فيه حلاوة وترقيقًا للقلوب، ولن تستطيع القرب إلى الله إلا بالقرب إليه بكلامه، قال خباب رضي الله عنه: تقرَّب إلى الله ما استطعت، فإنك لن تتقرب إليه بشيء أحب إليه من كلامه.

إن القلب الذي لا يجد حلاوة في تلاوة آيات الله، إنه لقلب غافل يشعر صاحبه بوحشة وجفاء بداخل قلبه، بل يظل ضالًّا لا يعرف طعم السعادة أبدًا، تضيق عليه الدنيا وتضيق عليه نفسه، وتكثر عليه فواجعُ الحياة، ويكون القلب كمن نُكتت فيه نقطة سوداء، فأصبح مظلمًا ومعتمًا، يسير في طرقات الحياة تائهًا وحائرًا على عكس القلب الذي امتلأ نورًا بكل حرف قرأه أو سمعه، بل وجد في تلاوة القرآن الأُنس، وتعايش مع كلماته، وأنصت لقرآن ربه، فجعل لنفسه وردًا ثابتًا من القرآن، وعددًا من الختمات في شهر الغفران، فلم يقرأ ويردد وكأنه يقرأ كتابًا عاديًّا، أو كانت قراءته كهز الشعر، بل كانت قراءته بتأدُّب وتدبر، واتخذ منه صاحبًا وملاذًا له، وحصَّن نفسه من فتن وابتلاءات الدنيا، وجعله شفيعًا له يوم العرض على رب العباد، فلم يغفل عن عِظَمِ الأجر والثواب؛ مما جاء في فضل تلاوة القرآن في سائر الشهور عامة ورمضان خاصة، فها هم الصحابة رضوان الله عليهم تعجَب من حالهم وكيف تعايشوا في شهر رمضان مع القرآن، وستجد البعض منهم كانوا إذا أقبل شهر رمضان تركوا مدارسة العلم، وأقبلوا على القرآن لِما عرفوا فيه من خير وثواب، فهذا الزهري رحمه الله كان إذا دخل رمضان يقول: إنما هو تلاوة القرآن، وإطعام الطعام.

وهذا هو حال نبيك عليه أفضل الصلاة والسلام في شهر رمضان، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في تلاوة القرآن في شهر رمضان اجتهادًا لم يُرَ مثله في غيره؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «"كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيُدارسه القرآن، فلَرسولُ الله حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة"» ؛ (صحيح البخاري).

والمقصود هو الاجتهادُ بذلك عن بقية الشهور، وإلا فالواجبُ أن نعتني بالقرآن طول العام، ولكن يسنُّ في رمضان أن نجتهد في قراءة القرآن، ولهذا كان جبريل يدارس النبيَّ صلى الله عليه وسلم القرآن في رمضان، وفي السَّنة التي تُوفِّي فيها النبي صلى الله عليه وسلم دارَسَه مرتين.

فانظُر إلى حالك مع القرآن، هل هو كحال الرسول وأصحابه، أم أنك ابتعدت عن منهج الإسلام وغلَّفت قلبك بالآثام؟ قال تعالى:  «قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ»  [آل عمران: 31]، فإن كان حب الله في قلبك أقوى من أي شيء على وجه الكون؛ فلن تستطيع أن تبعد ناظريك عن كتابه العزيز، ولو كانت طاعة ربك أهم من أي شيء في حياتك، لاستحييتَ من أن تترك حياتك تمضي بدون قرب من الله، سواء في رمضان أو غير رمضان، ستستحيي أن يمر يومك بل دقائقه بدون أن تنظر في كتابه.

معظم الناس في رمضان لا تستطيع ترك المصحف من يدها، فتراها مقبلةً عليه وعلى قراءته بشدة في المواصلات العامة، وفي أماكن العمل، في المنزل، وفي المسجد، تراهم يعددون من الختمات ولكن بلا فائدة؛ فقراءته ليس فيها تدبر أو تفاعل مع آيات الله، فيخرج من رمضان وكأنه لم يقرأ شيئًا، فلم تتفاعل نفسه مع آيات القرآن، ولم تلامس قلبه وكأنه كالآلة التي تعمل بضغطة إصبع وتنطفئ بضغطة إصبع.

ويا حسرتاه عندما يقرأ صحيفته ويظل يبحث عن ختماته التي عدَّدها، ولكنه لم يجدها؛ قال تعالى:  {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ}  [ص: 29]، وقال: { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا }  [محمد: 24]، لقد أنزل الله علينا القرآن للتدبر والعمل به لا لقراءته بقلب وعقل لاهٍ غافل، وإن العبد إذا قرأ الجزء أو الحزب بتدبر وعمِل به، خير له من أن يعدد الختمات بلا إدراك واستشعار منه لجمال وحلاوة كل آية، بل كل حرف، فهاجرُ القرآن يوم القيامة سيبكي من شدة تقاعسه عن تلاوة المزيد من آيات الله في الدنيا، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " «يقال لقارئ القرآن يوم القيامة اقرأ وارتقِ ورتِّل كما كنت ترتل في الدنيا؛ فإن منزلتك عند آخر آية تقرأها» "؛ (رواه أبو داود، وقال عنه الألباني: حسن صحيح).

احذر أخي وأختي في الله أن نعدِّد من الختمات بلا شعور منا وإدراك لجمال آيات الله، فكل آية رسالة ولتكن قراءتك كحال الصحابة؛ فهذا عكرمة بن أبي جهل: كان يفتح المصحف ويضعه فوق عينيه ويبكي ويقول: كلام ربي، كلام ربي، ولنقرأ ونتدبر القرآن كما كان يفعل الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فذات مرة قرأ عمر: { إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ } [التكوير: 1]، ولَما انتهى لقوله تعالى: {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ } [التكوير: 10]، خرَّ مغشيًّا عليه، وبعض السلف يقول أنه بقي في سورة هود ستة أشهر يتدبر فيها.

إذًا فلنجمع في رمضان بين تعدُّد الختمات وبين القراءة بتدبُّر وتفكُّر، وليكن هدفنا أن نختم القرآن ثلاث أو أربع مرات في شهر رمضان، ولنجعل لنا أوقاتًا ثابتة بعد كل صلاة نقرأ فيها جزءًا أو جزأين، ولا نكن ممن يجعلون همهم الانتهاء للوصول لآخر الآية، بل نرغم أنفسنا على قراءة المزيد كلما انتهينا، إنه كلام الله، وهو شفاء للصدور وطمأنينة وراحة، فالعمل به نجاة، وهجره يورث الحسرة، فلنقبل عليه ليكون لنا شفيعًا يوم الحساب ونورًا لنا وسط عتمة قبورنا؛ فبه يثقل ميزان العبد، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " «مَن قرأ حرفًا من كتاب الله، فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف» "؛ (رواه الترمذي)، هكذا ستخرج من شهر القرآن بفيض من الحسنات، فلا تكن هاجرًا له، لذا احرصوا على تدبُّر القرآن وفَهمه وحفظه، واحذروا هجره بتَرْك قراءته وتدبره، فهو سبب للحياة السعيدة في الدنيا والآخرة؛ قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}  [المائدة: 15، 16].

 

فاطمة الأمير

كاتبة أسعى للتغيير و الإصلاح، وهدفي الدعوة إلى الله، لدي بفضل الله العديد من المقالات وبعض الكتب منها: رمضان بداية حياة، هل يستويان؟!، حتى لا تغتال البراءة.