صهر الكذب المسبوك لتحليل فوائد البنوك
هذا مقال يهدف إلى الرد على أحد دعاة الفضائيات، وتفنيد كذبه وتدليسه على الأئمة الفقهاء، وفضح جرأته على اختلاق الكلام واختراع المذاهب، ونسبته بعد ذلك لأعلام الأمة، والتكلم فيما ليس له به علم، والله المستعان.
بسم الله الرحمن الرحيم، ربنا عليك توكلنا، وإليك المصير.
هذا مقال يهدف إلى الرد على أحد دعاة الفضائيات، وتفنيد كذبه وتدليسه على الأئمة الفقهاء، وفضح جرأته على اختلاق الكلام واختراع المذاهب، ونسبته بعد ذلك لأعلام الأمة، والتكلم فيما ليس له به علم، والله المستعان.
وقبل الولوج في الرد المفصل، أشير إلى بعض النقاط التي أراها ضرورية لتوضيح بعض الحقائق:
أولا: وحتى نكون واضحين، هذا المقال سطرته بدافع الغيرة على العلم ومنهجيته، وإعلانا بصوت مرتفع عن رفضي تطفل الأدعياء والدخلاء على مائدته، وتسورهم على حرمته، وهو واجب كل مسلم؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «من رأى منكم منكرا فليغيره..». (رواه مسلم في صحيحه) .
وبوضوح شديد أيضًا: ليس المقصود من هذا المقال بيان الرأي الفقهي في فوائد البنوك أو غيرها من المسائل ذات الصلة بها، لسببين:
السبب الأول: أنني لا أرى نفسي أهلا للإدلاء برأي في هذه المسألة وأشباهها، فللفتيا رجالها من العلماء الثقات في علمهم، الأمناء في قولهم، الغيورين على دينهم.
والسبب الآخر: أن هذه المسألة قُتلت بحثًا، وصدر فيها العشرات من الفتاوى من المجامع الفقهية في مصر والسعودية وغيرهما من البلدان الإسلامية، والمئات من الاجتهادات من الفقهاء المعتبرين في طول العالم الإسلامي وعرضه.
إذن فغرضي من هذا المقال ينحصر في مناقشات في منهج بحث المسألة، وطريقة الاستدلال لها، لا في حكمها من حيث الحل أو الحرمة، من خلال بيان الخطأ في نقل المذاهب، وفضح التدليس في الاستدلال، وبيان الكذب الذي يتقيؤه علينا ليل نهار شرذمة من المتصدرين ومقدمي البرامج الدينية، اللابسين ثوبي زور، الملقبين زورا وبهتانا بلقب شيخ أو داعية.
ثانيًا: ليس من شأن أحد شدا شيئا من العلم، أن يضيق ذرعا بالآراء المخالفة لمذهبه، ما دامت هذه الآراء صادرة عن علماء أو باحثين ابتغوا الوصول إلى الحق؛ فأتعبوا أنفسهم في البحث والدرس، وأخرجوا لنا شيئا يستحق أن تنفق وقتك في قراءته وتحصيله. ومن هنا فإن إنكارنا في هذا المقال ليس نابعا من أن أحدًا غيرنا اختار رأيا في مسألة على غير اختيارنا أو المذهب الذي نقلده، وإنما بسبب خروجه عن جميع آداب طالب العلم أو الباحث الموضوعي الأمين، ولجوئه إلى أساليب التمويه، والكذب، والخداع، بل اختراع الأقوال، وتقويل الأئمة ما لم يقولوه أو حتى يعرفوه.
ثالثا: اعترف الفقهاء أنفسهم بصعوبة بعض أبواب الفقه أكثر من غيرها، منها باب الحيض من أحكام الطهارة، وباب الربا من أحكام البيوع، ولهذا فحقيق بالباحث في مسائل الربا أن يتحلى بحذر الذي يمشي في حقل تتناثر فيه الأشواك، بل الألغام.
رابعًا: لا أعرف الشيخ -الذي كتبت هذا المقال للرد عليه- معرفة شخصية، ولا سبق لي أن تقابلنا، أو جرى بيننا أي نوع من التعامل، وكلامه في هذه المسألة اقترحه عليَّ اليوتيوب، فقبلت اقتراحه، وشاهدت المقطع المرئي، الذي حاز 196 ألف مشاهدة حتى الآن!!!
على أن اسم هذا الشيخ ليس في مقدمة أولوياتنا؛ لأنه ليس حالة فردية، بل ظاهرة بارزة طافحة في كل المجالات حولنا، موجودة بكثرة فيمن يتصدون للدعوة وجودا يكاد يخنقنا من شدة حصاره لنا، فكثير من الفضائيات لا تصدر إلا أشخاصا مختارين بعناية، يتشابهون جميعا في قلة العلم والحياء، ووفرة الوقاحة والغباء، يتكلمون في كل شيء، ويخوضون في أي مسألة.
وأغلب طلبة العلم الشرعي يعرفون أن الإفتاء توقيع عن الله سبحانه، وأن الكذب على الله أو رسوله ليس كالكذب على غيرهما، ولهذا جاء الوعيد الشديد لكل من تكلم في الدين بغير علم.
أنواع الربا
1- الغرض الأساس للمقطع المرئي الذي صوره هذا الشيخ: الكلام على مسألة فوائد البنوك، حيث قدم الشيخ لرأيه بتمهيد ذكر فيه الفرق بين نوعي الربا (ربا الفضل- ربا النسيئة) قبل أن يدلف إلى عرض حكم المسألة.
وحرصًا من الشيخ على الإيضاح لمشاهديه، فإنه لم يعرف كلا النوعين بطريقة الحد والرسم، بل اكتفى بالتعريف من خلال المثال، فعرَّف ربا الفضل بقوله: أن يعطيك أحدٌ مائة ألف، ويطلب منك أن تردها له مائة وعشرة بعد مدة.
كما عرف ربا النسيئة بقوله: أن يكون لك على أحد دين (عشرة آلاف جنيه مثلا)، فيحين موعده، فتذهب لاستيفائه، فيتعذر بعجزه، ويطلب منك إنظاره ثلاثة أشهر للسداد، فتقبل عرضه ولكنك تشترط عليه أن تصير العشرة آلاف عشرة آلاف ونصف ألف.
أقول: هذا أوانُ المَثَل: "أولُ الدَّنِّ دُرْدِيٌّ".
لأن كلا المثالين اللذين أوردهما الشيخ إنما هما لربا النسيئة، -وإن كانا أيضا يشتملان على الفضل- ولكنَّ الأجل أو المدة، أو التأخير ما دام دخل في مسألة التبادل التجاري يصبح الغلبة في التسمية لربا النسيئة، والمثال الأول الذي ضربه الشيخ تعريفا لربا الفضل فيه أجل ومدة؛ إذ إنه قال: (أن يعطيك أحد مائة ألف، ويطلب منك أن تردها له مائة وعشرة بعد مدة).
أما التمثيل الصحيح لربا الفضل المنفرد عن النسيئة، فيكون بالتفاضل في المعاملات الحالَّة الخالية من التأجيل إذا بيعت بجنسها، مثل: أن تعطي شخصا كيلة قمح وتأخذ منه كيلة ونصفا قمحا (وطبق ذلك على سلع أخرى كالأرز، والشعير، والتمر)، أو الدينار بدينارين مع التقابض الحال، أو الدرهم بدرهمين مع التقابض الحال.
وسوف نضرب صفحا الآن عن خلاف الفقهاء في تقسيم أنواع الربا، وتسمية كل نوع، لأن التطرق إليها يخرجنا عن المقصود.
ولقد كنت حتى هذا الموضع من المقطع أحسن الظن بهذا الشيخ، فقلت: لعله سها، أو نسى، أو ذهل، لأن الرجل يرتجل، إلا أن المفاجأة أنه أصر على هذا التعريف بعد دقائق قليلة، فقال في الدقيقة ( 9: 8 ): (ربا الفضل: أن يعطيك أحد مائة ألف، ويقول لك: بعد شوية تردهم لي مائة وعشرة).
والخطأ في التمثيل لكل نوع من أنواع الربا تمثيلا صحيحا، قد لا يكون شيئا خطيرا، ولكن المشكلة الكبرى أن الشيخ عرض لخلاف بعض الصحابة في حكم ربا الفضل، وأشار إلى أن ستة من الصحابة -على رأسهم ابن عباس- أجازوا هذا النوع من الربا اعتمادا على قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الربا في النسيئة".
ثم قام الشيخ رمضان وأسس على هذا الخلاف القول بجواز دفع المقترض الفوائد للبنوك؛ لأن هذه الفائدة من ربا الفضل المختلف فيه!!!
كذا قال وظلم نفسه، بل هذه ظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرج يده لم يكد يراها، ولله في خلقه شؤون، وسبحان من لا شريك له في ملكه.
إن الربا الذي روي إباحته عن ابن عباس وغيره من الصحابة هو ما كان يدًا بيد؛ وهو ما يتضح جليا من قول النووي: " ابن عمر وابن عباس كانا يعتقدان أنه لا ربا فيما كان يدا بيد، وأنه يجوز بيع درهم بدرهمين، ودينار بدينارين، وصاع تمر بصاعين من التمر- وكذا الحنطة وسائر الربويات- كانا يريان جواز بيع الجنس بعضه ببعض متفاضلا، وأن الربا لا يحرم في شيء من الأشياء إلا إذا كان نسيئة ". [شرح صحيح مسلم ج11، ص 23-24].
فأين هذا الربا من المثال الذي ضربه الشيخ الفضائي، وبنى عليه جواز إعطاء المقرض فوائد القرض للبنك؟ إن المعاملات في مسألة ابن عباس جميعها (حاااااااالّة)، (كاااااااااش)، يدا بيد، والمعاملة في مثال الشيخ قرض مع نسيئة.
ولنا الحق أن نسأل: هل يدري هذا الرجل ما يخرج من رأسه؟!.
تأثير ملاءة المقترض وفقر المقرض في حكم المسألة
2- ردد الشيخ في الدقيقة (43: 8) شبهة بعض العلماء الذين بحثوا المسألة، وفرقوا بين إقراض البنك والاقتراض منه، وذهبوا إلى أن الإيداع في البنك ليس تسليفا (قرضا)، ولكنه استثمار، لأن البنك ليس فقيرا حتى تسلفه، بل هو غني، غني جدا، وليس في حاجة إلى الاستلاف منك.
أ- والحق أن هذه حجة مراوغة، لأن العبرة في اعتبار المسألة قرضًا أو غيره هو في أسلوب المعاملة وآلية التعاقد والأثر المترتب عليها، لا لكون أحد الطرفين غنيا والآخر فقيرا، فهذا معيار (فقر المقرض وغنى المقترض) معيار ما أنزل الله به من سلطان، وليس هو مناط الحكم في مسألة القرض، فضلا عن أن الواقع يكذبه، فقد يلجأ الرجل للاقتراض ممن هو أقل منه غنى، ولا يمنع التفاوت في المستوى المادي بينهما من أن يسمى قرضا.
وهذه كتب المذاهب الفقهية قديمها وحديثها، وكتب الأئمة المجتهدين، لا يوجد بينها كتاب واحد، أو عالم واحد، وضع شرط غني أحد العاقدين، وفقر الآخر كي تسمى المعاملة قرضا، لا بطريق التصريح، ولا التلميح، ولا بطريق العبارة أو الإشارة.
وبقليل من الجدل: إذا كان الحال ما ذكروا، وكان البنك غنيًّا غير محتاج إلى أموال المودعين، فلماذا تدفع البنوك عشرات المليارات في الإعلان والترويج عن نفسها، ودعوة المودعين للتعامل معها، دعوة ملحة مستمرة حتى أنهم يذهبون بأرجلهم إلى عتبات البيوت؟
والحقيقة أن البنك التجاري بدون أموال العملاء يصبح صفرًا، لا يستطيع القيام بأي نشاط مصرفي.
ب- إن التكييف الفقهي لإيداع المودع أمواله لدى البنك يدلنا على أنه لا يخرج عن أحد احتمالات ثلاثة، وهي: أن يكون هذا الإيداع عقد وديعة، أو عقد إجارة، أو عقد، عقد قرض.
• أما أنه لا يصلح أن يكون عقد وديعة فلأن الوديعة عقد استئمان، تحفظ عند المستودع، وليس له الانتفاع بها، ولا تنتقل ملكيتها إلى المستودع، وهو غير ضامن لها إلا إذا فرط أو قصر في حفظها. وكل هذه الأحكام متفق عليها بينها الفقهاء قديما وحديثا، خلاف فيها.
ومن المعلوم أن البنك ينتفع بالودائع لديه، ويستهلكها في الإقراض لعملائه، وأنه ضامن لها في كل الأحوال.
• وأما أنه ليس عقد إجارة: فلأن الإجارة عقد على منافع تستوفي مع بقاء العين، وهي أمانة في يد المستأجر، وهو غير ضامن لها إذا لم يفرط. ومن المعلوم أن النقود لا يمكن الانتفاع بها إلا باستهلاك عينها، وأن البنك ضامن لها في كل الأحوال.
وأما كونها قرضا، فلأن القرض عقد ينقل الملكية للمقترض، وله أن يستهلك العين المقترضة، ويرد مثلها، وهو ضامن لها إذا تلفت أو هلكت.
فلم يتبق إلا أن تكون ودائع البنوك قروضا، لأن البنك يستهلك العين، ويرد مثلها عند الطلب. ولأنه ضامن للمال إذا تلف أو هلك.
ج- وإذا لم يقنع الشيخ بكلام الفقهاء، فليقنع بكلام القانون الوضعي، حيث نص القانون المدني المصري في المادة (726) على أنه " إذا كانت الوديعة مبلغا من النقود أو أي شيء آخر مما يهلك باستعماله وكان المودع عنده مأذونا له في استعماله، أعتبر العقد قرضا ".
وكتب الدكتور السنهوري تعليقا على هذه المادة: "إذا كان محل الوديعة مبلغا من النقود، أو أي شيء آخر مما يهلك بالاستعمال، وأذن المودِع للمودَع عنده في استعمال هذا الشيء، فلا مناص من أن يستهلك المودع عنده الشيء بالاستعمال، ومن ثم لا يستطيع أن يرد الشيء بعينه، كما هو الأمر في الوديعة، ويتعين أن يرد مثل الشيء كما هو الأمر في القرض، ولذلك خرج المشرع بهذا النوع من الوديعة-وتسمى الوديعة الناقصة- عن أن تكون وديعة إلى أن تكون قرضا". [الوسيط ج7، ص713، ط. منشأة المعارف].
على أن قانون البنوك المصري رقم 88 لسنة 2003 عاد ليكيف العلاقة بين البنوك والمتعاملين معها على أنها من باب التمويل.
د- معلوم أن أغلب نشاط البنوك التجارية هو الإقراض والاقتراض، وأن الاستثمار في المشاريع نشاط ثانوي للبنوك، وليس أساسيًا.
خلاف مخترع متخيل
3- ردَّ الشيخ الخلاف في فوائد البنوك إلى ما تخيله أنه خلاف بين جهور الفقهاء والأحناف، وأن الجمهور اشترطوا في الاستثمار أن يكون على الربح والخسارة، بينما أجاز الأحناف اشتراط أن يكون الاستثمار في الربح فقط، وأنه يجوز لرب المال أن يشترط على العامل فيه ضمان الخسارة لو حدثت. ثم أوضح الشيخ أن هذا رأي رأس المذهب الإمام أبي حنيفة.
وأنا ألتمس العذر من القارئ على هذه الصياغة الركيكة غير العلمية، لكني حرصت على أن أحكي قول الشيخ بأقرب صورة.
أ- أما الخلاف الذي اخترعه ونصبه بين الجمهور والأحناف فهو أخ شقيق للغول والعنقاء، وحقيقته: الخلاف حول جواز تضمين المضارب مال المضاربة عند هلاكه، حتى لو لم يفرط المضارب أو يتعدَّ.
ب- وأما نسبة الرأي المجيز للتضمين إلى الأحناف أو الإمام أبي حنيفة، فهو محض سراب بقيعة أمام ظمآن في نهار قائظ، فهو خطأ فاحش، وكذب على الإمام أبي حنيفة، افتراه الشيخ بوجه صفيق عاطل من ماء الحياء.
فأين كلام أبي حنيفة هذا؟ وأي كتاب أورده؟ وفي أي باب من هذا الكتاب؟
وهذه كتب الحنفية المعتمدة، منشورة، مطبوعة، مشهورة: المبسوط، والبدائع، والهداية، والفتح، والتبيين، والبحر، والنهر، ورد المحتار، ليس فيها من هذا شيء إطلاقا.
وأنا أمهل هذا الشيخ المفتري إلى يوم الدين أن يأتي بهذا النص عن أبي حنيفة.
بل الموجود في نصوص فقهاء الحنفية عكس ما نسبه إليهم تماما:
• قال السرخسي: " إذا أسلم رأس المال للمضارب فهو أمين فيه، كالمودع". [المبسوط، ج 22، ص19].
• وروى بشر عن أبي يوسف في رجل دفع إلى رجل ألف درهم؛ ليشتري بها ويبيع، فما ربح فهو بينهما فهذه مضاربة ولا ضمان على المدفوع إليه المال ما لم يخالف. [البدائع ج6، ص80].
• وقال المرغيناني: " المدفوع إلى المضارب أمانة في يده لأنه قبضه بأمر مالكه لا على وجه البدل والوثيقة، وهو وكيل فيه". [الهداية ج3، ص200].
• وقال أيضا: " ما هلك من مال المضاربة فهو من الربح دون رأس المال؛ لأن الربح تابع، وصرف الهلاك إلى ما هو التبع أولى كما يصرف الهلاك إلى العفو في الزكاة "فإن زاد الهالك على الربح فلا ضمان على المضارب لأنه أمين". [السابق ج3/، ص207].
• وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية ج29، ص36: " الصلة بين المضاربة والقرض: أن في كل منهما دفع المال إلى الغير، إلا أنه في القرض على وجه الضمان، وفي المضاربة على وجه الأمانة.".
• وجاء فيها أيضا: " نص الحنفية والمالكية على أنه لو شرط رب المال على العامل ضمان رأس المال إذا تلف أو ضاع بلا تفريط منه كان العقد فاسدا". ج 38، ص 63-64.
• بل أكثر من ذلك، حيث حكى غير واحد من العلماء الإجماع على أن ضمان المضارب رأس مال المضاربة لا يكون إلا عند وقوع تفريط منه، أو جناية:
• قال ابن عبد البر: "ولا خلاف بين العلماء أن المقارض مؤتمن لا ضمان عليه فيما يتلفه من المال؛ من غير جناية منه فيه، ولا استهلاك له، ولا تضييع". [الاستذكار ج 7، ص5].
• وقال الغزالي: "عامل القراض لا يضمن إجماعًا" . [الوسيط ج 4، ص188].
• وقال ابن رشد: " "وأجمعوا على.. وأنه لا ضمان على العامل فيما تلف من رأس المال إذا لم يتعد". [بداية المجتهد ج2، ص236].
ج- ولكن ماذا لو حدث واشترط رب المال على المضارب أن يضمن مال المضاربة في حال الخسارة أو الهلاك بأي سبب آخر؟ هل يصح هذا الشرط؟
الحقيقة أن بعض الفقهاء نفى الخلاف في بطلان هذا الشرط:
• قال السرخسي: " اشتراط الضمان على الأمين باطل، ألا ترى أن في المضاربة لا يجوز اشتراط شيء من الوضيعة (الخسارة) على المضارب ". [المبسوط ج11، ص 157]، وينظر: [البحر الرائق ج7، ص274].
• وجاء في المدونة: " سألت مالكا عن الرجل يدفع إلى الرجل مالا قراضا، على أن العامل ضامن للمال؟ قال مالك: يرد إلى قراض مثله ولا ضمان عليه". [ج33، ص647].
• وقال الإمام مالك: "وإن تلف المال لم أر على الذي أخذه ضمانًا لأن شرط الضمان في القراض باطل". الموطأ بهامش [المنتقى ج5، ص164].
• وأجاد الإمام الباجي في تعليل المسألة فقال: " وهذا كما قال إن لرب المال إذا شرط الضمان على العامل أن ذلك يقتضي فساد العقد، ووجه ذلك أن عقد القراض لا يقتضي ضمان العامل، وإنما يقتضي الأمانة ولا خلاف في ذلك فلذلك إذا شرط نقل الضمان عن محله بإجماع اقتضى ذلك فساد العقد والشرط، فإن ادعى ضياعه أو سرقته صدق، وإن ادعى رده إلى صاحبه فالقول قوله مع يمينه إن كان دفع إليه بغير بينة، وإن كان دفع إليه ببينة لم يبرأ إلا ببينة"
• ثم أعاد الباجي تلخيص رأي المالكية في المسألة فقال: " فإذا دفع القراض على الضمان وجب فسخه ما لم يفت، فإن فات بطل الشرط ورد فيما قد مضى منه ما لا بد منه في تحصيل رأس المال على هيئته إلى قراض المثل". نفس المرجع السابق.
• وقال ابن قدامة: "متى شرط على المضارب ضمان المال أو سهمًا من الوضيعة؛ فالشرط باطل لا نعلم فيه خلافًا". [المغني ج5، ص49]. ومثله في [مطالب أولي النهى للرحيباني ج3، ص521].
بل إن الشافعية قالوا ببطلان عقد المضاربة بهذا الشرط. ووافقهم الحنابلة في رواية. ينظر: [المضاربة للخويطر ص 233].
فإذا ثبت من نصوص الحنفية بصورة قاطعة خطأ ما عزاه إليهم الشيخ رمضان، يبقى هنا سؤال:
هل اخترع هذا الشيخ ما نسبه إلى الحنفية من عند نفسه، فكذب عليهم، وزور مذهبهم؟
والإجابة: ليته وهم، أو ذهل، أو اختلط عليه الأمر، أو حتى تعمد الكذب عليهم، لأنه لو تعمد الكذب وكان يعلم أنه كاذب لربما تاب وأناب واستغفر الله عن فعلته، ولكن الذي حدث واحد من احتمالين:
إما أن الشيخ نقل مذهب الحنفية عن شخص جاهل بمبادئ الفقه، ولا دراية له بقراءة كتب الفقهاء فضلا عن فهمها.
أو أنه هو نفسه من قرأ مذهب الحنفية، ولم يفهمه، وهذه كارثة كبرى فيمن يتصدر للكلام في أشباه هذه المسائل الفقهية وهو لا يدري مبادئ الفقه.
دليل هذا الكلام: أن مذهب الحنفية يقضي بأن الشروط الفاسدة في المضاربة لا تبطل العقد، ما لم تؤد إلى جهالة الربح، فإذا اشتُرِط شرطٌ فاسدٌ لا يؤدي إلى جهالة الربح (فالشرط باطلٌ، ولكنَّ العقدَ صحيحٌ) وهذا هو مربط الفرس في المسألة: البون شاسع جدا بين شرط فاسد مبطل للعقد، وشرط آخر فاسد ولكن العقد معه صحيح.
قال السمرقندي: " وإن كان -أي الشرط-لا يؤدي إلى جهالة الربح، يبطل الشرط ويصح العقد مثل أن يشترط أن تكون الوضيعة (الخسارة) على المضارب أو عليهما، فالشرط يبطل، ويبقى العقد صحيحا، والوضيعة (الخسارة) في مال المضاربة". [تحفة الفقهاء ج3، ص21].
وهذا النص وأمثاله في كتب أخرى للحنفية هو الذي أوقع الشيخ المردود عليه في هذا المزلق؛ إذ إنه لما قرأ هذا الكلام:
• إما لم يفهمه، وظن من صحة العقد صحة الشرط.
• وإما فهمه، ولكن لحاجة في نفسه دلس على المشاهدين، وكذب عليهم، فنسب جواز الشرط إلى مذهب الحنفية.
[تنبيه: على الرغم من إطالتنا في هذه المسألة، إلا أنها مسألة طويلة الذيل، وتقتضي الأمانة العلمية أن نقول: ما زال للخلاف فيها بعض التفصيل، حيث أجاز بعض فقهاء المالكية أن يتطوع المضارب من تلقاء نفسه بضمان رأس المال بعد تمام العقد، وهذه مسألة سوف نفرد لها مقالا مستقلا، إن شاء الله تعالى].
4- لم يكتف الشيخ بالكذب على فقيه الملة الإمام أبي حنيفة، بل إنه أخذ يزين كذبه، ويحسنه، ليكون وبالا عليه وحسرة، فزعم أن أبا حنيفة استدل على جواز اشتراط تضمين المضارب بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: "الزعيم غارم".
بهذه البساطة يريد الشيخ أن يخدعنا، بل أن "يقرطسنا"، فيالله للمسلمين، ويالله للعلم!! أفيكون الجهل بهذه الوقاحة؟!!! أما تخاف الله يا شيخ؟!!! والله إن أبا حنيفة خصيمك يوم القيامة.
وأعجب العجب أن الشيخ -من حيث لا يدري- نادى على نفسه بالجهل وقلة الفهم، ففسر الحديث بأن معناه: الضامن غارم!! وهذا التفسير صحيح، ولكنه ينسف كلامه وينقضه من قواعده، لو كان يدري، لأن الضامن ههنا بمعنى الكفيل، كأن تتضامن مع مدين عند الدائن (أي تضم ذمتك المالية إلى ذمته)، وتصبح أنت مدينا مطالبا بالدين إذا عجز المدين الأصيل عن الوفاء، وهذا مثل أن تذهب للاقتراض من شخص، أو شراء شيء بالأجل من إحدى الشركات، فيطلب منك شخصين ضامنين موظفين، ذوي راتب معلوم مستمر. فأين هذا من ضمان رأس مال التجارة؟ أفتوني يا ناس، أين هذا من ذاك؟
5- نفى الشيخ في الدقيقة (51: 10 ) تسمية ما يأخذه المقترض من البنك قرضا، لأن البنك ليس جهة خيرية، بل جهة تمويل!!!
الله أكبر، لقد صادها الشيخ بعد أن عجز عنها جميع من قبله.
إن أعظم خطر على عدالة قضية أن يكون لها محام فاشل، ومسألة البنوك ليست بالمسألة الهينة حتى يتكلم فيها النطيحة والمتردية، وماذا عليك لو صبرت حتى تقرأ وتتعب نفسك في البحث، وتأتي لي بكلام أحترمه حتى لو لم أتفق معه؟
ولماذا اللجوء إلى أساليب الغش والتزوير وخداع الناس؟
لقد لاحظت هذا المسلك من مسالك التدليس في كلام كثير من المعاصرين في بعض المسائل، وخصوصا هذه المسألة، ولهم في هذا التدليس مسلكان:
المسلك الأول: أن يلعب عليك، ويغفلك لبعض الثواني حتى يضللك، فيخدعك عن التكييف الفقهي الصحيح للمسألة، ويصور لك تكييفا خاطئا، ثم يغويك ويطمعك بحشد الكثير من الأدلة على جواز هذا التكييف الذي طرحه، كأن يقول مثلا: هذه مسألة جديدة، وعقد مستجد، وقد اختلف العلماء في حكم استحداث العقود، ويكيل لك من كلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في جواز استحداث العقود، فينخدع الغر قليل العلم بكلامه، بسبب كثرة الأدلة التي استشهد بها، مع أن هذا الصرح كله باطل، لأنه بني على شفا جرف هاوٍ، هو التكييف الفقهي الخاطئ.
وبتطبيق هذا المسلك على كلام الشيخ المردود عليه: لو افترضنا جدلا -مجرد افتراض- صحة ما نسبه إلى مذهب الحنفية من جواز اشتراط رب المال على المضارب ضمان رأس المال، فهذا الشرط لن ينفعه قيد أنملة لكي يبني عليه جواز فوائد القرض المصرفي، لأن الحنفية-بل الأئمة الأربعة- اشترطوا في المضاربة:
1- أن ما يوزع بين المصارب ورب المال من ربح يكون ريعا ناتجا عن العمل في المضاربة، أما في البنوك التجارية الحالية فإن الربح يحدد على أساس رأس المال ومبلغه، ولا علاقة له بالربح أو الخسارة.
2- أن يكون نصيب كل من العاقدين من الربح جزءا شائعا معلوما؛ كالنصف، أو الثلث، او الربع، لا قدرا محددا، وإلا فسدت المضاربة، كأن يعطيه ألف جنيه مثلا: ويقول له: تعطيني ربحا مائة جنيه. أما البنوك التجارية فإنها تحدد لك فائدة محددة رافعة للجهالة، مثل أن تكون 5 % من قيمة رأس المال مثلا.
وبهذا يتضح الفرق الكبير بين أسلوب المضاربة الشرعية وشروطها التي لا تصح إلا بها، وأسلوب عمل البنوك، وهي فروق جوهرية لا يمكن تجاهلها، وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاج} [فاطر: 12].
المسلك الثاني: التدليس على القراء بإظهار الجانب الذي ينفع في إباحة المعاملة، وإخفاء الجانب الذي يقضي بحرمتها، وهو نوع من الغش للمسلم وعدم النصح له، فهناك مئات المسائل الفقهية التي يتنازعها طرفان: مبيح ومحرم، فإذا سئل المفتي الماجن: أظهر للناس جانبا وأخفى آخر، مع أنه قد يكون ألصق بحكم المسألة. وهذا مثل من يجيز الزواج العرفي الذي يجري بين طلبة الجامعات، ولا غرض له إلا الحصول على متعة حسية مؤقتة، فيفتي بجواز هذا النوع من النكاح؛ اعتمادا على رأي الحنفية الذين يجيزون للبالغة تزويج نفسها بغير ولي، مع أن هذا الزواج يتضمن-بعيدا عن شرط الولاية- العديد من الجوانب التي تقطع ببطلانه وحرمته.
وعودا على النقطة السابقة، فإن البنك ليس جهة خيرية، نعم صحيح، ولكن البنك لا يقرض قرضًا حسنًا، بل يقرض بفائدة محددة معلومة، وهو بذلك يمارس نشاطا تجاريا يدر عليه ربحا، ولو وقف المقترض على رأسه ومشى على الحائط، فلن يترك له البنك الفائدة بعد أن قبض القرض والتعاقد عليه.
خاتمة:
هذا ما يسر الله به من الكلام في هذه المسألة، على حسب ما يسمح به المقام، وقد اختصرت قدر ما أستطيع خوفا من تسرب السآمة والملل إلى نفس القارئ-إن لم يكن تسرب بالفعل-.
وأعيد وأكرر: إن ما قلته هنا لم أقصد به إصدار حكم في المسألة، ولكن الغرض بيان بعض الأخطاء المنهجية في معالجة المسألة من بعض الذين كتبوا فيها، وأؤكد أنني كنت سوف أصنع نفس الشيء لو وجدت من يحرم فوائد البنوك معتمدا على أمثال هذه المغالطات والأخطاء. وعلى الله قصد السبيل، والحمد لله رب العالمين.
- التصنيف: