لحظات الأسحار
فضل الدعاء والسؤال والاستغفار آخر الليل
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ينزل ربُّنا - تبارك وتعالى - كلَّ ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلثُ الليل الآخر، فيقول: مَن يدعوني فأستجيب له؟ مَن يسألُني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له» ؟[1]؛ (رواه البخاري ومسلم).
الحديث دليل على فضل الدعاء والسؤال والاستغفار آخر الليل، وقد أثنى الله تعالى على عباده المؤمنين، الذين يدخلون الجنَّة خالدين فيها، فذَكَر من صفاتهم الاستغفارَ وقت الأسحار، قال تعالى: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران: 17]، وقال تعالى: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 18]، فعُلِم من ذلك أنه وقت شريف. وفي الحديث دليل على أن الدعاء في ذلك الوقت مجابٌ إذا تحققت الشروط وانتفتِ الموانع؛ لأن الله تعالى وَعَد بالاستجابة لمَن دعاه، وإعطاءِ مَن سأله، والمغفرة لمن طلب مغفرته.
وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: قيل يا رسول الله: أيُّ الدعاء أسمع؟ قال: {جوف الليل الآخر، ودبر الصلوات المكتوبات} [2]. قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله -: "إن جوف الليل إذا أُطلِق فالمراد به وسطه. وإن قيل جوف الليل الآخر فالمراد به: وسط النصف الثاني، وهو السدس الخامس من أسداس الليل، وهو الوقت الذي فيه النـزول الإلهي"[3].
وهذا الوقت من الأوقات التي ينبغي للعبد – ولاسيَّما في رمضان – أن يغتنمه، ولا يرخصه بالغفلة والنوم والكسل؛ فإنَّه وقتُ النـزول الإلهي الذي يليق بجلال الله وعظمته من غير تكييف ولا تمثيل، قال القحطاني - رحمه الله - في "نونيته":
وَاللَّهُ يَنْزِلُ كُلَّ آخِرِ لَيْلَــــةٍ لِسَمَائِهِ الدُّنْيَا بِلا كِتْمَـــانِ
فَيَقُولُ هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُجِيبَهُ فَأَنَا القَرِيبُ أُجِيبُ مَنْ نَادَانِي
حَاشَا الإِلَهَ بِأَنْ تُكَيَّفَ ذَاتُـــهُ فَالكَيْفُ وَالتَّمْثِيلُ مُنْتَفِيَانِ
قال ابن بطَّال: "هذا وقت شريف مرغَّب فيه، خصَّه الله بالتنزُّل فيه، وتفضَّل على عباده بإجابة دعائِهم، وإعطاء سؤالهم، وغفران ذنوبهم؛ إذ هو وقت غفلة وخلوة، واستغراق في النوم واستلذاذ له، ومفارقةُ اللَّذة والدعة صعبٌ على العباد، لا سيما لأهل الرفاهية في زمن البرد، ولأهل التَّعب والنَّصب في زمن قصر الليل، فمَن آثر القيام لمناجاة ربّه، والتَّضرّع إليْه في غُفْران ذنوبه، وفِكاك رقبَتِه من النَّار، وسأله التوبة في هذا الوقت الشاقِّ، على خلوة نفسه بلذتها، ومفارقة دعتها وسكنها - فذلك دليلٌ على خلوص نيَّته، وصحَّة رغبته فيما عند ربه... فلذلك نبَّه الله عبادَه على الدّعاء في هذا الوقت، الذي تَخلو فيه النفس من خواطر الدنيا وعلقها؛ ليستشعر العبد الجدَّ والإخلاص لربّه، فتقع الإجابة منه تعالى رفقًا من الله بخلقه، ورحمة لهم، فله الحمد دائمًا، والشكر كثيرًا على ما ألهم إليه عبادَه من مصالِحهم، ودعاهم إليه من منافعهم، لا إله إلا هو الكريم الوهَّاب"[4].
وفي هذه الليالي المباركة يَجتمِع للمؤمِن في الليل ساعةُ الإجابة، والنّزولُ الإلهي، والسجودُ، وشرفُ الزمان وهو رمضان، وقد كان السلف الصالح من هذه الأمة يواظبون على قيام الليل، ولاسيَّما في شهر رمضان؛ تأسيًا بنبيِّهم - صلى الله عليه وسلم، فعن جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يقول: «إن في الليل ساعةً لا يوافقُها رجل مسلم يسأل الله تعالى خيرًا من أمر الدنيا والآخرة، إلا أعطاه الله إياه، وذلك كلَّ ليلة» [5].
وإذا كان الإنسان يقوم آخر الليل لأكلة السحور، فليتقدم قبل ذلك بوقت كافٍ للذكر والدعاء، وتلاوة القرآن والصلاة، وأن يكون حاضر القلب، محتسبًا لله تعالى في قيامه، وأن يحرص على الإخلاص والخشوع في صلاته؛ فعسى أن يكون له نصيب من قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصِلُوا الأرحام، وصلُّوا بالليل والناس نيام؛ تدخلوا الجنة بسلام» [6].
اللهم إنا نسألك الجنَّة وما يقرِّب إليها من قولٍ وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرَّب إليها من قول وعمل، ونسألُك الهدى والتُّقى والعفاف والغِنَى، ومن العمل ما ترضى، وصلى الله وسلم على نبيّنا مُحمَّد.
ـــــــــــــــــــــــــــ
[1] البخاري (3/ 29)، ومسلم (758).
[2] أخرجه الترمذي (3499)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" رقم (108)، وهو حديث حسن بشواهده.
[3] جامع العلوم والحكم"، شرح الحديث التاسع والعشرين من "الأربعين النووية".
[4] "شرح البخاري" لابن بطال (10/ 89، 90).
[5] أخرجه مسلم (757).
[6] أخرجه الترمذي (7/ 187)، وقال: هذا حديث صحيح، وأخرجه ابن ماجه رقم (3251).
عبد العزيز بن فوزان الفوزان
الدكتور عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
- التصنيف: