إسلام سلمان الفارسي ـ الباحث عن الحقيقة ـ

منذ 2022-04-23

وقصة إسلامه ـ رضي الله عنه ـ فيها العِبْرة والفائدة، وفيها دلالة واضحة على الضلال الذي ساد العالم كله قبل بعثة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .

 

سلمان الفارسي ـ رضي الله عنه ـ يُكنَّى أبا عبد الله، من أصبهان، عايش المجوسية والنصرانية واليهودية قبيل ظهور الإسلام، وظلَّ يبحث عن الدين الحق إلى أن هداه الله إليه، فأسلم ـ رضي الله عنه ـ مقدم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المدينة، ومنعه الرّقّ من شهود بدر وأحد، وأول غزوة غزاها مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الخندق، وهو صاحب فكرة حفر الخندق في تلك الغزوة الشهيرة .
قال عنه الذهبي في السِّيَر: " كان لبيبا، من عقلاء الرجال وعُبَّادهم ونبلائهم "، وقال ابن عساكر: " هو سلمان ابن الإسلام، أبو عبد الله الفارسي، سابق الفرس إلى الإسلام، صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - وخدمه وحدَّث عنه ".

وقصة إسلامه ـ رضي الله عنه ـ فيها العِبْرة والفائدة، وفيها دلالة واضحة على الضلال الذي ساد العالم كله قبل بعثة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . 

عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: حدثني سلمان عن نفسه فقال: " كنت رجلاً فارسياً من أهل أصبهان، من أهل قرية منها يقال لها: جَيُّ، وكان أبي دهقان (رئيس) قريته، وكنتُ أحبُّ خلقِ اللهِ إليه، فلم يزل به حُبه إياي حتى حبسني في بيته كما تحبس الجارية، وأجهدت في المجوسية حتى كنت قاطن (خادم) النار الذي يوقدها، لا يتركها تخبو ساعة، قال: وكانت لأبي ضيعة (بستان) عظيمة، قال: فَشُغِلَ في بنيان له يوماً، فقال لي: يا بني! إني قد شُغِلتُ في بنيان هذا اليوم عن ضيعتي، فاذهب فأطلعها، وأمرني فيها ببعض ما يريد، فخرجت أريد ضيعته، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون، وكنت لا أدري ما أمر الناس لحبس أبي إياي في بيته، فلما مررت بهم وسممعت أصواتهم، دخلت عليهم أنظر ما يصنعون، قال: فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم، ورغبت في أمرهم، وقلت: هذا والله خير من الدين الذي نحن عليه، فوالله ما تركتهم حتى غربت الشمس، وتركت ضيعة أبي، ولم آتها، فقلت لهم: أين أَصلُ هذا الدين؟، قالوا: بالشام، قال: ثم رجعت إلى أبي، وقد بعث في طلبي، وشغلتُه عن عمله كلِّه، قال: فلما جئته قال: أي بني أين كنت؟، ألم أكن عهدتُ إليك ما عهدت؟، قال: قلت: يا أبت! مررت بناس يصلون في كنيسة لهم، فأعجبني ما رأيت من دينهم، فوالله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس، قال: أي بني! ليس في ذلك الدين خير، دينك ودين آبائك خير منه، قال: قلت: كلا والله، إنه خير من ديننا، قال: فخافني، فجعل في رجلي قيداً، ثم حبسني في بيته، قال: وَبَعَثْتُ إلى النصارى فقلت لهم: إذا قدم عليكم ركب من الشام تجار من النصارى فأخبروني بهم، قال: فقدم عليهم ركب من الشام تجار من النصارى، قال: فأخبروني بهم، قال: فقلت لهم: إذا قضوا حوائجهم، وأرادوا الرجعة إلى بلادهم فآذنوني بهم، فلما أرادوا الرجعة إلى بلادهم أخبروني بهم، فألقيت الحديد من رجلي، ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام، فلما قدمتها قلت: من أفضل أهل هذا الدين؟، قالوا: الأسقف في الكنيسة، قال: فجئته، فقلت: إني قد رغبت في هذا الدين، وأحببت أن أكون معك، أخدمك في كنيستك، وأتعلم منك وأصلي معك، قال: فادخل فدخلت معه، قال: فكان رجل سوء، يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا إليه منها أشياء، اكتنزه لنفسه ولم يعطه المساكين، حتى جمع سبع قلال من ذهب وَوَرِق (فضة)، قال: وأبغضته بغضاً شديداً لما رأيته يصنع، ثم مات، فاجتمعَت إليه النصارى ليدفنوه، فقلت لهم: إن هذا كان رجل سوء، يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها، فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه ولم يعط المساكين منها شيئاً، قالوا: وما علمك بذلك؟ قال: قلت: أنا أدلكم على كنزه، قالوا: فدلنا عليه، قال: فأريتهم موضعه، قال: فاستخرجوا منه سبع قلال مملوءة ذهباً وورقاً، قال: فلما رأوها قالوا: والله لا ندفنه أبداً، فصلبوه، ثم رجموه بالحجارة، ثم جاؤوا برجل آخر فجعلوه بمكانه .

قال: يقول سلمان: فما رأيت رجلاً لا يصلي الخمس أرى أنه أفضل منه، أزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة، ولا أدأب ليلاً ونهاراً منه، قال: فأحببته حباً لم أحبه مَن قبله، وأقمت معه زماناً، ثم حضرته الوفاة، فقلت له: يا فلان! إني كنت معك، وأحببتك حباً لم أحبه أحداً من قبلك، وقد حضرك ما ترى من أمر الله، فإلى مَنْ توصي بي؟ وما تأمرني؟، قال: أي بني! والله ما أعلم أحداً اليوم على ما كنت عليه، لقد هلك الناس وبدلوا، وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجلاً بالموصِل وهو فلان، فهو على ما كنت عليه فالْحَقْ به .
قال: فلما مات وغُيب، لحقت بصاحب الموصل، فقلت له: يا فلان إن فلاناً أوصاني عند موته أن ألحق بك، وأخبرني أنك على أمره، قال: فقال لي: أقم عندي، فأقمت عنده، فوجدته خير رجل على أمر صاحبه فلم يلبث أن مات، فما حضرته الوفاة قلت له: يا فلان! إن فلاناً أوصي بي إليك، وأمرني باللحوق بك، وقد حضرك من الله - عز وجل - ما ترى، فإلى من توصي بي؟ وما تأمرني؟، قال: أي بني! والله ما أعلم رجلاً على مثل ما كنا عليه إلا رجلاً بنصيبين، وهو فلان فالحق به .
قال: فلما مات وغُيب، لحقت بصاحب نصيبين، فجئته فأخبرته بخبري وما أمرني به صاحبي قال: فأقم عندي، فأقمت عنده، فوجدته على أمر صاحبيه، فأقمت مع خير رجل، فوالله ما لبثت أن نزل به الموت، فلما حُضِر قلت له: يا فلان! إن فلاناً كان أوصى بي إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إليك، فإلى من توصي بي؟ وما تأمرني؟، قال: أي بني! والله ما نعلم أحداً بقي على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجلاً بـعمورية، فإنه بمثل ما نحن عليه، فإن أحببت فأته، فإنه على أمرنا .

قال: فلما مات وغيب، لحقت بصاحب عمورية، وأخبرته خبري، فقال: أقم عندي، فأقمت مع رجل على هدي أصحابه وأمرهم، قال: واكتسبت حتى كان لي بُقَيْرَاتٌ وَغَنَيمَةٌ، قال: ثم نزل به أمر الله، فلما حضر قلت له: يا فلان! إني كنت مع فلان، فأوصى بي فلان إلى فلان، وأوصى بي فلان إلى فلان، ثم أوصى بي فلان بي إليك، فإلى من توصي بي؟ وما تأمرني؟، قال: أي بني! ما أعلمه أصبح على ما كنا عليه أحد من الناس آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظلك زمان نبي، هو مبعوث بدين إبراهيم، يخرج بأرض العرب مهاجراً إلى أرض بين حرتين ( أرض ذات الحجارة السود ) بينهما نخل، به علامات لا تخفى، يأكل الهدية، ولا يكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل .
قال: ثم مات وغُيب، فمكثت بـعَمورية ما شاء الله أن أمكث، ثم مر بي نفر من كَلْبٍ، تُجَّارٌ، فقلت لهم: تحملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقراتي هذه وغنيمتي هذه؟، قالوا: نعم، فأعطيتهموها، وحملوني، حتى إذا قدموا بي وادي القرى ظلموني، فباعوني من رجل من اليهود عبداً، فكنت عنده، ورأيت النخل، ورجوت أن تكون البلد الذي وصف لىِ صاحبي، ولم يحق لي في نفسي، فبينما أنا عنده قدم عليه ابن عم له من المدينة من بني قريظة، فابتاعني منه، فاحتملني إلى المدينة، فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي، فأقمت بها .

وبعث الله رسوله فأقام بمكة ما أقام، لا أسمع له بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرق، ثم هاجر إلى المدينة، فوالله إني لَفِي رَأْسِ عِذْقٍ لِسَيِّدِي أعمل فيه بعض العمل، وسيدي جالس إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه فقال: فلان! قاتل الله بني قيلة، والله إنهم الآن لمجتمعون بقِباء، على رجل قدم عليهم من مكة اليوم يزعمون أنه نبي، قال: فلما سمعتها أخذتني العُرُواء (برد الحمى)، حتى ظننت أني سأسقط على سيدي، قال: ونزلت عن النخلة فجعلت أقول لابن عمه ذلك: ماذا تقول؟! ماذا تقول؟!، قال: فغضب سيدي فلكمني لكمة شديدة، ثم قال: مالك ولهذا؟ أقبل على عملك، قال: قلت: لا شيء إنما أردت أن أستثبت عما قال، وقد كان عندي شيء قد جمعته، فلما أمسيت أخذته ثم ذهبت به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بـقباء، فدخلت عليه فقلت له: إنه قد بلغني أنك رجل صالح، ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة، وهذا شيء كان عندي للصدقة، فرأيتكم أحق به من غيركم، قال: فقربته إليه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: ( كلوا، وأمسك يده فلم يأكل، قال: فقلت في نفسي: هذه واحدة، ثم انصرفت عنه، فجمعت شيئاً وتحول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، ثم جئت به فقلت: إني رأيتك لا تأكل الصدقة، وهذه هدية أكرمتك بها، قال: فأكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها، وأمر أصحابه فأكلوا معه، قال: فقلت في نفسي: هاتان اثنتان . ثم جئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ببقيع الغرقد، قال: وقد تبع جنازة من أصحابه، عليه شملتان له، وهو جالس في أصحابه، فسلمت عليه ثم استدرت أنظر إلى ظهره، هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي، فلما رآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ استدبرته، عرف أني استثبت في شيء وصف لي، قال: فألقي رداءه عن ظهره، فنظرت إلى الخاتم فعرفته، فانكببت عليه أقبله وأبكي، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تحول، فتحولت، فقصصت عليه حديثي - كما حدثتك - يا ابن عباس! ) .
قال: فأعجب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يسمع ذلك أصحابه، ثم شَغَلَ سَلْمَانَ الرِّقُّ حتى فاته مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدر وأحد .
قال: ثم قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ( كاتِبْ يا سلمان، فكاتبتُ صاحبي على ثلاث مئة نخلة أحييها له بالفقير(أي أغرسها لها ) وبأربعين أوقية، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أعينوا أخاكم )، فأعانوني بالنخل، الرجل بثلاثين ودية (صغار النخل)، والرجل بعشرين، والرجل بخمس عشرة، والرجل بعشر حتى اجتمعت لي ثلاث مئة ودية، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ( اذهب يا سلمان! ففقر لها ( احفر لها موضع غرسها )، فإذا فرغت فأتني أكون أنا أضعها بيدي، ففقرت لها، وأعانني أصحابي، حتى إذا فرغت منها جئته فأخبرته، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معي إليها، فجعلنا نقرب له الودي، ويضعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده، فوالذي نفس سلمان بيده، ما ماتت منها ودية واحدة، فأديت النخل وبقي علي المال، فأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمثل بيضة الدجاجة من ذهب من بعض المغازي، فقال: ما فعل الفارسي المكاتب؟، قال: فَدُعِيتُ له، فقال: خذ هذه فأدِّ بها ما عليك يا سلمان!، فقلت: وأين تقع هذه يا رسول الله مما عليَّ؟، قال: خذها، فإن الله - عز وجل - سيؤدي بها عنك، قال: فأخذتها، فوزنت لهم منها - والذي نفس سلمان بيده - أربعين أوقية، فأوفيتهم حقهم، وعتقت، فشهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخندق، ثم لم يفتني معه مشهد ) رواه أحمد .

في قصة إسلام سلمان الفارسي ـ رضي الله عنه ـ فوائد كثيرة، منها : تأكيد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على ضرورة التعاون على البر والتقوى، والتعاون على قضاء الدَيْن عن المدين، وهذا يؤخذ من فعله - صلى الله عليه وسلم - والصحابة - رضي الله عنهم - مع سلمان عندما ساعدوه ليتحرر من الرق، فقد قال - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: ( أعينوا أخاكم ) أي: سلمان .

لقد حفلت سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بنماذج رائعة من المهتدين، الذين ارتفعت همتهم في البحث عن الدين الحق، و بذلوا في سبيل ذلك النفس والنفيس، فصاروا مضرب الأمثال، وحجة لله على خلقه، وأكدت على أن من انطلق باحثا عن الحق مخلصا لله تعالى، فإن الله يهديه إليه، ويمنُّ عليه بأعظم نعمة في الوجود نعمة الإسلام، ومن النماذج المشرقة في البحث عن الحق سلمان الفارسي ـ رضي الله عنه ـ .
وترجع أهمية قصَّة إسلام سلمان ـ رضي الله عنه ـ إلى كونها دليلاً يشهد بصدق نُبُوَّة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فقد ظل سلمان يبحث عن النبي الحقِّ الذي عَرف صفاته ومناقبه من أحد الرهبان في عَمُّورِيَة، والذي وصف له نبي آخر هذا الزمان قائلا: ( ولكنه قد أظلك زمان نبي، هو مبعوث بدين إبراهيم، يخرج بأرض العرب مهاجراً إلى أرض بين حرتين بينهما نخل (المدينة المنورة)، به علامات لا تخفى، يأكل الهدية، ولا يكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل )، فوجد سلمان ـ رضي الله عنه ـ هذه الصفات في النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فعلم أنه نبيٌّ حقًّا، بل هو خاتم الأنبياء أجمعين ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ .