الصَّلاَةِ الْوُسْطَى
الدواء الثاني أخروي روحاني: وهو الصلاة التي وصفها الله تعالى في آية أخرى بأنها تنهي عن الفحشاء والمنكر، فلما كانت معينة على التقوى، ومكارم الأخلاق، حث الله على المحافظة عليها.
{بسم الله الرحمن الرحيم }
{حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ (238) فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ (239) }
مناسبة الأمر بالمحافظة على الصلوات عقيب الأوامر السابقة أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فيكون ذلك عوناً لهم على امتثالها، وصوناً لهم عن مخالفتها.
يقول ابن عاشور: الانتقال من غرض إلى غرض، في آي القرآن، لا تلزم له قوة ارتباط، لأن القرآن ليس كتاب تدريس يرتب بالتبويب وتفريع المسائل بعضها على بعض، ولكنه كتاب تذكير وموعظة، فهو مجموع ما نزل من الوحي في هدي الأمة، وتشريعها وموعظتها، وتعليمها، فقد يجمع فيه الشيء للشيء، من غير لزوم ارتباط، وتفرع مناسبة، وربما كفى في ذلك نزول الغرض الثاني، عقب الغرض الأول، أو تكون الآية مأمورا بإلحاقها بموضع معين من إحدى سور القرآن.
ولا يخلو ذلك من مناسبة في المعاني، أو في انسجام نظم الكلام، فلعل آية {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} نزلت عقب آيات تشريع العدة والطلاق، لسبب اقتضى ذلك: من غفلة عن الصلاة الوسطى، أو استشعار مشقة في المحافظة عليها، فموقع هذه الآية موقع الجملة المعترضة بين أحكام الطلاق والعدد.
وإذا أبيت ألا تطلب الارتباط فالظاهر أنه لما طال تبيان أحكام كثيرة متوالية: ابتداء من قوله: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} [البقرة:215]، جاءت هذه الآية مرتبطة بالتذييل الذي ذيلت به الآية السابقة: وهو قوله: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة:237] فإن الله دعانا إلى خلق حميد، وهو العفو عن الحقوق، ولما كان ذلك الخلق قد يعسر على النفس، لما فيه من ترك ما تحبه من الملائم، من مال وغيره: كالانتقام من الظالم، وكان في طباع الأنفس الشح، علمنا الله تعالى دواء هذا الداء بدواءين، أحدهما دنيوي عقلي، وهو قوله: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}، المذكر بأن العفو يقرب إليك البعيد، ويصير العدو صديقا، وإنك إن عفوت فيوشك أن تقترف ذنبا فيعفى عنك، إذا تعارف الناس الفضل بينهم، بخلاف ما إذا أصبحوا لا يتنازعون عن الحق.
الدواء الثاني أخروي روحاني: وهو الصلاة التي وصفها الله تعالى في آية أخرى بأنها تنهي عن الفحشاء والمنكر، فلما كانت معينة على التقوى، ومكارم الأخلاق، حث الله على المحافظة عليها.
ولك أن تقول: لما طال تعاقب الآيات المبينة تشريعات تغلب فيها الحظوظ الدنيوية للمكلفين، عقبت تلك التشريعات بتشريع تغلب فيه الحظوظ الأخروية، لكي لا يشتغل الناس بدراسة أحد الصنفين من التشريع، عن دراسة الصنف الآخر، قال البيضاوي: "أمر بالمحافظة عليها في تضاعيف أحكام الأولاد والأزواج، لئلا يلهيهم الاشتغال بشأنهم عنها".
وقال بعضهم: "لما ذكر حقوق الناس دلهم على المحافظة على حقوق الله" وهو في الجملة. مع الإشارة إلى أن في العناية بالصلوات أداء حق الشكر لله تعالى على ما وجه إلينا من عنايته بأمورنا التي بها قوام نظامنا، وقد أومأ إلى ذلك قوله في آخر الآية: { {كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} } [البقرة:239] أي من قوانين المعاملات النظامية.
{ {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ} } والمحافظة عليها تشمل إتمام أركانها، وشروطها، وسننها، وفعلها في أوقاتها في الجماعات في المساجد، ولأجل أن ذلك من أسباب نيل الفردوس .. قال تعالى { {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} } [المعارج:34] وقال فيها أيضا { {إِلَّا الْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} } [المعارج:22-23] وذم وتوعد من لم يحافظ عليها في قوله { {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} } [مريم:59] وقوله تعالى: { {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} } [الماعون:4- 5]. وقال تعالى في ذم المنافقين { {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ} } [النساء: 142]، وفي الصحيح عن ابن مسعود -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أنه سأل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أي العمل أحب إلى الله؟ قال (الصلاة على وقتها)»
{ {والصَّلاَةِ الْوُسْطَى} } وخصت الصلاة الوسطى بالذكر، وان كانت قد اندرجت في عموم الصلوات قبلها، تنبيهاً على فضلها على غيرها من الصلوات، كما نبه على فضل جبريل وميكال في تجريدهما بالذكر في قوله: { {مَن كَانَ عَدُوّاً لِّلّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ} } [البقرة:98] وعلى فضل من ذكر وجرد من الأنبياء بعد قوله: { {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً} } [الأحزاب:7]، وعلى فضل النخل والرمان في قوله: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن:68]
والمقرر في الأصول أن ذكر بعض أفراد العام، بحكم العام لا يخصصه على مذهب الجمهور، خلافاً لأبي ثور. سواء كان العام، وبعض أفراده المذكور بحكمه في نص واحد أو نصين.
فمثال كونهما في نص واحد قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} فلا يخصص عموم الأمر بالمحافظة على جميع الصلوات بالصلاة الوسطى بل المحافظة على جميعها واجبة.
ومثال كونهما في نصين: حديث ابن عباس العام في جلود الميتة: «أيما إهاب دبغ فقد طهر» مع حديثه الآخر أنه تصدق على مولاة لميمونة بشاة فماتت فمر بها رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: «هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به» الحديث، فذكر جلد الشاة في هذا الحديث الأخير لا يخصص عموم الجلود المذكورة «أيما إهاب دبغ» الحديث، فجواز الانتفاع عام في جلد الشاة، وفي غيرها من الأهب إلا ما أخرجه دليل خاص، لأن ذكر بعض أفراد العام بحكم العام لا يخصصه.
وكثر اختلاف العلماء، من الصحابة والتابعين والفقهاء بعدهم، في المراد بالصلاة الوسطى، ولهذا قال سعيد بن المسيب: كان أصحاب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الصلاة الوسطى هكذا، وشبك بين أصابعه.
فقول: أنها العصر: لما في صحيح مسلم عَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- « قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ الْأَحْزَابِ (شَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ مَلَأَ اللَّهُ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا) ثُمَّ صَلَّاهَا بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ» .
وقول: أنها الفجر: قال أبو العالية: صليت مع أصحاب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الغداة [أي الفجر]، فقلت لهم: أيما الصلاة الوسطى؟ فقالوا: التي صليت قبل.
وقول: أنها إحدى الصلوات الخمس، لا يعينها. وبه قال: سعيد بن المسيب، وأبو بكر الوراق، وأخفاها ليحافظ على الصلوات كلها، كما أخفى ليلة القدر في ليالي شهر رمضان، واسم الله الأعظم في سائر الأسماء، وساعة الإجابة في يوم الجمعة.
قال أبو حيان الأندلسي في «البحر المحيط»: وقد صنف شيخنا الإمام المحدّث، أوحد زمانه وحافظ أوانه، شرف الدين أبو محمد عبد المؤمن الدمياطي كتاباً في هذا المعنى سماه (كشف المغطى في تبيين الصلاة الوسطى) قرأناه عليه، ورجح فيه أنها صلاة العصر، وأن ذلك مروي نصاً عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، روى ذلك عنه: عليّ بن أبي طالب، واستفاض ذلك عنه، وعبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وعبد الله بن عباس، وسمرة بن جندب، وعبد الله بن عمر، وأبو هريرة، وأبو هاشم بن عتبة بن ربيعة.
وأفضل الصلاتين المفضلتين - العصر، والفجر؛ وقد بين النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فضلهما في أحاديث؛ منها قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ» [البخاري]، وقوله: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَصَلَاةٍ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَافْعَلُوا» .
{وَقُومُواْ} في الصلاة.. وهو دليل على مطلوبية القيام، وأجمعوا على أن القيام في صلاة الفرض واجب على كل صحيح قادر عليه، كان منفرداً أو إماماً {لِلّهِ} واللام في قوله تعالى: {لله} للإخلاص{قَانِتِينَ} خاشعين ساكنين.
{فَإنْ خِفْتُمْ} فكل أمر يخاف منه فهو مبيح{فَرِجَالاً} مشاة على أرجلكم، جمع راجل، كقائم وقياما، قال تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:27] {أَوْ رُكْبَاناً} جمع راكب، أي على الدواب أو غيرها مما يركب ..كل هذا إيماء، وأما صلاة الخوف بالإمام وانقسام الناس فليس حكمها في هذه الآية.
وهذا في معنى الاستثناء من قوله: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] لأن هاته الحالة تخالف القنوت في حالة الترجل، وتخالفهما معا في حالة الركوب. والآية إشارة إلى أن صلاة الخوف لا يشترط فيها الخشوع، لأنها تكون مع الاشتغال بالقتال ولا يشترط فيها القيام.
وهذا الخوف يسقط ما ذكر من شروط الصلاة، وهو هنا صلاة الناس فرادي، وذلك عند مالك، إذا اشتد الخوف، وأظلهم العدو، ولم يكن حصن بحيث تتعذر الصلاة جماعة مع الإمام، وليست هذه الآية لبيان صلاة الجيش في الحرب جماعة، المذكورة في سورة النساء، والظاهر أن الله شرع للناس في أول الأمر صلاة الخوف فرادي على الحال التي يتمكنون معها من مواجهة العدو، ثم شرع لهم صلاة الخوف جماعة في سورة النساء، وأيضا شملت هذه الآية كل خوف من سباع، أو قطاع طريق، أو من سيل الماء، قال مالك: وتستحب إعادة الصلاة.
وتدل هذه الآية على عظيم قدر الصلاة وتأكيد طلبها إذا لم تسقط بالخوف، فلا تسقط بغيره من مرض وشغل ونحوه، حتى المريض إذا لم يمكنه فعلها لزمه الإشارة بالعين عند أكثر العلماء، وبهذا تميزت عن سائر العبادات لأنها كلها تسقط بالأعذار ويترخص فيها.
{فَإِذَا أَمِنتُمْ} زال خوفكم الذي ألجأكم إلى كيفية هذه الصلاة { {فَاذْكُرُواْ اللّهَ} } أقيموا الصلاة تامة بجميع شروطها وأركانها { {كَمَا عَلَّمَكُم} } أي: أحسن إليكم بتعليمكم ما كنتم جاهليه من أمر الشرائع، وكيف تصلون في حال الخوف وحال الأمَن {مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} وفيه الامتنان بالتعليم على العبد، وبيان نقص الإنسان لكون الأصل فيه الجهل؛ فالأصل في الإنسان الجهل حتى يُعَلِّمَه الله عزّ وجلّ.
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
alnaggar66@hotmail.com
خالد سعد النجار
كاتب وباحث مصري متميز
- التصنيف: