الفقهاء والمحدثون يكمل بعضهم بعضا

منذ 2022-06-01

بيَّن ابن الجوزي رحمه الله بأنَّ أهلَ الحديث هم أهل الفقه، فقال: (وقد كان المحُدِّثون قديمًا هم الفقهاء، ثم صار الفقهاءُ لا يعرفون الحديث، والمُحدِّثون لا يعرفون الفقه)

بيَّن ابن الجوزي رحمه الله بأنَّ أهلَ الحديث هم أهل الفقه، فقال: (وقد كان المحُدِّثون قديمًا هم الفقهاء، ثم صار الفقهاءُ لا يعرفون الحديث، والمُحدِّثون لا يعرفون الفقه)[1].

 

وذَكَرَ ابن الجوزي - رحمه الله – "تلبيس إبليس" على بعض الفقهاء، فقال: (كان الفقهاء في قديم الزمان هم أهل القرآن والحديث؛ فما زال الأمر يتناقص حتى قال المتأخِّرون: يكفينا أنْ نعرفَ آيات الأحكام من القرآن، وأنْ نعتمِدَ على الكتب المشهورة في الحديث؛ كسنن أبي داود ونحوها، ثم استهانوا بهذا الأمر أيضًا، وصار أحدهم يحتج بآيةٍ لا يعرف معناها، وبحديثٍ لا يدري أصحيحٌ هو أم لا، وربما اعتمَدَ على "قياسٍ" يُعارضه "حديثٌ صحيح" ولا يعلم؛ لقلة التفاته إلى معرفة النقل.

 

وإنما الفقه استخراجٌ من "الكتاب والسنة" فكيف يَستخرج من شيءٍ لا يعرفه. ومن القبيح: تعليق حُكمٍ على حديثٍ لا يدري أصحيح هو أم لا)[2].

 

روى الخطيب البغدادي رحمه الله بسنده إلى عبيد الله بن عمرو قال: (جاء رجلٌ إلى الأعمش؛ فسأله عن مسألةٍ، وأبو حنيفة جالس، فقال الأعمش: يا نُعمانُ! قُلْ فيها؛ فأجابه، فقال الأعمش: مِنْ أين قلتَ هذا؟ فقال: مِنْ حَديثِكَ الذي حدَّثْتَنَاه، قال: نعم، نحن صيادلة، وأنتم أطباء)[3].

 

وقال الخطابي رحمه الله: (ورأيتُ أهلَ العلم في زماننا؛ قد حصلوا حزبين وانقسموا إلى فرقتين: أصحاب حديثٍ وأثر، وأهل فقهٍ ونظر، وكلُّ واحدةٍ منهما لا تتميَّز عن أختها في الحاجة، ولا تستغني عنها في درك ما تنحوه من البغية والإرادة؛ لأنَّ الحديث بمنزلة الأساس الذي هو الأصل، والفقه بمنزلة البناء الذي هو له كالفرع، وكلُّ بناءٍ لم يُوضَعْ على قاعدة وأساس فهو منهار، وكلُّ أساسٍ خلا عن بناءٍ وعمارةٍ فهو قَفْرٌ وخَراب.

 

ووجدتُ هذين الفريقين على ما بينهم؛ من التَّداني في المَحَلَّين والتَّقارب في المنزِلتين، وعمومِ الحاجة من بعضهم إلى بعض، وشمولِ الفاقة اللازمة لكلٍّ منهم إلى صاحبه - إخوانًا متهاجرين - وعلى سبيل الحقِّ بلزوم التَّناصر والتعاون غير متظاهِرِين)[4].

 

وقال علي بن المديني رحمه الله: (التَّفقة في معاني الحديث نصف العلم، ومعرفة الرجال نصف العلم)[5].

 

وقال الشوكاني رحمه الله: (المُتصدِّر للتَّصنيف في كتب الفقه - وإنْ بلغ في إتقانه وإتقان علم الأصول وسائر الفنون الآلية إلى حدٍّ يتقاصر عنه الوصف - إذا لم يُتقِنْ عِلْمَ السُّنة، ويَعرفْ صحيحَه من سقيمه، ويُعوِّلْ على أهله في إصداره وإيراده؛ كانت مُصنَّفاتُه مبنيةً على غير أساس؛ لأنَّ عِلمَ الفقه هو مأخوذٌ من عِلمِ السُّنة إلاَّ القليل منه، وهو ما قد صرَّح بحُكمه القرآنُ الكريم، فما يصنعُ ذو الفنون بفنونه إذا لم يكن عالِمًا بعلم الحديث، مُتقِنًا له مُعَوِّلًا على المُصنَّفات المُدوَّنة فيه)[6].

 

وقال الرامهرمزي رحمه الله – ردًا على مَنْ يُبغض أهل الحديث من الحاقدين: (إلاَّ تأدَّب بأدب العلم، وخَفَضَ جناحَه لِمَنْ تعلَّق بشيءٍ منه، ولم يُبَهرِجْ شيوخَه الذين عنهم أخذ وبِهِم تصدَّر، ووفَّى الفقهاءَ حقوقَهم من الفَضْل، ولم يبخَسْ الرواةَ حظوظَهم من النَّقْل، ورغَّبَ الرُّواةَ في التَّفقه، والمُتفقِّهةَ في الحديث، وقال بِفضْلِ الفريقين، وحضَّ على سلوك الطريقين؛ فإنهما يَكْمُلان إذا اجْتَمَعا، ويَنقُصان إذ افترقا)[7].

 

 

نصائح ووصايا للفقهاء والمُحدِّثين:

ما زال العلماء ينصحون المتفقهة والمحدِّثين ويوصونهم بوصايا نفِيسة، تنفعهم في مواصلة طريقهم إلى الله تعالى والدار الآخرة، ومن ذلك:

أولًا: وصية ابن الجوزي رحمه الله، حيث قال: (أمَّا العالِم؛ فلا أقولُ له: اشبع من العلم، ولا اقتصر على بعضه. بل أقول له: قدِّم المُهِمَّ؛ فإن العاقل مَنْ قدَّر عُمْرَه وعمل بمقتضاه، وإنْ كان لا سبيل إلى العلم بمقدار العمر، غير أنه يَبْني على الأغلب.

 

فإذا علِم العاقلُ أنَّ العمر قصير، وأنَّ العلم كثير، فقبيحٌ بالعاقل الطالبِ لكمال الفضائل؛ أنْ يتشاغل – مثلًا – بسماع الحديث ونسْخِه ليحصل كلُّ طريقٍ، وكلُّ روايةٍ، وكلُّ غريب.

 

وهذا لا يفرغ من مقصوده منه في خمسين سنةً؛ خصوصًا إنْ تشاغَلَ بالنَّسْخ ثم لا يحفظ القرآن، أو يتشاغل بعلوم القرآن ولا يعرف الحديث، أو بالخلاف في الفقه ولا يعرف النَّقْل الذي عليه مدار المسألة)[8].

 

وقال – في موطن آخر: (فاللازم في العلم طلبُ المُهم، فرُبَّ صاحبِ حديثٍ حَفِظَ – مثلًا؛ لحديث: "مَنْ أَتَى الجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ"[9] عِشرين طريقًا، والحديثُ قد ثَبَتَ من طريقٍ واحد، فشَغَلَه ذلك عن معرفةِ آداب الغُسْل)[10].

 

وذكر – في موطن آخر: (وقد كان المُحدِّثون قديمًا هم الفقهاء، ثم صار الفقهاءُ لا يعرفون الحديث، والمُحدِّثون لا يعرفون الفقه. فمَنْ كان ذا هِمَّةٍ ونَصَحَ نفسَه تشاغل بالمهم من كل علم، وجعل جُلَّ شُغلِه الفقه، فهو أعظمُ العلوم وأهمُّها)[11].

 

وأشار ابن الجوزي رحمه الله بأن على طالب العلم أن يتدرج في طلبه، واقترح ما ملخَّصه:

1- يبدأ بالقرآن وحفظه، وينظر في تفسيره نظرًا متوسطًا.

 

2- إن أمكن أخذ القراءات السَّبع.

 

3- يأخذ شيئًا من النحو وكتب اللغة.

 

4- ثم يبدأ بأصول الحديث؛ كالصحاح والمسانيد والسنن، ومن حيث علم الحديث؛ كالصحاح والمسانيد فلينظر في أصول ذلك.

 

5- ثم ينظر في كتب التاريخ؛ ليعرف ما لا يستغنى عنه؛ كنسب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقاربه وأزواجه وما جرى له.

 

6- ثم ليقبل على الفقه فلينظر في المذهب والخلاف، وليكن اعتماده على مسائل الخلاف فلينظر في المسألة وما تحتوي عليه فيطلبه من مظانِّه؛ كتفسير آيةٍ وحديثٍ وعلمِ لغة.

 

7- ويتشاغل بأصول الفقه وبالفرائض، وليعلم أن الفقه عليه مدار العلوم.

 

8- فإن اتَّسع الزمان للتزيُّد من العلم فليكن من الفقه؛ فإنه الأنفع.

 

9- ومهما فسح له في المهل فأمكنه التصنيف في علم؛ فإنه يُخَلِّفُ بذلك خَلْفَه خَلْفًا صالحًا[12].

 

 

ثانيًا: وصية الخطيب البغدادي رحمه الله، إذ يقول: (ورسمتُ في هذا الكتاب – لصاحب الحديث خاصة، ولغيره عامة - ما أقوله نصيحةً مني له وغيره: عليه أنْ يتميَّز عمَّنْ رَضِيَ لنفسه بالجهل، ولم يكن فيه معنى يُلحِقه بأهل الفضل، وينظر فيما أذهب فيه مُعظَم وقتِه، وقطع به أكثرَ عُمرِه من كَتْبِ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وجَمعِه، ويبحث عن علم ما أُمِرَ به؛ من معرفة حلاله وحرامه، وخاصِّه وعامِّه، وفرضِه وندبِه، وإباحتِه وحظرِه، وناسخِه ومنسوخِه، وغير ذلك من أنواع علومه، قبل فوات إدراك ذلك فيه)[13].

 

وقال أيضًا: (وليعلم أنَّ الإكثار من كتب الحديث وروايته؛ لا يَصير به الرجلُ فقيهًا، وإنما يتفقَّه باستنباط معانيه، وإمعانِ التفكير فيه)[14].

 

ثالثًا: وصية الرامهرمزي رحمه الله – لطلاب الحديث: (فتمسَّكوا - جبركم الله - بحديث نبيِّكم صلى الله عليه وسلم، وتبيَّنوا معانيه، وتفقَّهوا به، وتأدَّبوا بآدابه، ودَعُوا ما به تُعَيَّرون؛ من تتبُّع الطُّرق، وتكثيرِ الأسانيد، وتَطلُّبِ شواذِّ الأحاديث، وما دلَّسه المجانين وتَبَلْبَلَ فيه المغفَّلون، واجتهدوا في أنْ تُوفُوه حقَّه؛ من التَّهذيب والضَّبط والتَّقويم؛ لتشرفوا به في المشاهد، وتنطلق ألسنتُكم في المجالس، ولا تَحْفَلوا بِمَنْ يعترض عليكم؛ حسدًا على ما آتاكم اللهُ من فضله؛ فإنَّ الحديث ذِكْرٌ لا يُحبُّه إلاَّ الذُّكران، ونَسَبٌ لا يُجهل بكلِّ مكان)[15].

 

وهذا هو المنهج الوسطي المعتدل في التَّحصيل والطَّلَب؛ بحيث يجمع فيه الفقيه أدواته التي تُمكِّنه من الوصول إلى الرأي الصواب مُتَّبعًا سُنَّةَ النبي صلى الله عليه وسلم دونما إفراطٍ أو تفريط.

 


[1] صيد الخاطر، (ص 145).

[2] تلبيس إبليس، (ص 103).

[3] نصيحة أهل الحديث، (ص 44)، (رقم 23).

[4] معالم السنن، (1/ 3). وانظر: الفِصام المُبتَدع بين أهل الفقه وأهل الحديث، عقيل بن محمد المقطري (ص 72).

[5] المحدث الفاصل بين الراوي والواعي، (ص 320).

[6] أدب الطلب ومنتهى الأدب، (ص 80).

[7] المحدث الفاصل بين الراوي والواعي، (ص 161).

[8] صيد الخاطر، (ص 55) باختصار.

[9] رواه الترمذي، (1/ 143)، (ح 494) وقال: (حسن صحيح)؛ وابن ماجه، (1/ 157)،

(ح 1141). وصححه الألباني في (صحيح سنن الترمذي)، (1/ 279)، (ح 492).

[10] صيد الخاطر، (ص 68).

[11] صيد الخاطر، (ص 145).

[12] انظر: صيد الخاطر، (ص 55) بتصرف واختصار. وانظر: الفِصام المُبتَدع بين أهل الفقه

وأهل الحديث، (ص 93).

[13] الفقيه والمتفقه، (1/ 425).

[14] الفقيه والمتفقه، (1/ 430)؛ نصيحة أهل الحديث، (ص 37).

[15] المحدث الفاصل بين الراوي والواعي، (ص 161).