العلمانية

منذ 2022-06-05

وإذا رجعنا إلى تعريف العلمانيَّة سوف نجدُ بينها وبين التَّديُّن تناقضًا، لا مجال لرفعه وإزالته، وهذا التَّناقض قد اصطدمت به الحضارة الأوروبيَّة إبان عصر النَّهضة...

1- المصطلح:

تنطق بفتح العَين: "عَلمانيَّة"، بمعنى: "الدُّنيويَّة، أو اللاَّدينيَّة"، وينطقُها البعضُ بكسر العَين؛ نسبة إلى العِلم، وهو خَطَأٌ؛ إذ لا عَلاقة للكلمة بالعِلم، وتُستعمل في النِّسبة إليها بزيادة الألف والنُّون؛ فيقالُ: "علماني"؛ مثل: روحاني، وجسماني، وهى نسبة على غير قياس.

أ- وقد تناولت المعاجم اللُّغويَّة ودوائر المعارف هذا المُصطلح بالشَّرح والتَّحليل؛ لتوضيح معناه وبيان مَضمونه؛ ففي "دائرة المعارف البريطانيَّة": "إنَّ العلمانيَّة حركة اجتماعيَّة، يقصد بها صرفُ النَّاس عن الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بالدُّنيا وحدَها؛ ذلك لأنَّ النَّاس كانوا في العُصُور الوسطى يُركزون اهتمامهم في حياتهم على اليوم الآخِر والتَّأمُّل في الله، مُشتغلين بذلك عن الاهتمام بالدُّنيا وشؤونها؛ مِمَّا نتج عنه انتشارُ الفقر والجهل، وكان السَّبب في ذلك توجيهات وأوامر رجال الكنيسة، فظَهَر الاتجاه العلماني؛ لكي يُقاوم هذه النَّزعة، ويوجِّه الناس إلى الاهتمام بالدُّنيا، بدلاً من الاهتمام بالآخرة، والبحث في شؤون الإنسان، بدلاً من التَّأمل في الله وتنمية النَّزعة الإنسانيَّة، وتحقيق رغبات الإنسان في الدُّنيا القريبة، بدلاً من الإيمان بالوُعُود التي تدعو النَّاس إلى الإيمان بأنَّ هذه الرَّغبات سوف تتحقق لهم في الآخرة، ثُمَّ تطور هذا الاتجاه خلال مسيرته التَّاريخيَّة في أوروبا، وعُرفت العلمانيَّة على أنَّها حركةُ مُناهَضةِ المسيحية[1].

ب- جاء في قاموس "العالم الجديد"، لـ "ويستر": "إنَّ العلمانيَّة نظام من المبادئ والتَّطبيقات، وتُنادي بأن الدين أو الكنيسة لا دخل لهما في إدارة شؤون الدَّولة، أو نظام الحُكم، ولا علاقة لهما بوسائل التَّربية ومناهج التَّعليم والثَّقافة".

ج- وفى مُعجم "أكسفورد": "إنَّ العلمانيَّة هي الرأي أو الاتجاه الذي يقول: إنَّه لا ينبغي أنْ يكون الدِّينُ أساسًا للأخلاق أو التَّربية".

د- وفى المعجم الدولي الثالث: "إنَّ العلمانيَّة اتجاه في الحياة - الثقافيَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة - يقوم على مبدأ أنَّ الدِّين - أو الأوامر الدِّينية - يجب ألاَّ تتدخَّل في شؤون الدولة ونظام الحكم، واستبعاد كلِّ معنًى ديني من شؤون السياسة، وهو نظام اجتماعي يقوم على أساس أنَّ القيم الاجتماعيَّة والسلوكيَّة تقوم على التَّضامن الاجتماعي دون النَّظر إلى الدِّين"[2].

هذه هي أهم التَّعريفات لمعنى العلمانيَّة كما هو مدوَّن في معاجمهم وفى دوائر المعارف، وقد شاعَ استعمالُ المصطلح بهذا المعنى بين الباحثين؛ فهو يعني: إقصاء الدين عن شؤون الحياة سياسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا، ونَلْفِتُ النظر هنا إلى أنَّ المعنى المقصود من هذا المُصطلح هو إبعادُ الدِّين عن شؤون الحياة كلِّها، على مُستوى الفرد وعلى مُستوى الجماعة، وليس كما يقول البعض: إنَّها إبعادُ الدِّين عن نظام الحكم والسياسة فقط، والفرق كبير بين المعنيين؛ فهي ليست فصلَ الدِّين عن السياسة، ولو كان المعنى هو فصْل الدِّين عن نظام الحُكم لكان الخطبُ أهون، لكن المعنى الحقيقي للمصطلح هو إقصاء كلِّ معنى ديني أو إيماني عن المُشاركة في حركة المُجتمع للفرد أو الجماعة على سواء.

ولَمَّا كان تطبيق هذا المعنى له خُطُورته في حياة الشُّعوب، فإنَّ موقف الدُّول قد تفاوت في تطبيق العلمانيَّة؛ فبعض الدول قد تطرَّف في التطبيق؛ فأقصى الدِّينَ تَمامًا عن شُؤون الحياة، ولم يكتفِ بذلك، وإنَّما أضاف إلى هذا الموقف أنَّه أقام المؤسسات التي جعل مُهمتها مُحاربة الدِّين  والعمل على نشر الإلحاد بين الشُّعوب التي خَضَعت لسلطان هذه الدُّول، وهذا الموقف المُتطرف نجده واضحًا في النِّظام الشُّيوعي والدول التي خضعت لسُلطانه؛ فكان من أوَّل ما فعلته في هذه الدُّول التي احتلتها: هدْمُ المساجد ودور العبادة، ومُطاردة رجال الدِّين، والقضاء على التَّعليم الدِّيني في هذه البلاد، وازدحمت السُّجون والمُعتقلات برجال الدِّين من كلِّ ملَّة، وأشاعت بين مُثقفيها أنَّ الدِّين أفيونُ الشُّعوب، ووسيلة لتسلُّط الكنيسة على رقاب الكادحين.

وكانت هناك صورة أخرى لتطبيق العلمانيَّة في دول أوروبا الرأسماليَّة؛ حيثُ اكتفت بإقصاء الدِّين عن شؤون الحُكم ونظامه، وتركت للأفراد حُرِّية الاعتقاد والأخذ بما تشاء من أوامر الدِّين، ولكلِّ فرد الحقُّ في أنْ يُحدد موقفه من الكنيسة قبولاً أو رفضًا، إيمانًا بها أو كفرًا بمبادئها، وفى داخل هذا الإطار المُعتدل نسبيًّا كانت مواقف الدول أيضًا مُتفاوتة؛ فبعضها حدَّد للكنيسة مجالَ نشاطها، وهو العمل على تنمية الجانب الرُّوحي والإيماني، وشجَّعتها على التبشير بالإنجيل وتعاليمه بين الشُّعوب التي لا تدين بالمسيحيَّة، ورَصَدت لها الميزانيَّات الضخمة، وباشرت نشاط الكنيسة التبشيريَّة وشجعته، وأكبر مثال لهذا الاتجاه هو موقف فرنسا التي أعلنت نفسها حامية للمذهب الكاثوليكي في العالم، ولا نبالغ إذا قلنا: إنَّ هذا موقف دول أوروبا وأمريكا الآن في القرن الحاضر.

فلا نجد دولة إلاَّ ولها مُؤسساتُها التبشيريَّة في العالم شرقًا وغربًا، وتؤكد المفاهيم على المعنى السابق لمصطلح العلمانيَّة، فهو ليس نسبة إلى العلم، إنَّما هو وثنيَّة في مُقابل الدينيَّة، أو النِّظام اللاديني في مُقابل النظام الديني، والمراد بلفظ الديني هنا هو النِّظام الكَنسي، وليس الدِّين بالمعنى العام، وترتَّب على شُيُوع هذا المصطلح أنَّ أوروبا فصلت فصلاً تامًّا بين ما هو كنسي، وما هو دنيوي، وجعلت سلطة الكنيسة مقصورة على مُمارسة حقِّها في السُّلطة الروحيَّة فقط، ولا شأن لها بأمور الدَّولة أو إدارة شؤونها السياسيَّة والاجتماعيَّة، وسار الفصل بين السُّلطتين الدينية والدنيوية أمرًا واقعًا في أوروبا.

ولعل من المفيد أنْ ننبه هنا إلى ضرورة التَّفرقة بين التَّسلُّط الكنسي الذي ترفضه العلمانيَّة والدين المسيحي بصفة عامة، ذلك أنَّ الدول التي رفضت التسلط الكنسي لم ترفض الدين المسيحى كعقيدة يُؤمن بها الأفراد أو يرفضونها حَسَبَ حريتهم الشخصية؛ فإنَّ مُعظم دول أوروبا على هذا النَّحو الذي أشرنا إليه سابقًا؛ فهي لم تُحارب المسيحيَّة، ولكنها أقصتها عن نظام الدولة، وهذه التفرقة مُهمَّة جدًّا؛ لأنَّ بعض الباحثين يرى أنَّ العلمانيَّة اتجاه مُحايد، وليس مُناهضًا للدِّين، ويستدل على رأيه بموقف دول أوروبا من المسيحيَّة؛ فهي لا تحارب المسيحية، ولكنَّها لا تأخذُ بها في نظام الحُكم، والعلمانيَّة عند أصحاب هذا الرأي لا تعني اللادينيَّة، ولكنها تعني - كما سبق أنْ أوضحنا – أنَّها ليست إقصاء الدِّين عن نظام الحكم فقط، ولكنَّها إقصاء الدين عن نظام الحياة كلها: حياة الفرد وحياة الجماعة، سواء في ذلك الحياة الثَّقافيَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة.

ولقد ترتَّب على هذا الفصل بين الديني والدنيوي أنْ ظهرت الازدواجيَّة في شؤون الحياة كلِّها؛ فَظَهرت المدرسة المدنيَّة بجانب المدرسة الدينيَّة، والحُكم الديني بجانب الحكم العلماني الدنيوي، والدولة الدينية في مُقابل الدولة المدنيَّة.

2- ظروف النشأة وأسبابها:

كان المجتمع الأوروبي يعيش في العُصُور الوسطى حياة تُحيط بها ظروفٌ معيشيَّة قاسية؛ فالفقر والجهل كانا صفتين لازمتين لسُكَّان هذه المناطق، وكان النَّاس يخضعون في سُلُوكهم وعلاقتهم الاجتماعيَّة لعادات وتقاليد أشبه بالجاهليَّة الأولى؛ فحياة القبيلة والتعصُّب لها، والتَّعبُّد بعاداتها، والخُضُوع لتقاليدها، والقتال دونها - كانت كلها الشُّغل الشاغل لسُكَّان هذه المناطق، أمَّا بالنسبة للدِّيانة الرسمية التي كانوا يعتقدونها؛ فقد فَرَضت عليهم الإمبراطوريَّة المُتعاقبة عبادةَ المسيح، بدلاً من عبادة الله، أو بدلاً من عبادة الإمبراطورية، وظلَّت أحوال أوروبا فيما يعتقدون أنه نهضة، وكان من الطبيعي للإنسان الذي يعيشُ تحت هذه الظُّروف أن يُؤمن بكُلِّ ما يُلقى عليه، ويَخضع لكلِّ ما يطلب منه، ولم يكن هناك من سُلطة تفرضُ على النَّاس أوامرها، وتطلبُ منهم تنفيذها إلاَّ سلطة رجل الدين، وأدَّى ذلك إلى نوع من التسلُّط الذي تعاملت به الكنيسة مع النَّاس، فأذلُّوا رقابهم، ونَهبوا أموالهم تحت اسم الدين، وسوف نركِّز على نُقطتين مُهمَّتين كانا من أهمِّ العوامل التي ساعدت على ظُهُور العلمانيَّة وشيوعها.

أ- طغيان الكنيسة وتسلطاتها:

لقد ساعدت الظُّروف التي عاشتها أوروبا على خَلْق طبقة من الطُّغاة تستَّروا باسم الدِّين، وفرضوا على النَّاس مجموعة من العقائد والأوامر، التي لم ينزل بها وحي، ولم يُقِرَّها عقل، ولا يقبلُها الواقع؛ ففرضوا الضَّرائب الباهظة على النَّاس، وجمعوا الأموال، وملكوا الإقطاعات الكبيرة، وسخَّطوا النَّاس؛ فيسخرونهم للعمل بها بلا أجر، مقابل وُعُود مزعومة سمعوها من رجال الكنيسة، وادَّعى هؤلاء لأنفسهم الحقَّ الإلهي في تنصيب الإمبراطور وعزله عن الحُكم، وكان هذا الزَّعم الخاطئ سببًا في خَلْق نوع من التَّحالف بين رجال الكنيسة من جانب والإمبراطور، الذي يقومون بتنصيبه حاكمًا من جانب آخر؛ فكان الإمبراطور وكيلاً عن الكنيسة في تنفيذ أوامر رجالها، وفرضت الإتاوات، وجمعتها نيابة عنهم من النَّاس؛ وبالتالي كان رجال الكنيسة يباركون كلَّ فعل يقوم به الإمبراطور، وكل أمر يفرضُه على الرَّعيَّة، وكان هذا التحالف سببًا في إيجاد نوع من الكراهية الشديدة لرجال الدِّين والإمبراطور معًا.

وظهر في المجتمع الأوروبي طبقتان متميزتان هما: طبقة النُّبلاء والحُكَّام، وطبقة رجال الدِّين، وما عدا هاتين الطبقتين فكانوا رقيقًا وعبيدًا يعملون في خدمة الطَّبقتين السابقتين سخرة بلا أجر، وزاد طُغيان الكنيسة؛ فحرَّمت على الناس ما أحلَّ الله لهم:

• فحرمت عليهم الختان بعد أنْ كان حلالاً.

• وحرَّمت زواج رجال الدِّين بعد أنْ كان حلالاً.

• وفرضت عقيدة التَّثليث التي لم يقبلها عقلُ المفكرين والعُلماء.

ثُم حدث نوع من الصِّراع الدَّفين بين رجال الكنيسة من جانب والإمبراطور من جانب آخر، وأخذ كلٌّ منهما يتربص بالآخر، ويتحيَّن الفرصة للخلاص منه؛ فقد ضاق الإمبراطور ذرعًا بطغيان الكنيسة، ومُحاولة السَّطو على سياسته، والتدخل الكثير في شؤون السياسة والدولة، ومع هذا الشعور بالكراهية، فإنَّه لا يَملك حقَّ الرفض لأوامر الكنيسة؛ لأنَّه - حسب زعمهم - ينفذ أوامر الله، وأنَّ خُضُوعه لسلطانها ليس اختياريًّا ولا تطوعًا منه، ومن هنا كان رجال الكنيسة يُهدِّدون الإمبراطور بالطَّرد والعزلة عن الحكم كثيرًا، ويذْكُر التَّاريخ أنَّ بعض رجال الكنيسة، وهو "جريجوري السابع" قال: "إن الكنيسة جديرة بأنْ تكونَ صاحبة السُّلطة العالمية، ومن حقِّ البابا أنْ يَخلع المُلُوكَ غير الصالحين، وأن ينصب ويؤيد من يراه من البشر صالحًا للحكم حَسَبَ مُقتضيات الأحوال"، وقد مارس "جريجوري" هذا الحقَّ عمليًّا مع إمبراطور ألمانيا "هنري الرابع"، حين اختلف معه في بعض المسائل، فأعلن الإمبراطور خَلْع البابا وعزله عن الكنيسة، وكان الرد على ذلك أنْ أعلن البابا خلع الإمبراطور وعزله عن الحُكم، وزاد عن ذلك أنْ حَرَمه من رحمة الكنيسة، وعيَّن أحد خلفائه في مكانه، وأخذت الفجوة تتسع بين الكنيسة والإمبراطوريَّة تدريجيًّا؛ حتَّى أعلنت الإمبراطوريَّة الفصل التام بين السُّلطتين: بين السُّلطة الدينية والسُّلطة المدنية، وذلك بعد شُيُوع الاتجاه العلماني وتطبيقه.

ب- بين حقائق العلم وخرافات الكنيسة:

لقد ادَّعى رجال الكنيسة لأنفسهم حقَّ تفسير الظواهر الطبيعية، وأقحموا أنفسهم وأقحموا المسيحيَّة معهم في مجالات علميَّة لا علاقة لهم بها، وليس للدِّين فيها رأي لا سلبًا ولا إيجابًا، وإنَّما يُتركُ تفسير الظواهر العلمية لأهل المعرفة بها من العُلَماء كلٌّ في مجال تخصُّصه، وكان مطلب الدين من المؤمنين به أن يؤمنوا بالموجود على ما هو عليه في الوُجُود، على أنَّه آيةٌ دالّة على خالقه، ويُترك تفسير هذا الوجود بظواهره المُختلفة للعلماء به عن طريق الكشف عن قوانينه، وترابُط الأسباب بمسبباتها، ولم يحدد الدين رأيًا معينًا ألزم النَّاس به، لا في حركة الأفلاك، ولا في تفسير الظواهر، ولا في أصل الكون، وإنَّما تَركَ للعقل أنْ يبحث، ويطرح الأسئلة، ويبحث عن الإجابات، ولكن رجال الكنيسة ادَّعَوا أنَّهم وحدَهم يملكون حقَّ تفسير الظواهر، وأنَّهم وحدَهم أصحاب الرأي القاطع في هذه المسائل، ومما زاد الطين بلَّة أنَّ هذه الآراء وتلك التفسيرات التي قالوا بها نسبوها إلى الدِّين، وادَّعَوْا لها العصمة؛ فخلطوا بين نُصُوص الوحي وآراء الرجال، وطلبوا من النَّاس أن يؤمنوا بآرائهم على أنَّها وحي مُنَزل معصوم من الخطأ، وأنَّ الخروج على هذه الآراء كفر وإلحاد، يعاقب صاحبه بالطَّرد والحرمان من رحمة الكنيسة، ولقد سيطر على عُقول أوروبا في العُصُور الوسطى بعضُ النَّظريَّات الخاطئة حول الأفلاك وحركتها، وأنَّ الأرض هي مركز الكون كما قال بطليموس، وبعض آراء أرسطو في النَّفس، واختلطت هذه الآراء بأصول المسيحيَّة، وصارت أصلاً من أصول العقيدة عندهم؛ حيثُ تبنَّتها الكنيسة، وآمنت بها، ودعت إلى الإيمان بها.

ثم بدأت أنوار عصر النَّهضة تزحف إلى أوروبا مع الحضارة الإسلاميَّة خلال منافذ ثلاثة: في الأندلس، وصقلية، وجنوب إيطاليا، وبدأت أوروبا تتعرَّف على مناهج البحث العلمي والتَّجربة العِلميَّة، من خلال تعرُّفها على تُراث المسلمين في هذه المناطق الثلاثة - خاصةً الأندلسَ - وبدأ العقل الأوروبي يستيقظ من سُبات الجهل والغفلة؛ ليتعرَّف على خُطُوات المنهج التجريبي الذي يبدأ بملاحظة الظَّاهرة، والتساؤل عن أسبابها، وافتراض مجموعة من الفُرُوض التي يتوقع الإجابة في واحد منها، وأخذوا يتعاملون مع الظَّواهر الكونيَّة بهذا المنهج التجريبي كطريق يقيني للمعرفة، ورفضوا تمامًا الأخذ بآراء الكنيسة أو الخضوع لسُلطانها؛ لأنَّهم فتَّشوا في آرائهم فلم يجدوا فيها ما يقنع العقل أو يعبر عن الحقيقة، وإنَّما وجدوها مَحض خُرافة قدَّسوها باسم الدِّين، والدينُ منها براء، غير أنَّ العلماء لم يسلم لهم هذا المناخ طويلاً؛ فسَرْعان ما بدأ الصِّراع بين رجال الكنيسة، ونادَوا بمُحاربة هذا الوافد الجديد - العلم - الذي تعلمه هؤلاء من الكفَّار - المسلمين - الذي جاؤوا به إلى أوروبا، واعتبرت الكنيسة آراء العلماء وساوس شيطانيَّة يجب مُحاربتها، ولو أنصفوا أنفسهم ودينهم لخضعوا لرأي العُلماء، ونادَوا به ودعَوا إليه؛ لأنَّه حقائق العلم وما عداه زيف وخُرافة.

وكانت بداية الطَّريق في هذا الصِّراع هي نظرية "كوبرنيق" (1543م)، التي اكتشف صاحبها: أنَّ الأرض ليست هي مركز الكون - كما تدَّعي الكنيسة، وكما قال بطليموس - وأنَّ الأفلاك لا تدور حول الأرض، ووَضَع "كوبرنيق" كتابه عن "حركة الأجرام السماويَّة" شرح فيها نظريَّته تفصيلاً، وبيَّن آراءه في حركة الأفلاك، وكانت على النَّقيض تمامًا مما تدين به الكنيسة؛ فأعلنت الكنيسة الحرب على "كوبرنيق"، ولم يفلت من العقاب إلاَّ بسبب موته قبل طباعة هذا الكتاب، وأعلنت الكنيسة أنَّ كلَّ ما جاء في هذا الكتاب مُخالف لروح الإنجيل، وأنَّه وساوس شيطانيَّة.

 

غير أنَّ نظريَّة هذا العالم لم تَمُت بموته؛ فقد جاء بعده من أحياها من بعده، وأعلن أنَّ ما فيها هو حقيقة العلم الذي يجب قَبوله ورفض ما عداه، وكان هذا العالم هو "جرادنوا برونو" الذي قدَّمته الكنيسة للمحاكمة؛ حيثُ قضت عليه مَحكمة التَّفتيش بالحبس ست سنوات، ولما لم يَتَراجع عن رأيه أمروا بإحراقه (1600م)؛ ليكون عبرة لغيره من العُلماء الذين يخرجون على سُلطة الكنيسة.

ثم جاء "جاليليو" الذي اخْتَرع التلسكوب، وأثبت بالتَّجربة العلمية صِحَّة نظرية "كوبرنيق"، واعتنق رأيه، ورفض رأي الكنيسة، وكان جزاؤه أنْ قُدِّم لمحكمة التَّفتيش، وقَضَى عليه سبعةٌ من الكرادلة بالسِّجن، وأمروا بتلاوة مزامير التَّوبة والنَّدم في كلِّ أسبوع لمدة ثلاث سنوات، ثُمَّ أعلن توبته، وهو راكع على قدميه أمام رئيس المحكمة.

 

هذه نماذج قليلة من العلماء الذين واجهوا مصيرَهم المُؤلم أمام رجال الدِّين؛ بسبب رفضهم لخرافات الكنيسة، وتَمسكهم بحقائق العلم الذي توصَّلوا إليه خلال بُحُوثهم وتجاربهم العلميَّة، وإذا كان الصراع في هذه الفترة قد اقتصر على بعض الشخصيَّات من العلماء والمُفكرين؛ فإنه قد اتَّخذ شكلاً آخر في القرن السابع عشر والثامن عشر، فبعد أنْ كان الصِّراع قائمًا بين الكنيسة و"جاليليو" أو "كوبرنيق" أو "برونو" - فإنَّه أصبح فيما بعد صراعًا بين الدِّين والعلم، بين الدِّين الذي تدَّعيه الكنيسة، والعلم الذي توصل إليه العلماء أو بين الوحي والعقل.

وبدأ العلماء في القرن الثامن عشر نهضتهم العلمية، وهم مُتربِّصون بكلِّ ما هو ديني، رافضون له، مُتمرِّدون عليه باسم العلم أحيانًا، وباسم العقل أحيانًا، وباسم حقائق الطبيعة أحيانًا أخرى، ولم يعد هناك نصٌّ يستحق أنْ يُوصف بأنَّه نصٌّ مقدس يعلو على نقد العقل، أو يُمثل مرجعًا يعودون إليه كمصدر للمعرفة، بل أصبح الكتاب المُقدَّس نفسه موضعًا للنَّقد والشكِّ معًا.

وارتفع صوت العلماء ينادون بتقديس العقل والعلم ومُحاربة الدِّين، ورفضوا النَّص، ونبذوا كلَّ القُيُود التي تعوق حركة العقل في سبيل الكشف عن الحقائق الكونيَّة، وقَوَّى هذه الدَّعوةَ الكشوفُ العلميَّة التي وصل إليها العُلماء فيما بعد؛ أمثال "نُيُوتن" وقانون الجاذبيَّة، وأسهمت كلُّ هذه الاكتشافات في زَلزَلة أركان الكنيسة، وارتفاع صوتِ العلم والعقل خلال القرن السابع عشر والثَّامن عشر؛ بحيث جاءت الثورة الفرنسية 1797م كمطلبٍ ضروري لحسم هذا الصِّراع لصالح العلم والعقل في مُواجهة الكنيسة وخُرافاتها، وفتحت هذه الثَّورة الباب على مِصراعيه؛ لتنقل الصِّراع إلى العوام من النَّاس بعد أن كان مقصورًا على طبقة المُفكرين من الفلاسفة والعلماء فقط، وأصبح الأرقَّاء والعبيد وعوام النَّاس هم روَّاد الثَّورة على الكنيسة، وعلى الحكام في آنٍ واحد، وتَمخَّضت الثَّورة الفرنسية عن نتائج كان لها أثَرُها في سيادة مَنطق العلمانيَّة في مُواجهة الدين والتديُّن.

فقد ظهرت في أوروبا المسيحية لأوَّل مرة في تاريخها دولة لا دينيَّة هي فرنسا، تقوم فلسفتها في الحُكم على الديمقراطية التي تحكم باسم الشَّعب وليس باسم الله، وتقوم عقائدها على حرِّية التدين، بدلاً من المذهب الكاثوليكي، وعلى الحرِّية الشخصيَّة، بدلاً من الالتزام بالقيم الأخلاقيَّة أو الدينية، وعلى دستور وضعي بشري، بدلاً من قرارات الكنيسة، وكان من أوَّل أعمال هذه الثَّورة حلُّ الجمعيَّات الدينيَّة، وتسريح الرهبان والراهبات، ومصادرة أموال الكنيسة، وإلغاء كل الامتيازات الممنوحة لرجال الكنيسة، وتحويل رجل الدِّين إلى مُوظَّف حُكُومي يعمل تحت رِقابة الدَّولة، بدلاً من أن تكون الدولة هي التي تعمل تحت رقابته.

وساعد هذا المناخ على شيوع الفكر اللاديني في أنحاء أوروبا خاصة فرنسا، وتبلور هذا الفكر اللاديني في اتجاهات فكريَّة مُتميِّزة، أسهمت إلى حدٍّ كبير في نشأة المذاهب الفلسفيَّة والعمليَّة التي تُحارب الدين، وتناهض التَّدين، وتعتبر رجل الدين رمزًا للتَّخلف والجهل، وداعية إلى الخرافة؛ وكلِّ المذاهب الفلسفيَّة الإلحاديَّة، والوضعية المنطقية، والطبيعيَّة، والاجتماعيَّة، وأخذ عُلماء هذه المذاهب يدعون إلى تَأْلِيهِ العلم وعبادة العقل، وكان كتاب جان جاك رسو "العقد الاجتماعي" هو إنجيل الثَّورة الفرنسية المقدس؛ حيثُ استبدل فيه مصلحة الوطن بالأخلاق والنظم الدينية، وأحل عبادة الوطن مَحل عبادة المسيح، كما نادى أنصار المذهب الطبيعي بإحلال الطبيعية وقوانينها محلَّ الدين، وصرح "فولتير" بأنَّ: "دين أهل الفكر دين رائع جدًّا؛ لأنَّه خالٍ من الخرافات والأساطير، وخالٍ من العقائد التي تهين العقل".

 

ويُمكن القول: أنَّ الثورة الفرنسية قد حوَّلت العلمانيَّة من مبادئ نظرية إلى واقع عَمَلي عاشته فرنسا، وصُدِّرَتْ هذه المبادئ العلمانية إلى سائر أوروبا، فلم يعدْ هناك نصٌّ مقدس، ولا دين يجب الأخذ بتعاليمه، وعمَّ ذلك كلَّ دول أوروبا، وجاء القرن التاسع عشر الذي شهد خُضُوع العالم الإسلامي شرقًا وغربًا للاستعمار؛ فاحتلت إنجلترا وفرنسا مُعظم أقطار العالم العربي، وكان من مُهمة الجيوش المُستعمرة نشر هذا الفكر العلماني، والعمل على تدعيم أركانه في سائر البلاد التي احتلوها، وهى كلُّها بلاد إسلامية.


بين العلمانية والتدين:

قضية التدين:

التَّديُّن من الأمُور التي لا تحتاج إلى دليل لإثبات صحَّتها؛ لأنَّها قضية فِطرية، وغريزة إنسانيَّة، وحاجة نفسيَّة؛ فإنَّ الله - تعالى - قد فطر الإنسان على مَحبة الخير، ومحبة الحق، وتحصيلهما، والسعي إليهما، والاطمئنان لهما، ومن منطق هذه الغريزة الفطريَّة نجد كل إنسان - بل كل كائن حي - يسعى جاهدًا لما يظنُّه خيرًا له، وما يعتقد أنَّه الحق، ويسعى في طلبهما، وقد يُقاتل دونهما، وهذا أمرٌ يُحِسُّه كلٌّ منّا في داخله بحيث لا يحتاج إلى برهنة أو استدلال، فأنت ترى الطِّفل حين يُولد مدفوعًا إلى التقام ثدي أمِّه، دون مُعلم ولا مُرشد؛ كما لو كان مدرَّبًا على ذلك من قبل، وليس هذا في طفل الإنسان فقط، بل نجده في طفل الحيوان أيضًا؛ وذلك استجابة لتلك الغريزة الفطرية التي فطر الله عليها كلَّ كائن حي؛ محبةً للخير، ومحبةً للحق، وتحقيقًا لما يظنُّه الإنسان خيرًا، تجده مُرتبطًا في أوَّل عهده بالحياة بأمِّه التي يتغذَّى منها، ويظُنُّ أنَّها مصدر الخير له، ثُم تجده بعد ذلك يرتبطُ بوالده، ثُم بأستاذه، ثم برئيسه في العمل، وقد يظلُّ ذلك الارتباط طويلاً؛ لغلبة الظَّن أنَّ هؤلاء جميعًا مصدر الخير له، فإذا ما تعرَّف الإنسان على ربِّه، وآمن بأنه الخالق الرازق، والمُعطي والمانع، والضار النافع، وأنَّ كل هذه الوسائط أسباب مُسخرة؛ لتستقيم بها حركة العُمران في الكون، إذا ما تَمَّ له ذلك فإن قلبه يتعلق بالله تعالى باعتباره مصدرًا لكلِّ خير، وصاحب كل نعمة؛ كما قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53].

تراه قد اطمأن بذلك قلبه، وهدأت نفسه، وبدأ يتعامل مع النَّاس، بل مع الكون كلِّه على أنَّه رسائل سخَّر الله بعضها لخدمة البعض الآخر، فالكُلُّ في خدمة الكلِّ، وهذا قانون عام، يجب أن يتنبه له الإنسان جيِّدًا، وهذه هي سُنة من سنن التدافع في الكون، ونوع من قانون التسخير العام الذي نبهنا إليه القرآن الكريم.

وهنا أمرٌ يجب أنْ ننبه إليه، وهو أنَّ قضية الاعتقاد في الرَّب الخالق قضية فطرية أيضًا، فطر الله الجميع عليها؛ كما قال صلَّى الله عليه وسلم: «كُلُّ مولود يولد على الفطرة، فأبواه يُهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يُمجِّسانه؛ كما تلد البهيمة بهيمة جَمْعاء، هل تُحسُّون فيها من جَدْعَاء»؛ والفطرة المقصودة هنا هي الإسلام، هي دين جميع الأنبياء، هي الحنيفيَّة؛ ففي الحديث الصحيح الذي رواه صلى الله عليه وسلم عن رَبِّه: «خلقت عبادي حُنفاء، فاجتالتهم الشياطين، وأحلَّت لهم ما حرَّمت عليهم»؛ وهذه الفطرة هي الأساس النَّفسي الذي اعتمد عليه الأنبياء في مُخاطبة أقوامهم بالإيمان بالله خالقًا وإلهًا معبودًا، وخاطبهم الوحي مُذكِّرًا لهم بهذه الفطرة الموجودة في نُفُوسهم سلفًا.

ومن هنا جاء خطاب القرآن في هذه القضيَّة بأسلوب التَّذكير، وحصر القرآن وظيفة الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - في هذه القضيَّة؛ {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية: 21]، {إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاَغُ} [الشُّورى: 48]، وسُمِّي القُرآن نفسُه تذكرة؛ فقال: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ} [المزمل: 19]، والحديث في هذه القضيَّة يحتاجُ إلى تفصيل ليس هذا موضعه، ولكنَّنا أردنا بذلك أنْ ننبه إلى أنَّ كلَّ إنسان قد فطره الله على الاعتقاد الذي هو جوهر الإيمان، وهذا الاعتقاد حاجة نفسيَّة، وضرورة إنسانيَّة، وحاجة النَّفس إلى الاعتقاد أكثر إلحاحًا على الإنسان من حاجته إلى الطَّعام والشَّراب، وقد يضلُّ الإنسان أحيانًا في اعتقاده، وقد يخترع الإنسان لنفسه ما يتوسَّم فيه الخير؛ فيطلبه ويعبده ويقصده ويتوجه إليه؛ كما هو الشأن في أصحاب الأديان الوضعيَّة والأساطير الشعبيَّة، وكانت من مُهمة الأديان تصويب هذا الاعتقاد، وتصحيح مساره نحو الحقِّ الكامل؛ لإشباع هذه الحاجة النَّفسيَّة، ولتذكير الإنسان بربِّه الخالق؛ فيعبده ويتوكل عليه.

وليس ذلك إلاَّ لأنَّ التَّدين أصيل في النَّفس الإنسانيَّة، والإلحاد عارض عليه، التَّدين فطرة والإلحادُ حالة طارئة؛ لعلَّة مرضيَّة وشبهة عارضة.

ولو تأملت تاريخ الحضارات الإنسانيَّة شرقًا وغربًا سوف تلاحظ أنَّ الإلحاد في كلِّ حضارة شذوذ، وخروجٌ على الأصل، ولعلَّ أكبر دليل على هذا أنَّ تاريخ الحضارات الإنسانيَّة يحتفظ بأسماء المُلحدين في كلِّ عصر وفى كل ملة؛ وذلك لنُدرتِهم وشذوذهم، ومن هنا فإنَّ كل مذهب فكري أو سياسي أو اجتماعي جعل مُهمته أنْ يحارب التدين أو يعارضه؛ فإنَّه محكوم عليه بالفشل، ويحمل معه دليلَ فساده، ويكون هو برهانًا على زَلَلِ أصحابه.

وليس ذلك إلاَّ لأنَّ الإلحاد يُناقض الفطرة الإنسانيَّة ويعارضها، وكل أمر معارض للفطرة؛ فإنه مرفوض في منطق العقل وتحكيم الواقع، ومن هنا كان التَّدين أمانًا للنُّفوس واطمئنانًا للقلب، وحاجة النَّفس إلى التَّدين كحاجة الجسم إلى الطَّعام، وكما أنَّ المعدة لا ترفض الطعام إلاَّ لمرضٍ طرأ عليها، فكذلك النُّفوس لا ترفضُ التدين إلاَّ لعلَّة عارضة وشبهة طارئة، وإذا زالَ المرض عادت النَّفس إلى حالتها من الصِّحة، فتقبل التَّدين الذي هو مُقتَضَى فطرتها.

 

وإذا رجعنا إلى تعريف العلمانيَّة سوف نجدُ بينها وبين التَّديُّن تناقضًا، لا مجال لرفعه وإزالته، وهذا التَّناقض قد اصطدمت به الحضارة الأوروبيَّة إبان عصر النَّهضة؛ حيثُ لم تستطع أن تتخلص أبدًا من الإيمان بالمسيحيَّة كعقيدة يؤمن بها الغرب، وتَدينُ بها شُعُوبُه؛ فتركت للنَّاس حُرِّية الاعتقاد بخلاف الدُّول الشُّيوعيَّة التي حاربت التَّدين وناصبته العداء، ولم يدُم ذلك طويلاً، وكان مآلَها الانهيارُ والخراب، وهذا الموقف جعل بعض الباحثين يذهبُ إلى القول بأنَّ العلمانية في أوروبا محايدة، ولم تصطدم بالدين.

العلمانية في العالم الإسلامي:

وإذا رجعنا بذاكرتنا إلى تعريف العلمانية سوف نجد أنَّ بينها وبين التَّدين - خاصَّة الدين الإسلامي - تناقضًا لا مجال لإنكاره أو التَّهرُّب منه؛ ذلك لأنَّنا أمام أمرين:

الأول: أنَّ العلمانية - كما سبق أنْ بينَّا - ترفُُضُ الدين كمصدر وأساس للحكم - وطبعًا الدِّين المقصود هنا المسيحيَّة - كما ترفض العلمانية أن يكون للدِّين أيُّ أَثَر في توجيه حياة المجتمع، لا سياسيًّا ولا ثقافيًّا ولا اجتماعيًّا، وينبغي إقصاؤه عن مناهج التربية والتعليم.

 

وسبق أن عرفنا الأسباب التي دفعت أوروبا إلى اتِّخاذ هذا الموقف من رجال الدِّين وسلطة الكنيسة، والسؤال المطروح هنا:

هل هذه الأسباب موجودة في الإسلام؟

إذا كان تسلط الكنيسة على العُلماء ورفضها للعلم سببًا في ظُهُور العلمانيَّة في الغرب، فهل الإسلامُ يرفضُ العلم أو يحارب العلماء؟ وهل الإسلام هو الكنيسة؟ وهل رفضت أوروبا التدين بالمسحية أم رفضت تسلُّط رجال الكنيسة؟ هل ادَّعى علماء الإسلام أنَّهم يملكون حقَّ تفسير الظواهر الطبيعية كما ادَّعت ذلك الكنيسة؟ هل ادَّعى أحد من علماء المسلمين أنَّه يملك حقَّ المنح والمنع من رحمة الله كما فعلت الكنيسة؟ هل ادَّعى أحد من العُلماء أنَّ بيده مفاتيح الجنة يعطيها لمن يشاءُ ويمنعها عمَّن يشاء؟

هذه أسئلة - وغيرها كثير - يجب طَرْحها على العلمانيين في بلاد المسلمين؛ لأنَّ هذه الأسئلة حاسمة في الموقف الثَّقافي بكامله، ولْنعُدْ هنا إلى سؤال آخر أكثر أهمية: ما هي مُبررات العلمانية في عالمنا الإسلامي؟

إنَّ موقف الإسلام من العلم والعُلماء وشُمُوله لنظام الحياة وسياسة الحُكم سَبَق الحديث عنه بالتفصيل عند حديثنا عن المشروع الإسلامي للتنوير، وسوف نوجز القول هنا عن:

آثار الفكر العلماني في بلاد المسلمين:

• من المعلوم أنَّ الثَّقافة الإسلاميَّة بفروعها المختلفة في العقيدة والشريعة، في السياسة والاقتصاد، في الأخلاق والتربية، في الاجتماع والحضارة - تأخذُ كلُّها من معين واحد هو مصدر الإسلام: الكتاب والسُّنة، ومعنى ذلك أنَّها ثقافة دينية تدور في فلك الإسلام بأصوله وفروعه، الثابت فيها والمتطور؛ فهي نظام شامل، ومنهج متكامل للحياة بأكملها، على مُستوى الفرد والجماعة، والنِّظام العلماني لا يسمح لأيِّ فكر ديني أن يُشارك في حركة الحياة، أو يُساهم في إدارتها، سواء كان ذلك على مُستوى الحُكم والسياسة، أم على مُستوى الفكر والثقافة والتربية، ومعنى ذلك أنَّ مُهمة الدِّين عندهم لا تتعدَّى مُمارسة الشعائر على مستوى الفرد فقط، ولا يتعدَّى ذلك حُدُود علاقة الفرد بربِّه؛ وذلك هو تفريغ الإسلام من محتواه، وعزله تمامًا عن الإسهام في حركة الحياة؛ كما هو الشأن في موقف أوروبا من الكنيسة.

وفى هذه الحالة لا بُدَّ من طرح سؤال: ما نوعُ الثَّقافة المطلوب إحلالها مَحلَّ الثَّقافة الإسلامية؛ لتملأَ على المُجتمع فراغَه الثَّقافي والفكري؟ ما النَّموذج الثقافي المطلوب إحلاله مَحلَّ الثَّقافة الإسلاميَّة؛ لننظم به شؤون حياتنا؟

والإجابة على هذه الأسئلة واضحة للجميع؛ فإنَّ النَّموذج المطروح علينا الآن، والمطلوب منا الخضوع له هو النموذج الأوروبي؛ لأنَّ الثقافة الغالبة والمطروحة إعلاميًّا هي ثقافة الغرب العلمانية، علمانية في السياسة والحكم، في المال والاقتصاد، في التعليم والتربية والأخلاق، ومعنى هذا أنَّنا سنجد أنفسنا يومًا ما في أحضان الثَّقافة الأوروبيَّة أو تحت سُلطانها، وهذا هو التَّغريب المطلوب أو المفروض على العالم الإسلامي الآن، وقد بدأ الفكر العلماني يتسرَّب إلى كثير من جوانب الحياة المعاصرة محل الشريعة الإسلاميَّة في كثير من بلاد العالم الإسلامي، كما ظَهَر أثر العلمانيَّة في كثير من مناهج التربية والتعليم في بلاد كثيرة، وزاحم التعليم المدني الأزهري في مناهجه.

ولقد تبنَّى كثير من المُتعصبين في العالم العربي الدَّعوةَ إلى العلمانية، لا بمفهوم التَّخلص من سُلطة رجال الدين، ولكن بمعنى التَّخلص من الدين نفسه، وبدؤوا يخلعون على الإسلام ما خلعته أوروبا على الكنيسة في العُصُور الوسطى، دون أنْ يفطنوا إلى الفرق بين حقيقة الإسلام وموقف الكنيسة، وصاروا يسمُّونه: "التنوير"، وفى المُقابل يصفون رجل الدين عندئذ بالتَّخلُّف والرجعية، ويجعلون الدِّين أو التدين مرحلة تاريخية انتهى زمانها، ولكي نتقدَّم إلى الأمام فلا بُدَّ أن نسلك مسلك الغرب، وقد يكون الأمر سهلاً لو أنَّهم سلكوا طريق الغرب في الأخذ بأسباب العلم كمنهج للحياة، فإنَّ ذلك مطلب شرعي، لكنَّهم يدْعُون المجتمعات الإسلامية إلى الإباحيَّة باسم الحرية الشخصية، وإلى الإلحاد والتنكير للأديان باسم التنوير، وإلى التَّمرُّد على النصوص المقدسة كتابًا أو سُنة باسم تحرير العقل وحرية التفكير، وكم ضيَّع المسلمون من موارثيهم ومقدساتهم تحت هذه الشعارات الزائفة!

 


[1] راجع "وباء العلمانية"، د/ سفر الحوالي، (ص: 12).

[2] راجع وباء العلمانية، د/ سفر الحوالي، (ص: 12).

_____________________________________________________________

الكاتب: د. محمد السيد الجليند