لبيك إن الحمد لك
"لبيك اللهم لبيك" دليلٌ صميم على إبداء الحب لك يا ألله، وفيه إجابة بالغة كأنما هي الاستجابة لك عن إبداء التذلل إليك والتواضع لك...
لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، لبيك إن الحمد لك، لبيك إن النعمة لك، هذه تلبية أبينا إبراهيم وتلبية نبينا محمد - عليهما الصلاة والسلام - وتلبية ديننا ومِلتنا، وهي تلبية تسري بنا إلى خالقنا في العالم العلوي، فيها تنويهٌ بشأن مكانته وإشادةٌ بجماله وجلاله، وفيها إشارةٌ جلية تلوح إلى أن الأمور كلها تُرَدُّ إليه، وليس لنا فيها حظٌّ يسيرٌ، فضلًا عن أن نملِكها.
وهي جملة إذا قالها عبدٌ من أعماق نفسه تسرَّبت إليها حقائقها، فتمكَّنت منها، وتجلَّت فيها أنوارها بألوان وأشكال لا يعرفها أحدٌ، تردد هذه الكلمات الجميلة على ألسنة الحجاج والمعتمرين والزوار الكرام من أنحاء العالم أثناء هذه الأيام، وكانت بصوت عالٍ مرة وبصوت خفي أخرى، فهذه الكلمات حين تتردد على لسان العبد الخاشع، فتنتهي إلى العقل البشري، ثم إلى القلب الصافي عن طريق تنفيذ معانيها بتدبُّر وتأمُّل، فليست تُصبح مجردَ كلمات غيرَ مفهومة أو همسات عابرة تَخرج من القلب، وإنما تصبح إشعارًا وإعلامًا باعتراف عبوديته لله وخضوعه له، وهي إخبارٌ بأن هذا الكون كل الكون بيده، وأن مفتاح السعادة سعادةِ الدنيا والآخرة من عنده؛ حيث يهدي به من يشاء فيهتدي، وهي من أحلى الكلمات التي تطمِس على الرذائل والدنايا التي تعشِّش في داخل الإنسان، ومن أقواها تأثيرًا وأجملها تصويرًا لإعادة الروح إلى القلب، كيف لا؟ ولقد قال جابر بن عبدالله رضي الله عنه فيما رواه مسلم في وصف حج خير الأنام صلى الله عليه وسلم: (ثم أهلَّ بالتوحيد لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك).
وبعبارة أخرى عندما يلتفت العبد إلى ربه في خشوع وخضوع ينطق بهذه الكلمات، لا يتردد فيما أُمر به، بل لا يسأل ربَّه ولا نفسه لماذا يعتري ثوبين مجردين من المخيط ولا ثلاثة، ولماذا يطوف سبعة أشواط ولا ستة ولا تسعة، ولماذا من منى إلى العرفة إلى المزدلفة، ثم منها إلى مكة ولا من طريق أخرى، ولماذا يرمي الشياطين في الأماكن المتنوعة بالحجارة المعين عددها، ولماذا يكون تحليق الرأس بعد أن يتم ذبحُ الأضحية ولا قبل ذلك، بل كان هذا العبد لا يتجرأ على سؤال أحدٍ أبدًا عن سبب الوقوف بعرفة، وإن كانت البيئة لا تلائم طبيعته من شدة الحرارة أو نزول مزنِ الغيث، أو نحو ذلك، فإنه بوعيه وفكره كان راضيًا مرتاح البال ومطلعًا على تفوُّق ربه على غيره في العبودية - والذي هو جدير بالعبادة والطاعة له لا غير - وهذا يدفعه إلى المثابرة على التأدب مع ربِّ العالمين، وتفويض الأمر إليه تفويضًا متكاملًا، فإنما هو ربُّ السماوات السبع وربُّ العرش العظيم، ويسبِّح له من في السموات ومن في الأرض، كأن هذا العبد تخضَع نفسه له وتستجيب له امتثالًا لما يدعو إليه، ويتقدم إليه شيئًا فشيئًا، رغم أنه على علمٍ بأنه كان من قبلُ ينغمس في بحر الذنوب والمعاصي والآثام.
"لبيك اللهم لبيك" دليلٌ صميم على إبداء الحب لك يا ألله، وفيه إجابة بالغة كأنما هي الاستجابة لك عن إبداء التذلل إليك والتواضع لك، وهو دليلٌ قاطع له على أنه هناك ليس أحد بمثابتك يُدعى إليه في الابتهال والتضرع، لقد صدق القرآن الكريم في وصف الجلال والإكرام، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، أنا أُلبي نداءك مرة بعد مرة يا رب، ولحظة بعد لحظة، وأنا أستجيب لما أمرتني به استجابة بعد استجابة، حاضر بحضرتك المهيب، متذلل بين يديك، باقٍ على دينك القيم، ثابت على صدق كلامك، لا أشك فيما أنزل على نبيك، ما راعني ما يروعني جلالك، ومهابتك تتغلغل في نفسي، وأُلَملِم شتات روحي التي شتَّتْها الدنيا الملعونة، مستأنسًا بفضاء إلهي إسلامي، مفعمًا بالحب لك، لبيك اللهم إليك شوقًا، لبيك اللهم إليك رغبةً ورهبة، لبيك اللهم إليك أروح، لبيك اللهم عليك أتوكَّل.
أنا أعني بهذه الكلمات الطيبة يا رب أني قد تركتُ ورائي من شؤون حياتي ومسكني، وعملي، وأسرتي، وخلفت إخوتي وأخواتي، وأصدقائي وأترابي، إخلاصًا لك أمرَ التوحيد، يتفجر فيه لبُّ العبودية متيقنًا وملتزمًا، لا أُلبي نداء أحدٍ إلا نداءك، ولا أنحني لأحد سواك، وأنا على علم أنك رقيب بكل ما ينطق به لساني، فما من قول لفظته أو ألفظه إلا وأنت عالِمٌ به، ها أنذا في بيتك قائم، في بيت ولد فيه حبيبك ورسولك محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث ترعرع في كنَف أمِّه آمنة، ونشأ وكبر حتى أصبح شابًّا طريرًا في فُتوته، يضم بين أضلاعه معاني المشاعر الإنسانية، فكان رحمة لمن لا قلوب له، فأحبَّ فصار حبيبًا لمن لا حبيب له، واشتَهر من بين أظهر الجموع الزاخرة من أشراف العرب وسادتها، وهو بعدُ ما تلقى النبوة الإلهية، فسموه أمينًا، لا امتراء في أنه من أفضل البشر أفضل الصلاة عليه وأزكى السلام.
"لبيك لا شريك لك لبيك"، أنا على دراية بأن الشرك يأتي بالزلة بعد الزلة، ويؤكد العقابَ الأليم لا مفر منه، ويجفِّف رطوبةَ الحياة، ويورث غضبَك، ويعقب الهم والغم، ويهتك سترَ الحياء، ويفسد روحَ الحياة، ويظهر به الفتور في العمل، وتلوح به الغفلة والهفوة، أنا أعلم علمًا تامًّا بأن الشرك يخلد النارَ، ويغلق أبوابَ الجنان، لا طائلة فيه فأتمسَّك به، اللهم أعوذ بك من أن أشرك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم، وأعوذ بك الشرك والشك والرياء والسُّمعة والشقاق.
"إن الحمد والنعمة لك"، تركيز على الإقبال إلى الشكر لك يا ألله، والشكر لك سببُ النمو في الإخلاص، والإخلاص لك يجذب من الرحمات والسكنات ما يجعل العبد من أطهر الناس إليك قلبًا وأشدهم بك كلَفًا، وأدقهم فهمًا لمحاسن هذه العبودية، ولا شك في أن ممن يتلمس في مثل هذه الأيام المباركة كنهَ التلبية وفحوى العبودية معًا من حسنها وروعتها وبهائها، وهي مقارنة بالصدق والثقة به لن يَميل عن أحد إلا إليه، فهذا هو الحب الأقوى من كل شيء، والذي يتجاوز كل شيء ويغلب كل شيء، فمن هنا أخذ هذا العبد يرى ما لا يراه غيره، ويُدرك ما لا يدركه غيره في هذا الكون إلى أن تُحلِّق نفسُه في رحاب رب العالمين.
"لا شريك لك"، لَمَّا تقرَّر أنه ليس في الكون ولا في المجرات، ولا في السماوات السبع ولا الأرضين السبع يا ألله - إله يُعبد ورب يُسأل عن شيء ما، فإذا التفت العبد التفت إليك، وإذا سأل سألك وحدك، لا إله إلا أنت.
هذا كما مرت بالذين سبقونا هذه الأيامُ المباركة والفرصُ الذهبية التي لا عود لها عليهم، فلقد سيأتي علينا مثلُ ما مرَّ بهم من الأوقات النيِّرات واللحظات النبيلة، كأن فيها لآلئَ عظيمة تشع منها الأضواء وتلمع منها الأنوار المشرقة، فاغتنِم هذه قبل أن تلقى أجلك يا أخي، أسأل الله فيها التوفيق والسداد والصلاح.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
______________________________________________
الكاتب: دين محمد بن صالح
- التصنيف: