يوم النحر يوم الحج الأكبر
هذا يوم النحر، هذا يوم الحج الأكبر {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}
الحمد لله...
(الله أكبر) تسعا...
قال سبحانه: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197]، {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96، 97]، الله أكبر الله أكبر الله كبيرا، الله أكبر ولله الحمد.
هذا يوم النحر، هذا يوم الحج الأكبر {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 3].
{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 26 – 29].
بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر: 1 – 3].
الحمد لله الذي يسَّرَ للحُجَّاج حجَّهم، ونسأل الله أن يتمَّه لهم على خير ورحمة ونعمة، وأن يرجعهم إلى أهليهم سالمين غانمين؛ بحجٍّ مبرور، وسعي مشكور، وذنب مغفور، وتجارة رابحة لن تبور، الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر كبيرا.
عباد الله! أوَّلَ أمسِ يوم التروية أحرمَ الحجَّاجُ من أماكن سكناهم بمكة، وتوجهوا ملبِّين مهلِّلين، إلى منى اتباعا للسنة، فباتوا بها وصلَّوا بها الصلوات الخمس قصرا دون جمع.
وأمسِ توجهوا ذاكرين ملبِّين داعين ضحىً إلى عرفة، فصلَّوا الظهر والعصر، قصرا وجمعا في مسجد نمرة، أو في الخيام.
وبعد غروب الشمس؛ ليلةَ العيد توجهوا ملبِّين إلى مزدلفة حيث صلَّوا بها المغربَ والعشاءَ جمعًا مع قصر العشاء، وصلَّوا الوتر وباتوا بها إلى أن صلوا الفجر في المشعر الحرام.
واليوم (يوم العيد) ينطلقون إلى منى ملبين ذاكرين، إلى أن يرموا جمرة العقبة الكبرى بسبع حصيات، وتنتهي التلبية (لبيك اللهم لبيك)، ويبدأ التكبير؛ (الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد). فيذبحون هداياهم، ويحلقون رؤوسهم، ويطوفون طواف الإفاضة، ويسعون سعي الحج، ويرجعون إلى خيامهم في منى، ليبيتوا بها غداً وبعده، ليرموا الجمرات الثلاث كلَّ يوم بإحدى وعشرين حصاة.
ثم إذا أرادوا الرحيل إلى ديارهم ودَّعوا بيتَ الله الحرام، بالطواف سبعة أشواط. الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
وأنتم هنا في بلادكم ودياركم قد أطعتم الله في الأيام العشر فصليتم ما كُتب لكم، فأبشروا بقول رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْمُسْلِمَ لِيُصَلِّيَ وَخَطَايَاهُ مَوْضُوعَةٌ عَلَى رَأْسِهِ، فَكُلَّمَا سَجَدَ تَحَاتَّتْ عَنْهُ، فَتَفْرُغُ حِينَ يَفْرُغُ مِنْ صَلَاتِهِ، وَقَدْ تَحَاتَّتْ خَطَايَاهُ»[1].
وصمتم و(الصوم جُنَّة) ووقاية من الذنوب والمعاصي، ووقاية من العذاب يوم القيامة. عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «صَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ يُكَفِّرُ سَنَتَيْنِ، مَاضِيَةً وَمُسْتَقْبَلَةً، وَصَوْمُ عَاشُورَاءَ، يُكَفِّرُ سَنَةً مَاضِيَةً» [2].
عَنْ مُطَرِّفٍ قَالَ: (دَخَلْتُ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ رضي الله عنه فَدَعَا بِلَبَنٍ، فَقُلْتُ: إِنِّي صَائِمٌ)، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ( «الصَّوْمُ جُنَّةٌ مِنْ النَّارِ، كَجُنَّةِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْقِتَالِ» )[3].
والصوم أيضا جُنّة (وَحِصْنٌ حَصِينٌ مِنَ النَّارِ)[4].
وتصدقتم و(الصدقة برهان) على إيمانكم وتوحيدكم وإخلاصكم لربكم، فقد ورد عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآَنِ -أَوْ تَمْلَأُ- مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَالصَّلَاةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا» [5].
وذكرتم ربكم، وكبرتم تكبيرا يطرد الشياطين، ويقلقُ الكافرين، ويقضُّ مضاجعَ المشركين، ويقلقلُ قلوب المنافقين، {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]، الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر ولله الحمد.
وأحسنتم إلى خلق الله، فـ«إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ»[6]، الله أكبر، الله أكبر كبيرا ولله الحمد.
أنتم يا من أطعتم اللهَ بطاعتكم لرسولِه صلى الله عليه وسلم؛ فلم تقصوا شعوركم، ولم تقلِّموا أظافركم من أول ذي الحجة إلى الآن، فشابهتم الحجَّاج في شيء من أحكامهم، وشاركتموهم اليوم بقربان تقدمونه لله وهو الضحية، كما يقدمون هم الهدي، ويجب فيهما السلامةُ من العيوب؛ من العور والعمى، والمرض والهزال والعرج ونحو ذلك.
ويجب أن يكون الهديُ والأضاحي قد بلغت السنَّ المعتبرةَ شرعا، سنتان للبقر وتجزئ الواحدة عن سبعة، فإن تعسَّر، نذبح من المعزِ ما تجاوز السنة، عن أهل البيت الواحد، ولا تجوز فيه الشراكة، أما الشراكة فتكون لك ولهم في الأجر، أما الضأنُ فما زاد عن ستة أشهر بحيث إذا وضع بين الكبار لا يعرف، والحَدِيثُ: «لَا تَذْبَحُوا إلَّا مسنة، إلَّا أَنْ يَعْسُرَ عَلَيْكُمْ، فَاذْبَحُوا الْجَذَعَ مِنْ الضَّأْنِ». مُسْلِمٌ، قال ابن حجر: [... وَتَقْدِيرُهُ: المستحب أن لا يَذْبَحُوا إلَّا مُسِنَّةً][7]، الله أكبر كبيرا.
فإن عُدم المعتبرُ شرعا من الأضاحي، ولم يوجد، أو عُدِمت النقودِ؛ أو فقدت الرواتب للفقرِ، وقلَّةِ ذات اليد فلا يُتركُ يوم العيد ولو بذبح ديك، [فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّهُ ضَحَّى بِدِيكٍ][8]، و[عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ قَالَ: قَالَ لِي بِلَالٌ: مَا كُنْت أُبَالِي لَوْ ضَحَّيْتُ بِدِيكٍ][9].
[وقال عكرمة: (بعثني ابن عَبَّاسٍ بِدِرْهَمَيْنِ أَشْتَرِي لَهُ بِهِمَا لَحْمًا)، وَقَالَ: (من لقيت فقل: هذه أضحية ابن عَبَّاسٍ).
وَهَذَا نَحْوُ فِعْلِ بِلَالٍ فِيمَا نُقِلَ عنه أنه ضحى بديك][10].
فلا تيأسوا أيها الفقراء والمساكين يا من تأخرت عليك الرواتب أو عدمتموها، الله أكبر، ولله الحمد.
وأنت أيها الفقير! يا من لم تجد ما تضحي به! فأبشر فقد ضحى عنك الرحمةُ المهداة؛ رسول الله صلى الله عليه وسلم، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأَضْحَى بِالمـُصَلَّى، فَلَمَّا قَضَى خُطْبَتَهُ نَزَلَ عَنْ مِنْبَرِهِ، فَأُتِيَ بِكَبْشٍ، فَذَبَحَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ، وَقَالَ: «بِسْمِ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، هَذَا عَنِّي وَعَمَّنْ لَمْ يُضَحِّ مِنْ أُمَّتِي» [11].
ولا تبيعوا شيئا من أجزائها، ولا تعطوا شيئا منها أجرةً للجزار لا الجلد ولا من اللحم، ويجوز أن يكون هدية وعطية.
فإذا ضحيتم فكلوا منها وأطعموا وادخروا، ولا تجب المساواة في ذلك، الله أكبر ولله الحمد.
قال سبحانه وتعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الحج: 36].
فالقانع؛ السائلُ المتذلِّل، والمعترّ؛ المتعرض للعطية بدون سؤال، وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «كُلُوا وَأَطْعِمُوا وَادَّخِرُوا،...»[12].
والإطعام يشمل الهدية للأغنياء والصدقة على الفقراء، وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: .. «فَكُلُوا وَادَّخِرُوا وَتَصَدَّقُوا». [13]. [14]، الله أكبر ولله الحمد.
وتفقدوا الفقراء والمساكين، والأرامل واليتامى والمحتاجين، عموما وفي كل وقت، وخصوصا أيام العيد، عالجوا باللقمة جوعَهم، وأدفئوا بالكسوة أجسامَهم، وامسحوا بالكلمة الطيبة دموعَهم، أدخلوا الفرحة إلى قلوبهم، وانشروا البسمة على وجوههم، فـ«مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ،...». [15]، الله أكبر، ولله الحمد.
أخي المسلم! في هذه الأيام المباركات أكثِروا من الزيارات والتواصل، ولا تنسوا إلقاء التحيَّة؛ تحيةِ أهل الجنة (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته)، وتذكروا الأجرَ العظيمَ في مصافحتك لأخيك المسلم؛ الرجل يصافح الرجلَ والزوجةَ والمحرم، والمرأةُ تصافحُ المرأةَ وزوجَها ومحرمَها، فـ«مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ، فَيَتَصَافَحَانِ إِلَّا غُفِرَ لَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقَا». [16].
لقد [كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذَا تَلَاقَوْا تَصَافَحُوا، وَإِذَا قَدِمُوا مِنْ سَفَرٍ تَعَانَقُوا][17]، الله أكبر، ولله الحمد.
ولا ننسى -عباد الله!- إخوانا لنا يرزحون تحت نِير الظلمِ والاستبداد، ويعانون التقتيلَ وانتهاكَ الأعراض، واغتصابَ الأموال، والظلمةُ لا يرعوون عن ذنب، ولا يمنعهم خوف من اللهِ المنتقم الجبار جلَّ جلالُه، إن الواحد من هؤلاءِ الظلمةِ إذا تمرَّد وطغى وتجبَّرَ، يصدق عليه قول الله سبحانه: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة: 205، 206].
والدافعَ من وراء هذه الأعمال؛ إما أن يكونَ إرادةَ الانتقام، يصدر من رافضةٍ وباطنيَّةٍ لئام، حاقدين على أهل الإسلام، أو من يعيش من جهلة المسلمين على أوهامٍ وأحلام، ولا يستيقظ أحدهم إلا وقد {أَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا} [الكهف: 42]، على ما أنفق من جهد ومال، ووقت وتعب ومشقة، ويفتح عينيه وقد استلم البلادَ غيرُ أهلِها، وحرَّك دفَّتَها حفنةٌ من الأوغاد، جاءوا من وراء البحار من خارج البلاد، فجاسوا خلال الديار، وسعوا في الأرض الفساد، وساموا أهلَها سوء العذاب، ولم يخرجوا إلا وقد زرعوا الفتن بين المسلمين، وأشعلوا نار الضغائن، وأوقدوا جمر الأحقاد، ووجدوا من يسمع لهم ومنهم: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ} [المائدة: 41]، لقد تشابهت قلوبهم مع مَن قال الله فيهم: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة: 47]، الله أكبر الله أكبر الله أكبر كبيرا.
فمُزِّقت بلادهم إلى دويلات، وشعبُهم تفرق أفرادُه إلى جماعات، والمستفيد الأوَّل والأخير –مما يجري بين المسلمين- هو العدوُّ الذي اجتاح الأرض، وانتهك العرض، ويتربص بنا الدوائر، فبهذه الفتن استراح، وتأتيه النتائج التي ترضيه على ما يحب دون خسائرَ تذكر، أو أرواح من جنده تزهق وتهدر!!! الله أكبر الله أكبر كبيرا.
وهناك دولٌ عربية، وبلادٌ إسلامية حتى الآن عصمها الله من هذه الفتن، وحفظ كيانها بين الأمم، وبقيت لها هيبتها، وتجنبت سفك الدماء بين أفراد شعبها فلم يتمزَّق، حافظت على مقدَّراتها من الضياع، وذلك كلُّه رغم محاولاتِ الغرب والشرق، والسماعين لهم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، الذين تعرف منهم وتنكر.
وفي هذا العام ومنذ أيام تجددت محاولاتٌ غاشمةٌ، وإن شاء اللهُ تعالى تكون فاشلةً؛ لاقتحام المسجد الأقصى من قطعان المستوطنين.
وكذلك بين الحين تطلق صواريخ على مكة المكرمة، أو يقصد المسجد النبوي بمحاولة تفجير.
والله يحفظ بلاده وعباده والمقدسات من كيدِ الكائدين، وإجرامِ المجرمين، وظلمِ الظالمين. الله أكبر، ولله الحمد.
إخواني تذكروا عداوةَ الشيطانِ –إبليسَ اللعين- لأبينا آدمَ عليه السلام وأمِّنا حواء، وكيف استدرجهما؟ ومن الجنة أخرجهما، {يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} [الأعراف: 27]، وأخذ على نفسه عهدا أن يغوي من استطاع من بني آدم، لكنّ ربّ العزّة الرحمنَ الرحيمَ بالمؤمنين {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 41، 42]، فنعوذ بالله أن نكون من الغاوين، الله أكبر، ولله الحمد.
هذا يوم النحر والتضحية والفداء، هذا يوم الحب والودّ والعطاء، إنه يوم التراحم والتلاحم، لا الهجران والتقاطع والتخاصم، إنه يومُ صلةُ الأقارب والأرحام، وتفقدِ الفقراء والمساكين والأرامل والأيتام، إنه يوم المحبة والمودة والوئام، إنه يوم تصفو فيه قلوب المؤمنين، فينتشر الأمن والأمان، والسلم والسلام.
إنه يوم الذكر يوم الحج الأكبر: الله أكبر، ولله الحمد.
إنه يوم الفرح والسرور بأداء العبادات، إنه يومٌ يعبِّر المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها عن فرحهم فيه بالذكر والتكبير: الله أكبر، ولله الحمد.
ولا ننسى من مات حجاج بيت الله الحرام في هذا العام وما قبله من أعوام فقد نالوا الكرامة من الله جل جلاله، وحصلوا على خيرٍ عميم من أوجهٍ عديدة: منها أنهم ماتوا أثناء أداء فريضة الحجِّ وهو من سبيل الله، لما ثبت من حديث أُمِّ مَعْقَلٍ، قَالَتْ: قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ..: «.. فَإِنَّ الْحَجَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ،..» [18].
وعَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: قُلْتُ: لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ...: (رَجُلٌ أَوْصَى بِمَالٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَيُنْفَقُ مِنْهُ فِي الْحَجِّ؟) قَالَ: (أَمَا إِنَّكُمْ لَوْ فَعَلْتُمْ كَانَ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ)[19].
ومن مات منهم محرما فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا، وماتوا على طاعة، ونالوا شرف الزمان أشهر الحج، وشرف المكان المسجد الحرام.
فعندما سقط أحد الصحابة رضي الله عنه عن ناقته فمات، أمر النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصحابة رضي الله عنهم: «اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ، وَلاَ تُحَنِّطُوهُ، وَلاَ تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ القِيَامَةِ مُلَبِّيًا»[20]، الله أكبر، ولله الحمد.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الآخرة
الحمد لله، الله أكبر (سبع مرات).
أيها المسلمون! اجتمع لنا في عامنا هذا عيدان الأضحى والجمعة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «قَدِ اجْتَمَعَ فِي يَوْمِكُمْ هَذَا عِيدَانِ، فَمَنْ شَاءَ أَجْزَأَهُ مِنَ الْجُمُعَةِ، وَإِنَّا مُجَمِّعُونَ» [21].
عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، قَالَ: صَلَّى بِنَا ابْنُ الزُّبَيْرِ فِي يَوْمِ عِيدٍ، فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ أَوَّلَ النَّهَارِ، ثُمَّ رُحْنَا إِلَى الْجُمُعَةِ، فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْنَا فَصَلَّيْنَا وُحْدَانًا، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالطَّائِفِ، فَلَمَّا قَدِمَ ذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: أَصَابَ السُّنَّةَ[22].
ونحن في هذا المسجد؛ مسجد الزعفران، ملتزمون بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنَّا مُجَمِّعُونَ». الله أكبر، ولله الحمد.
وكان من ذكره صلى الله عليه وسلم ما ثبت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلَّم يَقُولُ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ، أَعَزَّ جُنْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَغَلَبَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، فلَا شَيْءَ بَعْدَهُ» [23]، الله أكبر، ولله الحمد.
وتذكروا أن يوم العيد وثلاثة أيام بعده أيام أكل وشرب وذكر لله تعالى، لا يجوز فيها الصيام، ولا تجوز فيه القطيعة والهجران.
وتذكَّروا -عباد الله!- بجمعِكم هذا يومَ يجمعُ الله الأولين والآخرين على صعيدٍ واحدٍ، {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة: 18]، {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 93- 95]، الله أكبر، الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر ولله الحمد.
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد.
اللهم كن عونا للأقصى وأهلِه ومن حوله يا رب العالمين.
وحرِّره من دنس الصهاينة اليهود الغاصبين، وسائرَ بلاد فلسطين.
اللهم ربنا! لنا آباءٌ وأمهات، وإخوانٌ وأخوات، وأبناءٌ وبنات، يعانون من الفتن العظيمة، والخطوب الجسيمة في غزةَ والضفة، والأقصى وما حوله، وفي الشام والعراق، وليبيا واليمن، وسائر بلاد الإسلام، فتنٌ من أعدائهم، وفتنٌ من أنفسهم فيما بينهم.
اللهم فارفع عنا وعنهم وعن سائر المسلمين الفتن، ما ظهر منها وما بطن.
[1] طص (2/ 272، ح 1153)، (طب) 6125، الصحيحة (3402)، صَحِيح التَّرْغِيبِ (362).
[2] (حم) 22588، انظر صححه الألباني في الإرواء: (955).
[3] (س) 2231، (حم) 15839، (خ) 1795، (م) 162- (1151)، (ت) 764، انظر صَحِيح التَّرْغِيبِ (982).
[4] (حم) 9217، (هب) 3571، انظر صَحِيح الْجَامِع: 3880، صَحِيح التَّرْغِيبِ (980).
[5] (م) (223).
[6] (م) (1955).
[7] التلخيص الحبير (4/ 351).
[8] التلخيص الحبير لابن حجر ط العلمية (4/ 342)، سبل السلام (2/ 537).
[9] المحلى بالآثار (6/ 9).
[10] الاستذكار (5/ 230)، سبل السلام (2/ 532).
[11] (ت) (1521)، (د) (2810).
[12] (خ) (5569).
[13] (م) (1971).
[14] بتصرف من (أحكام الأضحية والذكاة) (ص: 14).
[15] (م) (2699).
[16](د) (5212)، (ت) (2727)، (جة) (3703)، صَحِيح الْجَامِع: 5777، الصَّحِيحَة: (525)، صحيح الترغيب (2718).
[17] عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه. رواه الطبراني ورواته محتج بهم في الصحيح. صحيح الترغيب (2719).
[18]في حديث طويل عند (د) (1988، 1989).
[19](حم) (5096).
[20] (خ) (1265).
[21] (د) (1073)، (جة) (1311).
[22] (د) (1071).
[23] (خ) (4114)، (م) 77 - (2724) ، (حم) (8053).
__________________________________________________
الكاتب: الشيخ فؤاد بن يوسف أبو سعيد
- التصنيف: