الدولة الصفوية - (3) وِلاية الفقيه مِنَ الانتظارِ إلى التَّحريكِ

منذ 2022-07-18

تأسيسَ دولةٍ قويَّةٍ على هذا المنهج الفاسد، وتَكثُر أتباعُها بنشره بينَ المسلمين تحتَ لافِتة حُبِّ آل البيت، ولها أتباعٌ في الدُّول الأُخرى مُستعدُّونَ أنْ يُضحُّوا بكل شيءٍ في سبيل عقائدهم وأسيادهم - إنَّ كلَّ ذلك لَيُنذرُ بخطرٍ عظيمٍ، وخَطْبٍ جَسيمٍ، ويُوجب حَذرًا كبيرًا...

للمُعتقداتِ والأفكارِ أثرٌ كبيرٌ في حياة البَشرِ؛ إذ في سبيلها يَسفِكون دِماءَهم، ويَسترخصون أنفسَهم، ولأجلها يَبذُلون أموالَهم، ولا يُفكِّرون في أهلِهم وأولادِهم، سواءٌ كان المُعتقدُ حقًّا أمْ كان باطلاً، وسواءٌ كانت الفكرةُ صحيحةً أمْ كانت خاطئةً؛ ولذا كان أهمُّ شيءٍ قام به الرُّسلُ عليهم السَّلام دَعوتَهم أقوامَهم إلى دِين الحقِّ والهُدى، وحجزَهم عنِ الأديان الباطلة، والأفكار الخاطئة، وأتباعُ الرُّسلِ عليهم السَّلام يَحملون هذا الهمَّ العظيمَ، ويَقومون بهذه المُهمَّة الجليلةِ إلى آخِرِ الزَّمان، فكان في البَشرِ حقٌّ وباطلٌ، وصوابٌ وخطأٌ، وخَيرٌ وشَرٌّ.

ونبِيُّنا محمدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم  قد أخبرَنا أنَّ أُمَّتَه ستفترق إلى فِرَقٍ كثيرةٍ، كلُّها مُخطئةٌ، والصَّوابُ مع واحدةٍ منها، وذَكَر صلَّى الله عليه وسلَّم  أنَّها مَن لَزِمَ الجماعةَ، ومَن كان على ما كان عليه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم  وأصحابُهُ - رضي الله عنهم.

والافتِراقُ في الأُمَّة بدأ بظهورِ الفِرقِ الضَّالَّة، مِنَ الشِّيعة والخوارجِ والقَدَريَّةِ وغيرِها، وكلُّ طائفة لَزِمَت فِكرةً خاطئةً بَنَتْ أُصولَها عليها، حتَّى بَعُدَت عنِ الحقِّ والهُدى شيئًا شيئًا.

وعلى إثرِ مَقتل الخليفتَينِ الرَّاشدَينِ عثمانَ وعليٍّ رضي الله عنهما وانتقالِ الخِلافة إلى البيت الأُمويِّ بعدَ الصُّلحِ بين مُعاويةَ والحسنِ رضي الله عنهما ثم مَقتل الحُسينِ رضي الله عنه بعدَ ذلك، بَرَزَت فِكرةٌ خاطئةٌ في الإمامةِ عند الرافضة، وبها سُمُّوا إماميةً؛ مُلخَّصُها: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم  قد عَيَّن عليًّا للإِمامةِ بالاسم والنَّصِّ المُباشرِ، وأنَّ الإمامةَ تَستمرُّ في ابنَيهِ الحسنِ والحُسينِ، ثم مِن بعدهما في ذُريةِ الحُسينِ رضي الله عنه وكلُّ إمامٍ يُوصي لمَن بَعدَه إلى أنْ تبلغ الإمامَ الثانيَ عَشرَ؛ وهو المَهدِيُّ الغائب المُنتظَر، مُعتقدِينَ عدمَ جوازِ خُلوِّ الأرض مِن قائمٍ لله بالحجةِ، وهو الإمامُ، ويجبُ أن يكونَ معصومًا، وهو مُشرِّعٌ عن الله تعالى يُوحي إليه بالإلهامِ، ومُبلِّغٌ عنه.

ثم رَتَّبوا الأئمةَ الاثني عشرَ ابتداءً مِن عليٍّ رضي الله عنه لعدم اعترافهم بإمامة الخُلفاءِ الثَّلاثةِ قَبلَه رضي الله عنهم ويَعدُّونَهم مُغتصِبِينَ لحقِّ عليٍّ رضي الله عنه وبَلَغوا بهم إلى الحاديَ عشرَ؛ وهو الحسنُ العَسكريُّ الذي تُوفيَ في أواسط القرن الثالث الهِجريِّ، ولم يوصِ بالإمامة مِن بعدِه، فاخترعوا ما سُمِّي بِغَيبةِ الإمامِ تَماشيًا مع هذا الظَّرْفِ الطارئ، وزعموا أنَّ للحسنِ ابنًا يُسمَّى محمَّدًا، وأنَّ أباه قد أخفاه،  وكان في اختراع الغَيبةِ الصُّغرى ثم الكُبرى إنقاذٌ لعقيدتِهم في الإمامة والأئمة، كما كان فيها إنشاءٌ لعقيدةِ الانتظار والتَّقِيَّة، ولكنَّ التحريفَ في المعتقدات لا بُدَّ أن يقود إلى التناقضات، كما وقع اليهود والنَّصارى في كثيرٍ مِنَ التناقضاتِ لَمَّا حرَّفوا دِينَهم.

والفِرقة الإماميَّةُ نَقضتْ باعتقادِها غَيبةَ الإمام أصلَها الأوَّلَ في الإمامة، حين زعموا  أنَّه لا يجوز أن تَخلوَ الأرضُ من قائم لله تعالى بالحجة، فَخَلتِ الأرضُ منه؛ لأنَّه غائبٌ.

ومع عقيدة الانتظار والتَّقِيَّة، حرَّم المذهبُ الإماميُّ على أتباعِه الاجتهادَ في الأحكام، وعَطَّلهم عن مُشاركةِ المسلمين في الشَّعائر الدينيَّةِ؛ كالجُمُعة والحَجِّ والجِهاد؛ لأَنَّ ذلك كان خَلفَ أئمةٍ مُغتصِبينَ لا تجوز إمامتُهم؛ وكانوا إذا فعلوا شيئًا مِنَ الشَّعائر مع المسلمين، فهو مِن باب التَّقِيَّة التي هي تِسعةُ أعشارِ دِينهم؛ كما نصَّت عليها كُتبُهم؛ ولذلك لا نرى للإمامية عَبرَ التاريخ الطويل جِهادًا ولا فتوحًا، ولا قادةً ولا مُشاركةً في الدَّفع عن دِيار المسلمين أثناءَ الاجتياح الصَّلِيبيِّ، والغَزوِ التتريِّ، والاستعمارِ القديم والحديث؛ لاعتقادِهم بعدم جوازِ فِعلِ شيءٍ مِن ذلك حتَّى يخرجَ الإمامُ محمدُ بنُ الحسنِ العسكريُّ رحمه الله تعالى مِن غَيبتِه الطويلة.

ومع اعتقادِ الإماميَّةِ ببُطلان وُلاةِ المسلمين على مَرِّ التاريخ، وحُكمِهم عليهم بأنَّهم مُغتصِبونَ للإمامة - فإنَّهم ما كانوا يَرونَ الخروجَ عليهم؛ ليس ورعًا في ذلك، وإنَّما انطلاقًا مِن عقيدة التَّقِيَّة والانتظار؛ إذ لا يَحِلُّ لهم ذلك إلاَّ خلفَ الإمام الغائبِ محمدِ بنِ الحسنِ، الذي سيُزيل دُولَ الباطل، ويُقيم دَولةَ الحقِّ، حتَّى إنَّ الدُّولَ الباطنيَّةَ - القُرمطيَّةَ، والبُويهيَّةَ، والعُبَيديَّةَ، والصَّفَويَّةَ، وغيرَها - لَمَّا قامت، ما كان علماءُ الإماميةِ يَرونَ الاعترافَ بها؛ بناءً على عقيدتِهم في انتظار الإمام الغائب.

ولكن مع طُول الغَيبة، ومَشقَّة الانتظار، وخَوفِ إفلات الأتباع، وخَشية ضَعفِ المُعتقد - بدأ المُتأخِّرون مِن أئمتهم يَتخفَّفون مِن صَرامةِ غَلْق باب الاجتهادِ في الأحكام، وخرجوا عن خطِّ أئمتِهم المُتقدِّمين؛ لِترسيخِ مُعتقدِهم، وتجديد مذهبِهم الذي لم يَعُدْ صالحًا مع تقادُم الزَّمن، وبلغ التَّحريفُ أَوُجَّهُ في أوائل الدَّولة الصَّفويةِ في القرن العاشر، حين أسبغ العالِمُ الإمامِيُّ عليٌّ الكركي الشرعيةَ على حُكمِ الشاه طهماسب الصفوي باسم نائب الإمامِ الفقيه، فانقلب على مذهبِهم القاضي بأن حَكَّم غيرَ الإمامِ المنتظَرِ محمدِ بنِ الحسنِ العسكريِّ؛ إنما هو غصبٌ لا يُعترَف به، وتطورت نظريةُ إمامةِ الفقيه على أيدي المُتعاقبين مِن علماء الإماميَّة إلى أنْ أكمل نظريتَها أحمدُ النراقي في القرنِ الثالثَ عشرَ، وبَلوَرها فيما سُمِّيَ "ولاية الفقيه"،مُثبِتًا أنَّ للفَقيه ما للرَّسولِ وللإمام، وله أنْ يَتصرَّف في الرَّعية وما يَملكون كيف شاء، فجعل الفَقيهَ يَحُلُّ عمليًّا مَحلَّ الإمام المعصومِ المنتظَرِ عندَهم، ويأخذُ خَصائصَه، ويقوم بأعماله، وتحوَّلت عقيدةُ الانتظار إلى عقيدةٍ شكليَّةٍ بهذا الانقلاب المُؤثِّر، والتَّحريف الكبير لعقائدِهم؛ حتَّى قال عالِمُهم محمدٌ النَّجفيُّ:"لولا عُمومُ الوِلاية (أي للفقهاء) لبقيت كثير من الأمور المُتعلقة بشيعتِهم مُعطَّلة".

فلمَّا جاء الخُمَينيُّ الهالِكُ اتَّكأ على مذهب ولاية الفقيه، وألَّف كتابَه "الحُكومة الإسلاميَّة"؛ ليثبت فيه أنَّه لا انتظارَ بعد اليوم، وقد آنَ الأوانُ لقيام الحُكومة الإسلاميَّة؛ لأنَّ كلَّ الحكومات القائمة عَبرَ التاريخ لَيست إسلاميةً، وقال في كتابه المذكور: "لو قام الشَّخصُ الحائزُ لهاتين الخَصلتَينِ (العلم بالقانون والعدالة) بتأسيس الحُكومة - تَثبتُ له نَفْسُ الوِلاية الَّتي كانت ثابتةً للرسولِ الأكرمِ، ويجب على جميع الناس طاعتُهُ، فَتَوَهُّمُ أنَّ صَلاحياتِ النبيِّ في الحُكم كانت أكثرَ مِن صَلاحياتِ أمير المؤمنين، وصَلاحياتِ أميرِ المؤمنينَ أكثر مِن صَلاحياتِ الفَقيهِ - هو تَوَهُّمٌ خاطئٌ وباطلٌ"، وفي الدُّستور الذي وَضَعه لجمهوريتهم عَقِبَ الثَّورة هذا البند: "إنَّ وِلاية الفقيه سُلطةٌ إلهيَّةٌ أعطاها اللهُ للفقيه عن طريق إرادةِ الشَّعب التي أقرَّها في الاستفتاء العام"، فصار صاحبُ وِلاية الفقيه هو المُشَرِّعَ وهو المعصومَ، وهو القائمَ مَقامَ الإمام المنتظَرِ، الذي ضَعُفت الحاجة إليه مع هذا الانقلاب في المذهب؛ لأنَّ الواليَ الفقيهَ يقوم بأعمالِهِ، وتَحدَّدَتْ معالِمُ المرجعيَّة الإماميَّة في الوالي الفقيه الذي أَعطَوه العِصمةَ.

إنَّ اختراعَ وِلاية الفقيه في العَهد الصَّفويِّ، ثم إعطاءَ صاحبِها السُّلطةَ المُطلَقةَ، ووصفَه بِالعِصمةِ - كان أخطرَ تَحوُّلٍ فِقهيٍّ سياسيٍّ عند الإماميَّة؛ لأنَّه نَقلَهم مِنَ الانتظارِ إلى التَّحرُّك، ومِن عدم الرِّضا بإمامةِ أحدٍ إلاَّ الغائب المنتظَر إلى القَبولِ بإمامةِ الوليِّ الفقيه، واتِّباعِه في كلِّ ما يقول بِدَعَوى أنَّه معصومٌ، وهذا التَّحوُّلُ المذهبيُّ يُشبِهُ تحوُّلَ اليهود مِن عقيدة الانتظارِ لمَلِك السَّلام - التي لازمتْهم طُوالَ تاريخهم - إلى نُشوءِ الفِكرة الصِّهْيَوْنِيَّة اليهوديَّة الَّتي أسَّسها هرتزل، وحرَّك بها اليهود؛ لِيُحوِّلوا بعض أساطيرهم إلى واقعٍ محسوسٍ، وألَّف فيها كتابه "الدولة اليهودية"، يدعو فيه إلى إنشائِها في فِلَسْطينَ، فتَحرَّك الأتباعُ وأنشَؤُوها، وعانَى المسلمونَ منها ما عانَوا.

والخُمَينيُّ ألَّف كتابَه عنِ الحُكومة الإسلاميَّةِ التي يُريد، ثُمَّ أنشأها في بلاد فارس، ووضع دُستورَها وَفْقَ رؤيتِه، وأَضحَتْ مَنطقةُ الشَّرق الإِسلاميِّ في زَمنِنا هذا بين مشروعَينِ كَبيرَينِ: رُومانيٍّ صِهْيَوْنيٍّ، وفارسيٍّ باطنيٍّ، وكِلاهما عُنصريٌّ حاقدٌ، مدفوعٌ بنصوصٍ دِينيَّةٍ دَمويَّةٍ، ومُعتقداتٍ خُرافيَّة طَموحة، يُريدُ الأتباعُ تحويلَها إلى واقعٍ محسوسٍ بعدَ أنْ طال انتظارُهم، نَسألُ الله تعالى أن يكفيَ المسلمينَ شَرَّهم، وأن يحفظَ بلادَنا وبلادَ المسلمين مِن أَحلامِهم وطُموحاتِهم، إنَّه سميعٌ مجيبٌ.


أيُّها المسلمونَ:

فَهْمُ العقائدِ، والإلمامُ بتاريخها وتطوراتِها يُعينُ على فَهْمِ الحاضر، وإدراكِ الواقِع، واستشرافِ المُستقبل، وفَصلُ الفَهم العَقَدي والإلمامِ التاريخيِّ عن تحليل الواقع يُؤدي إلى نَقصٍ في الإدراكِ، وضَعفٍ في التصور، وفشلٍ في التعامُل مع الحوادث والمُستجدَّاتِ، ورَبُّنا - جلَّ جلالُه - يقول: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:102]، وقال في الكافرين: {إِنَّ الكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} [النساء:101]، وقال في المُنافقين: {هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون:4]، والَّذين يُخفُون أفكارَهم وعقائدَهم المُناقضةَ لدِين الإسلام هُمْ مِنَ المنافقين، وروى أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم  أَنَّهُ قال: «لا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِن جُحْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ»؛ (رواه الشَّيخانِ).

قال الخطابيُّ رحمه الله تعالى: "هذا لَفْظُهُ خبرٌ ومعناه أمرٌ؛ أي: لِيَكنِ المؤمنُ حازمًا حَذِرًا، لا يُؤتى مِن ناحيةِ الغَفلةِ، فيُخدعَ مَرَّةً بعد أخرى".

إنَّنا نعيش في زمنٍ نرى فيه وارِثي الحضارتَينِ الرُّومانيَّة الصِّهْيَوْنيَّة والفارسيَّة الباطنيَّة يَتراشقون الكلامَ، ويتبادلون الوعيدَ والتَّهديد، ويَظهر بينهم تَنافسٌ وصِراعٌ - أظنُّه حقيقيًّا - ولكنَّه صِراعُ مصالحٍ، وليس عَداءَ عَقائدَ، يزول بزوال أسبابه، أو باتِّفاقِ ما بين الأُمَّتينِ.

وأثناءَ حُكم الجُمهوريِّينَ للدولة الكبرى كانت حِدَّةُ النِّقاش عاليةً، ونبرةُ التهديد قاسيةً؛ لكنَّها لانَتْ كثيرًا مع مجيء الدِّيمقراطيِّينَ، ثم أعقب ذلك حوادثُ تَلفِت الأنظارَ؛ إذ صرَّح بعض الفُرس أنَّ "البحرين" ولايةٌ لهم، ويُحاكَم بعضُ أبناءِ معتقدهم بِتُهمة التخطيط لقلب نظام الحُكم في "البحرين"، ويكون مِن بَينِ المُشتَبهِ فيهم في تفجيراتِ مصرَ رجلٌ إيرانيٌّ، ويُتوَّج ذلك بِمُظاهراتِ المدينة النبويَّة، فهل آن أوانُ التَّقارُبِ الرُّومانيِّ الصِّهْيَونيِّ مع الفارسيِّ الباطنيِّ؟ وهل أخذ الصَّفويون ضوءًا أخضرَ مِن القُوَى العالمية لتوسيع نُفوذِهم في الشَّرق الإسلاميِّ، بعدَ أنْ ابتلعوا العِراقَ؟ وهل أخذ أتباعُ الفُرس إذنًا مِن مَرجعياتِهم لِيُفسدوا في بلاد المسلمين بِدعَوى تحريرها؟ ولماذا هذا السكوتُ الليبراليُّ المُطبِق عن ممارسات القوم وتصريحاتهم؟ وقد ملأ الآفاقَ بضَجيجِه على أهل السُّنَّة وكُتبِهم ومَناهجهم.

إنَّ انقلابَ الإماميَّةِ على عقيدة الانتظار، وتَحويلَها إلى وِلايةِ الفقيه، مع اعتقادهم بعدم شَرعيَّةِ أَيِّ حاكمٍ إلاَّ بتعيين الفقيه المعصوم له، وتأسيسَ دولةٍ قويَّةٍ على هذا المنهج الفاسد، تَكثُر أتباعُها بنشره بينَ المسلمين تحتَ لافِتة حُبِّ آل البيت، والثَّأرِ للحُسين رضي الله عنه ولها أتباعٌ في الدُّول الأُخرى مُستعدُّونَ أنْ يُضحُّوا بكل شيءٍ في سبيل عقائدهم وأسيادهم - إنَّ كلَّ ذلك لَيُنذرُ بخطرٍ عظيمٍ، وخَطْبٍ جَسيمٍ، ويُوجب حَذرًا كبيرًا؛ فإنَّ القوم يَنطلقون مِن تُراثٍ مَشحونٍ بأحقادٍ مدفونةٍ في الصُّدور، وإِحنٍ عَقَديَّةٍ تَغلي بها القلوبُ، تُغذِّيها نصوصٌ دَمويَّةٌ تَستحِلُّ الدماءَ والأعراض؛ انتقامًا لِدَمِ الحُسين رضي الله عنه، حَسْبَ زعمِهم - الَّذي يَتَّهمونَ بدمه كُلَّ مُسلمٍ، ولو لم يعرف مَن يكون الحُسينُ رضي الله عنه.

إنَّ أهل السُّنَّة قد حَكَموا بلاد المسلمين طِيلةَ القُرون التي كان الإماميَّةُ يَنتظرون فيها مُنتظرَهم قَبلَ أنْ يَنقلِبوا على عقائدهم ويُحرِّفوها، فَمَا أَبادَهم أَهلُ السُّنَّة - وقد كانوا قادرين - وتركوهم وما يَعتقدون، وإنْ حَكَمَ حاكمٌ ظالِمٌ عمَّ بظُلمه كُلَّ رَعيَّته بلا تمييز، ودونَ المُشكِّكينَ كُتبَ التَّاريخ فَلْيقرؤوها.

أمَّا الباطِنيُّون، فإنَّهم لَمَّا تَمكَّنوا في بعض بلاد المسلمين فعلوا الأفاعيلَ بأهل السُّنة، ولم يَستثنوا مِن جَرائمهم أحدًا أبدًا، فَمِن الحُمق أنْ نَهابَ التَّحذيرَ مِنهم ومِن عقائدهم؛ لِئلاَّ نُوصمَ بالطائفيَّة، ومِن السَّذاجة أنْ نُصدِّق دَعواهم ودَعَوى الليبراليِّين بِصدق وَطنيَّتِهم وانتمائهم، ونَحنُ نرى أنَّهم أتباعٌ لغيرهم، ويَعتقدون أنَّ كلَّ حاكمٍ هو مُغتصِبٌ للحُكم، سِوى حكمِ مَن عَيَّنه الوالي الفقيهُ المعصوم، وإذا كانت بلاد المسلمين قد عانتِ الوَيْلاتِ مِن شِرذِمةٍ قليلة ليس لها امتدادٌ، خَرَّبتْ في بلاد المسلمين بالتَّفجير والتَّخريب؛ فكيف سيكون الحالُ إذا انطلق الباطنيُّون يَضربون الأُمَّة في كُلِّ مكانٍ؟!

نَسألُ اللهَ تعالى أنْ يَجعل بأسَهم بينهم، وأنْ يُحبِطَ كَيدَهم، وأنْ يَكُفَّ عنِ المسلمين شَرَّهم، وأنْ يَرُدَّهم على أعقابهم خاسرين، وأنْ يَحفظَ بِلادَنا وبلادَ المسلمين مِن مشاريعهم ومُخطَّطاتِهم، إنَّه سميعٌ قريبٌ.

وصَلُّوا وسَلِّموا على نَبيِّكم.

المقال السابق
(1) نشأتها، عقيدتها، جرائمها
المقال التالي
(4) تكفير المخالفين واستباحتهم