الجذور التاريخية للقرآنيين

منذ 2022-07-24

إنَّ ما يُطلق عليهم - في وقتنا المعاصر - اسم "جماعة القرآنيين" إنما هم يُمثِّلون حلقةً في سلسلة طويلة من فِرَق وطوائف شتَّى حاربت السُّنة النبوية المُشرَّفة بكلِّ ما أُوتيت من قوة على ما مرَّ بنا...

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد:

إنَّ ما يُطلق عليهم - في وقتنا المعاصر - اسم "جماعة القرآنيين" إنما هم يُمثِّلون حلقةً في سلسلة طويلة من فِرَق وطوائف شتَّى حاربت السُّنة النبوية المُشرَّفة بكلِّ ما أُوتيت من قوة على ما مرَّ بنا، فهي حتى الآن تُمثِّل نهاية هذه السلسلة الطويلة التي حاربت السُّنة، ولا ندري هل فيما يأتي يتولَّد عنها تيارات أُخرى أم لا؟

 

وتجدر الإشارة إلى أنَّ القرآنيين ليسوا إلاَّ تيَّارًا فكريًّا يُمكن أن يُطلق عليه اسم "مدرسة فكرية"، فهم لا يُشكِّلون فِرْقةً كالفِرَق المعروفة تاريخيًّا أو حتى في عصرنا الحديث، كما أننا نُجازف إذا أطلقنا عليهم اسم "جماعة" إلاَّ إذا اعتبرناها جماعةً في طور النشأة، إذ أن أصحاب هذا التيار لا يوجد بينهم رابط إلاَّ الاتفاق على بعض المبادئ العامة التي يلوكونها في كتاباتهم دون اتصالٍ مُسْبَق أو تنسيقٍ مُتَّفَقٍ عليه، شأنهم شأن الفِرَق والجماعات الأخرى.

 

وهذا التيار الفكري الناشئ في عصرنا الحالي، الذي بدأ يعلو صوتُه كما هو ملاحظ؛ له أصوله التاريخية، والقائمة على أساس نقض السنة النبوية وتقويضها وذلك كما يلي:

 

البذور الأُولى للقرآنيين:

إنكار السنة النبوية قرين إنكار رسالة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فَمِثْلَما أنه لم يخل زمان من إنكار رسالة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فكذلك لم يخل زمان من إنكار سنته صلى الله عليه وسلم، وهذا مثار العجب من منكري السنة النبوية؛ إذ كيف يزعمون أنهم مسلمون مؤمنون برسالته صلى الله عليه وسلم ثم يُنكِرون سُنَّتَه، ويرفضون اتِّباعه، ويُصَرُّون على عدمِ الأخذِ عنه، والاحتكامِ إليه، والتَّسليمِ له، ويُصِرُّون على مخالفته صلى الله عليه وسلم في كلِّ أقواله وأفعاله وتقريراته!

 

 

حالات فردية نادرة في إنكار السنة:

بدأت مسيرة إنكار السنة والشغب عليها - في صدر الإسلام - على هيئةٍ فردية في حالاتٍ نادرةٍ لا اعتبار بها، فقد وجد أشخاص متفرِّقون اعترضوا على أحاديث بلغتهم، واعترضوا عليها بعقولهم القاصرة، ومن هذه النماذج:

1-عَنْ مُعَاذَةَ؛ أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ عَائِشَةَ، فَقَالَتْ: أَتَقْضِي إِحْدَانَا الصَّلاَةَ أَيَّامَ مَحِيضِهَا؟ فَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: (أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ؟ قَدْ كَانَتْ إِحْدَانَا تَحِيضُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ لاَ تُؤْمَرُ بِقَضَاءٍ)[1].

 

2- عن أبي نضرة؛ أنَّ رجلًا جاء إلى عِمران بن حُصين رضي الله عنه فسأله عن شيء، فحدَّثه، فقال الرجل: حدِّثوا عن كتاب الله، ولا تُحدِّثوا عن غيره! فقال عمران رضي الله عنه: (إنك امرؤٌ أحمق، أتَجِدُ في كتاب الله - تعالى - صلاة الظهر أربعًا لا يُجهر فيها؟ ثم عدَّد عليه الصلاةَ والزكاةَ ونحو هذا، ثم قال: أتجدُ هذا في كتاب الله مُفسَّرًا؟! إنَّ كتابَ الله قد أبهمَ هذا، وإنَّ السُّنة تُفَسِّر ذلك)[2].

 

3-عن أيوب؛ أنَّ رجلًا قال لِمُطَرِّف بن عبد الله بن الشخير: لا تُحِّدثونا إلاَّ بالقرآن! فقال له مُطَرِّف: (واللهِ ما نُرِيدُ بالقرآنِ بَدَلًا، ولكن نُرِيدُ مَنْ هو أعلم بالقرآنِ مِنَّا)[3].

 

لكن هذه حالات شاذة ولا تُذكر في معرض التاريخ لمنكري سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لِشُذوذِها ونُدرَتِها، ثم لعودة أصحابها إلى الحق سريعًا وانقضاء أثرها.

 

 

التسلسل التاريخي لإنكار السنة:

أما إنكار السُّنة على هيئة ممنهجة ومؤثرة، فقد ظهر متسلسلًا حسب وقائع التاريخ، وعلى أيدي فِرَقٍ قديمةٍ ضالَّة أنكرت السنة النبوية، ومن أهمها:

أ- الخوارج وإنكار السنة:

بدأ إنكار السُّنة على أيدي "الخوارج" الذين طعنوا في عدالة الصحابة رضي الله عنهم بعد حادثة التحكيم الشهيرة، فمن الخوارج مَنْ فَسَّقهم، وهم قلة لا تُذكر، والأكثرون من طوائف الخوارج كفَّروا الصحابة؛ بل منهم من جعلهم كالمشركين في الحرب والسَّبي وعدم قبول الجزية، وأدى بهم انحرافهم ذلك إلى مخالفة جماعة المسلمين، والمسارعة في تكفير الأمة بأنواعٍ من الكفر؛ فجمهرتهم يرون أنَّ دار مخالفيهم دار حرب، يُقتل فيها النساء والأطفال، وأن جميع المسلمين كُفَّار؛ مثل كُفَّار العرب، لا يُقبل منهم إلاَّ الإسلام أو القتل.

 

وأمَّا في الأحكام: فقد أنكروا الرَّجمَ في الزاني المُحْصَن؛ لأنه ليس في القرآن، وأقاموا حَدَّ السَّرقة؛ ولم يلتزموا ما ورد في السُّنة وإجماع الأمة بالحِرْزِ في السَّرقة ونصابِها، وكذلك قطع اليد من الرُّسغ، كما استحلوا كُفْرَ الأمانة التي أمر الله تعالى بأدائها، وزعموا أنَّ المسلمين مُشرِكون يَحِلُّ أكل أماناتهم، وأجاز فريق منهم - الميمونية - نكاح بنت البنت، وبنت الابن؛ لأنَّ القرآن لم يَذْكُرُهُنَّ ضمن المُحَرَّمات، وأوجبوا على الحائض الصلاةَ والصيامَ في حيضها...[4] إلى غير ذلك من أنواع الضَّلال والزَّيغ الذي وقعوا فيه في أصول الدِّين، وفي أحكام الشريعة؛ بسبب أنهم رفضوا السُّنة النبوية المطهرة، وزعموا أنهم يأخذون أحكامهم وقضايا دينهم عن القرآن، وما علموا أنهم نابذوا القرآنَ ونَبَذوه يوم نبذوا السُّنة واتَّخذوها ظهريًا.

 

ب- الرافضة وإنكار السنة:

لم تقبل "الرافضة" من سنة النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلاَّ القليل الذي نُقل إليهم عن طريق مَنْ يدين بعقيدتهم في الإمامة ويُشايع آلَ البيت - بزعمهم - وهم بضعة عشر صحابيًا فقط الذين رَضِيَ عنهم الرافضة وأخذوا عنهم، ثم أنكروا قدرًا كبيرًا من السنة النبوية؛ لأنها أتت عن جمهرة الصحابة الذين لا يرضى عنهم الرافضة، ومن هنا طعنوا في عدالة الصحابة رضي الله عنهم؛ لأنهم بايعوا أبا بكر رضي الله عنه خليفةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يُبايعوا عَلِيًّا رضي الله عنه الذي كان هو الخليفة كما يزعمون، ولم تكتف الرافضة بإنكار السنة النبوية؛ بل أضافوا جريمةً أخرى؛ وهي أنهم كذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعوا أحاديث نسبوها - زورًا وبهتانًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فألَّفوا كلامًا على هيئة أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم في تعظيم أئِمَّتهم، وتأكيد نِحلتهم، وتأصيلِ معتقدهم، وأيضًا في ذمِّ مخالفيهم وعقائدهم، وقد كان لهذه الأحاديث المكذوبة الموضوعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم دور أصيل في حُجيَّة التَّشريع وأصولِ الدِّين عندهم.

 

ج- المعتزلة وإنكار السنة:

لمَّا كان "المعتزلة" لا يؤمنون إلاَّ بما يتَّفق مع عقولهم وأصولهم الخمسة، وكان هناك من الأحاديث النبوية ما يهدم مذهبهم ويناقض أدلتهم، كان موقفهم من السنة موقف العداء لها؛ فقد ذمُّوا مَنْ تعلَّم الحديث، وقلَّلوا من فائدته والاستدلال به، ونصُّوا على أنه لا حاجة إليه، فالعقول تُغني عنه.

 

وعلى إثر ذلك؛ بدأت عداوتهم للصحابة رضي الله عنهم واتِّهامهم في دينهم، وأما آيات القرآن الكريم فقد أَوَّلوها بما يُوافق أصولهم وأهواءهم، وما تعارض من الأحاديث الصحيحة مع أصول المعتزلة؛ إمَّا يؤوِّلونه تأويلًا يُشبِه الرد، وإمَّا يُصرِّحون بالرد بِحُجَّة أنَّ الخبر آحاد، والآحادُ لا يحتج بها في العقائد، وهم في كلِّ ذلك يتطاولون على رواة السُّنة ويطعنون فيهم؛ سواء من الصحابة رضي الله عنهم أو من التابعين لهم بإحسان، فمَنْ بعدهم من أئمة المسلمين.

 

وبلغ بالمعتزلة عداؤهم للسنة النبوية أنْ ردُّوا نصوصًا كثيرة، ومن ذلك[5]:

أ- نفيهم لصفات الله تعالى.

ب- قولهم بأنَّ القرآن مخلوق.

ج- نفيهم للقدر.

د- إنكارهم لرؤية الله تعالى يوم القيامة.

هـ- إنكارهم لشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم.

 

و- إنكارهم لمعجزات النبي صلى الله عليه وسلم؛ كانشقاق القمر، وتسبيح الحصى في يده، ونبع الماء بين أصابعه؛ ليتوصَّلوا بذلك إلى إنكار نبوَّته صلى الله عليه وسلم.

 

ز- إنكارهم للحدود التي تثبت بالسُّنة؛ كحد شارب الخمر، وحد السرقة.

ح- إنكارهم لحجية الإجماع والقياس.

ط- تخليدهم صاحب الكبيرة في النار.

ي- إنكارهم لعذاب القبر.

 

ولا نبالغ إذا قلنا: إن "منهج المعتزلة" بوابة كبرى وَلَجَ منها أعداء الإسلام والسُّنة؛ لمهاجمة الشريعة الإسلامية وإثارة الشبهات حولها؛ إذْ صوَّروا الإسلام في صورة الخرافات والأساطير.

 


[1] رواه البخاري، (1/ 67)، (رقم 322)؛ ومسلم، واللفظ له، (1/ 148)، (رقم 787).

[2] رواه ابن المبارك في (مسنده)، (ص 143)، (رقم 233)؛ والخطيب البغدادي في (الفقيه والمتفقه)، (1/ 116)، (رقم 233)؛ وابن عبد البر في (جامع بيان العلم)، (2/ 368)، (رقم 1232).

[3] رواه ابن عبد البر في (جامع بيان العلم)، (2/ 368)، (رقم 1233).

[4] انظر: الفَرق بين الفِرق، (ص 314).

[5] انظر: موقف المعتزلة من السنة النبوية ومواطن انحرافهم عنها، (ص 113) وما بعدها.