عبادة أفضل من الصيام والصلاة والصدقة

منذ 2022-08-09

عبادة عظيمة من العبادات التي يحبها الله تعالى ورسولهﷺ، هذه العبادة ما أحوج الأمة اليوم إليها، وخاصة ونحن في زمن كثُرت فيه الصراعات والنزاعات، هذه العبادة هي عبادة الإصلاح بين الناس.

نقف اليوم مع عبادة عظيمة من العبادات التي يحبها الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، هذه العبادة تهدف إلى الأمن والاستقرار، والألفة والمودة والمحبة بين الناس، هذه العبادة لأهميتها؛ أباح الإسلام الكذب في سبيل تحقيقها؛ حفاظًا على وحدة المسلمين وسلامة قلوبهم، واعتبرها من أعظم وأجلِّ الطاعات وأفضل الصدقات، وادخر الله تعالى لصاحب هذه العبادة الأجرَ العظيم والثواب الجزيل، إذا ابتغى بها وجه الله تعالى، هذه العبادة ما أحوج الأمة اليوم إليها، وخاصة ونحن في زمن كثُرت فيه الصراعات والنزاعات، والهجر والقطيعة، فلم يسلم منها الأقارب ولا الجيران، ولا الأصدقاء، ولا الأزواج، ولا الشركاء! هذه العبادة هي عبادة الإصلاح بين الناس.

 

فيا تُرى ماذا قال القرآن الكريم عن هذه العبادة؟ وما الأجر والثواب الذي أعده الله تعالى لصاحب هذه العبادة؟ وكيف كان السلف الصالح يتعاملون مع هذه العبادة؟ وكيف كان الواحد منهم يعفو ويسامح ويصلح ويُعرض عن الجاهلين؟ هذا ما سنتعرف عليه في هذه الساعة المباركة.

 

 

أيها المسلم الكريم: لو تصفحنا كتاب الله، لرأينا أن القرآن الكريم تحدث عن هذه العبادة في آيات كثيرة، وحث الأمة على التمسك بها، وبيَّن لنا أجرها وثوابها؛ فقال تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10]؛ أي: من أراد أن تشمله الرحمـات الإلهية، فليتـقِ الله تعالى، وليسلك طريـق الإصــلاح بين الناس.

 

وقال تعالى في آية أخرى:{لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114]؛ يعني: لا خير في كثير من الكلام الذي يتناجى فيه الناس، ويتحدثون به سرًّا، إلا في نجوى من أمر غيره سرًّا بصدقة يزكِّي بها ماله، وينفع بها المحتاج إليها، أو من غيره بالإكثار من أعمال البر، أو القيام بالإصلاح بين الناس المتخاصمين؛ لكي يعودوا إلى ما كانوا عليه من الألفة والإخاء والصفاء، ثم بيَّن تعالى حسن عاقبة من يقوم بفعل هذه الفضائل فقال: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114].

 

 

ذات يوم كان نبينا صلى الله عليه وسلم جالسًا بين أصحابه فقال لهم: «ألا أخبركم بأفضلَ من درجة الصيام والصلاة والصدقة» - الصحابة رضي الله عنهم تعجبوا ما هو العمل الذي هو أفضل من نافلة الصيام والصلاة والصدقة - قالوا: بلى، قال:  «صـلاح ذات البين، فإن فساد ذات البيـن هي الحالقة»[1] ؛ قال الترمذي: هـذا حديث حسن صحيح، ويُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين»[2].

 

وفي هذا الحديث حثٌّ وترغيب في إصلاح ذات البين، واجتناب عن الإفساد فيها؛ لأن الإصلاح سبب للاعتصام بحبل الله، وعدم التفرق بين المسلمين، وفساد ذات البين ثُلمة في الدين، فمن تعاطى إصلاحها، ورفع فسادها، نال درجةً فوق ما يناله الصائم القائم المشتغل بخويصة نفسه[3].

 

فالذي يسعى للإصلاح بين الناس، ويجمع بين فلان وفلان على المحبة والألفة، ويصلح بين زوج وزوجته، فهذا العمل أفضل من الذي يصوم النهار ويقوم الليل، ويتصدق على الفقراء، ولكن الذي يسعى لفساد ذات البين، ويسعى لخراب البيوت، ونشر الفتنة بين الناس، فهذا يحلق بدينه، كما تحلق الموس الشعر.

 

رُبَّ كلمة تقولها - يا أخي - تطفئ بها نار الفتنة، وتجمع بها المتخاصمين على المودة، وتعمر بها البيوتات؛ قال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: «إن العبد لَيتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالًا يرفع الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالًا يهوي بها في جهنم»[4]، كلمة تقولها تصلح بها بين أخوين أو زوجين أو بين أسرتين يرفعك الله بها في أعلى الجنان، وكلمة تقولها تفسد بها بين الناس، وتخرب بها البيوتات، تهوي بك في النار سبعين خريفًا.

 

والله - يا أخي - ليس ثمة خطوة أحب إلى الله تعالى من خطوة يصلح فيها العبد بين اثنين، ويقرب فيها بين قلبين؛ ولذلك جعل الله للمصلح أجرًا عظيمًا؛ يقول سيدنا أنس رضي الله عنه: ((من أصلح بين اثنين، أعطاه الله بكل كلمة عتق رقبة))[5] ، وقال الإمام الأوزاعي الفقيه المحدث رحمه الله: ((ما خطوة أحب إلى الله عز وجل من خطوة في إصلاح ذات البين، ومن أصلح بين اثنين كتب الله له براءةً من النار))[6]، لماذا كل هذا الأجر والثواب للمصلح؟

 

لأن المصلح بإصلاحه تكون الطمأنينة والهدوء والاستقرار والأمن، وتتفجر ينابيع الألفة والمحبة بين الناس، ولو نظرنا في واقعنا، لرأينا كم من بيت كاد أن يتهدم، وكم من أسرة كادت أن تتشتت، وكم من زوجة كادت أن تطلق، وكم من قطيعة كادت أن تكون بين أخوين أو صديقين أو قريبين أو جارين، وكم من دماء كادت أن تسيل - لولا تدخل هذا المصلح بكلمته الطيبة، ونصيحته الغالية، استطاع أن يعيد المياه إلى مجاريها!

 

إن الخلاف والنزاع أمر طبيعي لا يسلم منه أحد من البشر، فقد يقع خلاف بينك وبين أخيك، أو أحد أقاربك، أو مع زوجتك، أو مع جارك، فهذا أمر طبيعي فلا تنزعج منه، ولو سلِم أحد من الخلاف لسلم منه خيرة البشر صحابة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد روى الإمام البخاري أن أهل قباء صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ الذين أنزل الله في حقهم:{لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108]،فهؤلاء حصل بينهم خلاف، واقتتلوا حتى ترامَوا بالحجارة، فأُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: «اذهبوا بنا نصلح بينهم»[7].

 

إن الخلاف ليس عيبًا، ولكن العيب في الاستمرار على الخلاف، والخصومة وعدم الصلح، فالمسلم يحصل خلاف بينه وبين أخيه، ولكن عليه أن يسارع إلى الصلح والعفو والتسامح.

 

وبعض الناس يظن أن مَن يعفو ويسامح ويتنازل عن حقه جبانٌ، وأنها منقصة في حقه، لا، هذا غير صحيح، إياك - يا أخي - أن تصدق هذا الكلام، فهؤلاء إنما يدعونك للشر، ولا يريدون لك الخير.

 

ثم هل أنت تصدق هؤلاء أم تصدق الله عز وجل الذي يقول:{وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128]؟ هل أنت تصدق هؤلاء أم تصدق الله عز وجل الذي يقول:{فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40]؟ هل أنت تصدق هؤلاء أم تصدق نبيك صلى الله عليه وسلم الذي يقول: «وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلا عزًّا»[8]؟ هذا الذي يشجعك على الانتقام وأخذ الثأر وعدم الصلح، هذا يمثل دور الشيطان الذي قال عنه:{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} [المائدة: 91].

 

سلفنا الصالح رضي الله عنهم كانوا يقابلون السيئة بالحسنة، وكانوا يقولون لكل من يتجاوز عليهم: سامحك الله، وغفر الله لك، هذا سيدنا أبو ذر الغفاري رضي الله عنه الصحابي الجليل، كان عنده غلام، هذا الغلام أدخل شاة على علف الفرس لتأكل منه، فسأله سيدنا أبو ذر: أدخلت الشاة على علف الفرس؟ فقال له الغلام: أدخلتها لأغيظك... تأملوا كيف يجيب هذا الغلام سيده، كيف يرد عليه بأسلوب استفزازي، ماذا تظنون من صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل؟ وكيف سيتعامل مع هكذا موقف؟

 

اسمعوا - أيها الناس - ماذا فعل سيدنا أبو ذر رضي الله عنه مع هذا الغلام، قال له: "أيها الغلام، لأجمعنَّ مع الغيظ أجرًا، أنت حر لوجه الله تعالى"[9]، إنه الحلم والعفو والصفح، هذه الأخلاق التي ضاعت من واقع الكثير من الناس في دنيا اليوم، أتدرون لماذا تعامل أبو ذر رضي الله عنه مع هذا الغلام بهذه الأخلاق؟ لأنه جعل نُصب عينه قوله تعالى:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، وقوله تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 13]، وقوله تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 40].

 

 

فيا أخي الكريم: كُنْ من المصلحين الذين يصلحون بين الناس، كن مفتاحًا للخير مغلاقًا للشر، قل كلمة تجمع بها بين الأخ وأخيه، بين الجار وجاره، وبين الزوج وزجته، فإنك إن فعلت ذلك، زادك الله عزة وكرامة، وإياك أن تكون ممن يسعون في الأرض فسادًا، فإن لم تستطع أن تقول كلمةَ خيرٍ تجمع بها بين الأطراف المتنازعة، فالزم الصمت؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا، أو ليصمت...»[10].

 

فهنيئًا لمن جعله الله من الساعين في الإصلاح بين الناس، هنيئًا لمن جعله الله مفتاحًا للخير مغلاقًا للشر، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

 

اللهم ألِّف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام... أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين.

 

مسألتنا الفقهية لهذه الجمعة تتعلق بالقيام للصلاة عند الإقامة: أقوال المذاهب فيها ما يلي:

الحنفية: يقوم عند قول المقيم: (حي على الفلاح)، والمالكية: يقوم لها حال الإقامة، أو بعدها بقدر ما يستطيع، ولا يُحَدُّ ذلك بزمن معين، والشافعية: يسن أن يكون القيام للصلاة عقب فراغ المقيم من الإقامة، والحنابلة: يسن أن يقـوم عنـد قـول المقيم: قد قامت الصـلاة، إذا رأى الإمام قد قام، وإلا تأخر حتى يقوم[11].

 

وعليه، فالأمر في هذا واسع، فللمأموم أن يقوم متى شاء في أول الإقامة أو في أثنائها.

 


[1] (وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ)؛ أَيِ: الْمَاحِيَةُ وَالْمُزِيلَةُ لِلْمَثُوبَاتِ وَالْخَيْرَاتِ، وَالْمَعْنَى يَمْنَعُهُ شُؤْمُ هَذَا الْفِعْلِ عَنْ تَحْصِيلِ الطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ؛ [مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح للملا علي القاري: (8/ 3154)].

[2] سنن الترمذي، أَبْوَابُ صِفَةِ الْقِيَامَةِ وَالرَّقَائِقِ وَالْوَرَعِ، باب:(4/ 244)، برقم (2509)، وقال الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

[3] مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح للملا علي القاري: (8/ 3154).

[4] صحيح البخاري، كتاب الرقاق - بَاب حِفْظِ اللِّسَانِ: (8/ 125)، برقم (6478).

[5] تنبيه الغافلين بأحاديث سيد الأنبياء والمرسلين للسمرقندي (ص: 522).

[6]الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي: (5/ 385).

[7] صحيح البخاري، كتاب الصلح - باب قول الإمام لأصحابه اذهبوا بنا نصلح: (3/ 240)، برقم (2693).

[8] صحيح مسلم، كتاب الْبِرِّ وَالصِّلَةِ وَالْآدَابِ - بَابُ اسْتِحْبَابِ الْعَفْوِ وَالتَّوَاضُعِ: (4/ 2001)، برقم (2588).

[9] ربيع الأبرار ونصوص الأخيار للزَّمَخْشَرِي: (2/ 227).

[10] صحيح البخاري، كتاب الرقاق، بَاب حِفْظِ اللِّسَانِ: (8/ 125)، برقم (6475).

[11] المسألة منقولة من كتاب: (مسائل فقهية وفوائد شرعية، د. محمد مطلق عبيد المحمدي).

_______________________________________________

الكاتب: د. محمد جمعة الحلبوسي