حقيقة البركة وبما تنال

منذ 2022-08-13

البركة في النفس، والبركة في المال، والبركة في الأهل والولد، إنها مطلب عظيم رفيع، كلٌّ يرجو أن تحلَّ عليه بركة يسعد بها في دنياه وأُخْراه، ويهنأ بها في معاشه ومعاده، ويوم يلقى ربَّه وسيده ومولاه...

إن المطالب العزيزة الغالية التي يرجوها كلُّ مسلمٍ لنفسه، ويتمنَّاها في أهله وماله وولده، ويرجوها لإخوانه المسلمين - البركة.

 

البركة في النفس، والبركة في المال، والبركة في الأهل والولد، إنها مطلب عظيم رفيع، كلٌّ يرجو أن تحلَّ عليه بركة يسعد بها في دنياه وأُخْراه، ويهنأ بها في معاشه ومعاده، ويوم يلقى ربَّه وسيده ومولاه، البركة مطلب عظيم ومنال رفيع، كل يرجو أن تتحقق له وتتيسر، وهنا - عباد الله - ينبغي أن نعلمَ أنَّ البركة مِنَّة الله على من شاء، فهي بيده - سبحانه وتعالى - إذ أَزِمَّة الأمور كلِّها بيده - جل وعلا -: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فاطر : 2].

 

البركة عطيَّة الله ومنَّته وهبته، ولهذا قال - جل وعلا - فيما ذكره عن عيسى - عليه السلام - قال: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم : 31].

 

البركة مِنَّة الله، ولا تُنال إلا بطاعة الله - عز وجل - واتِّباع رضاه.

 

البركة - عباد الله - إنما تتنزل على الإنسان بحسب إقباله على الطاعة، ومحافظته على العبادة، وبُعده عن العِصيان؛ {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف : 96]. {آمَنُوا وَاتَّقَوْا} بهذين عباد الله تُنال البركة بهما يحصِّلها العبد بإيمانه بالله، وبكل ما أمر - تعالى - عباده بالإيمان به، ويأتي في مقدمة ذلك الإيمان بأصول الإيمان العِظام: بالله وملائكته وكتبه، ورسوله واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، فكلَّما عَمُر القلب بالإيمان تحقيقًا وتكميلاً وتتميمًا، تنزلت عليه البركة مَنًّا من الله وتفضُّلاً بحسب ذلك.

 

الإيمان والتقوى تقوى الله - جل وعلا - بفعل الأوامر، وترْك النواهي؛ إذ تقوى الله - جل وعلا - ليست قولاً يقوله الإنسان بلسانه أو دعوى يدعيها، وإنما حقيقتها: عمل بطاعة الله على نور من الله رجاء ثواب الله، وترك معصية الله على نور من الله خيفة عذاب الله.

 

عباد الله:

عندما نتأمل في هذين الأمرين ما دلَّ عليه قوله: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم: 31]، وقوله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 96] نعرف حقيقة البركة، وكيف تُنال، فهي لا تنال إلا من الله، ولا يحصلها العبد إلا مَنًّا وتفضُّلاً من الله، ولا ينالها العبد إلا بطاعة الله - جل وعلا.

 

عباد الله:

من أراد البركة لنفسه وأهله وبيته وماله وولده، فليُقبِل على الله - عز وجل - عابدًا مُطيعًا بذكر الله - جل وعلا - وحمده وتسبيحه وتلاوة كلامه تُنال البركة، والصلاة - عباد الله - من أعظم ما يَنال به العبد بركة الله، وكذلك عموم الطاعات؛ صلة الأرحام بركة للإنسان في حياته، وبرُّه بوالديه، وإحسانه إلى الناس كلّ ذلك من أسباب البركة ونيلها، أكل الحلال واجتناب الحرام من أعظم أسباب نيل البركة، تجنب الآثام، والبُعد عمَّا يسخط الله - جل وعلا - كلُّ ذلك تُنال به بركة الله، كما أن العِصيان ممحقة للبركة، فالطاعة سبب لنيلها وتحصيلها؛ قال - عليه الصلاة والسلام - عن الحَلف في البيع: «منفقة للسلعة ممحقة للبركة»، تُمْحَق البركة بالكذب والغش، وخداع الناس والمكر، والتدليس والتلبيس، وتُنال بالصدق والوفاء، والإحسان وحسن المعاملة، وطيب الكلام وغير ذلك من أبواب الإحسان. مما تنال به البركة - عباد الله - المحافظة على التبكير؛ فالبكور بركة، وقد قال - عليه الصلاة والسلام -: «بورك لأُمَّتي في بكورها»، ويقول - عليه الصلاة والسلام -: «لو توكلتم على الله حقَّ توكُّله، لرزقكم كما يرزق الطير تغدوا خِماصًا وتروح بطانًا»، فالتبكير والغُدُوُّ ومجاهدة النفس على حُسن العمل، مع تمام التوكُّل على الله وحُسن الاعتماد عليه، كل ذلك - عباد الله - من أسباب نَيْل البركة من الله - جلّ وعلا - ومن أعظم ذلك - عباد الله - التوجُّه إلى الله بالدُّعاء، التوجُّه إلى من بيده البركة بأن يُبارك في الأهل والمال والولد توجُّه صادق إلى من بيده مفاتيح الأمور وخزائن السماوات والأرض، التوجه إلى مَن لا يرد عبدًا دعاه، ولا يخيب مؤمنًا ناجاه، وفي الدعاء المأثور: "اللهم بارك لنا في أسماعنا وأبصارنا، وقواتنا وأزواجنا، وأموالنا وذرياتنا، واجعلنا مباركين أينما كُنَّا".

 

عباد الله:

والله - جل وعلا - جعل في الأزمنة والأمكنة أزمنة مباركة وأمكنة مباركة، خصَّها - جل وعلا - بذلك وميَّزها به، ففي الأزمنة - عباد الله - رمضان شهر مبارك، وليلة القدر أبرك الليالي، وفي الأمكنة - عباد الله - المسجد الحرام مكان مبارك، والله - جل وعلا - قال عن المسجد الأقصى: {الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء : 1].

 

وعموم المساجد - عباد الله - أماكن مباركة هي أحبّ البقاع إلى الله - جل وعلا - والبركة في الأزمنة الفاضلة والأمكنة الفاضلة لا تُنال إلا بطاعة الله فيها حسبما أمر - جل وعلا - وشرع، فالأمكنة الفاضلة والأزمنة الفاضلة بركة الله - جلّ وعلا - لا تُنال فيها إلا بطاعة الله، وفِعل ما أمر - سبحانه - على ضوء شرعه وهدي رسوله المصطفى - صلى الله عليه وسلم.

 

عباد الله:

وعندما يغيب العلم، ويتوافر الجهل في الناس، يغيب عنهم حقيقة طلب البركة، ووسيلة نيلها، فتتحول عند حلول الجهل وقلة العلم وعدم البصيرة بدين الله، تتحول طلب البركة إلى نوع من الممارسات الخاطئة والأعمال الجاهلية، والممارسات الفاسدة التي يفعلها بعض الناس؛ ظنًّا منهم أنها وسيلة لاستجلاب البركة ونيلها، ولنقف هنا مع حديث في السُّنَّة يبيِّن لنا هذه الحقيقة ويجلِّيها، روى الترمذي في سُننه وصحَّحه عن أبي واقد الليثي - رضي الله عنه - قال: "خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حُنين ونحن حُديثو عهدٍ بالكفر، فمررنا على سِدرة للمشركين - أي شجرة - يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم - أي يعلقون أسلحتهم - فقلنا: يا رسول الله، اجْعل لنا ذاتَ أنواط كما لهم ذاتُ أنواط، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «الله أكبر»، وفي رواية قال: «سبحان الله، قلتم والذي نفسي بيده كما قال بنو إسرائيل لموسى» : {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}  [الأعراف : 138]، «لتركبُنَّ سَننَ من كان قبلكم»، تأمل أيها المؤمن هذا الحديث العظيم، وتأمَّل العمل المنكر الذي كان عليه أهل الجاهلية في البقاع التي يتوهمون فيها بركة أو يظنون أنها مصدر ومنبع لها، فهذه سِدرة لهم ينوطون بها أسلحتهم، ويعكفون عندها، والعُكوف هو: المكثُ الطويل؛ رجاء نَيْل البركة، وكذلك تعليق الأسلحة هو للغرض نفسه لنيل البركة من جهتها، فوقع هؤلاء في ثلاثة أخطاء جِسام في باب البركة والتبرُّك؛ الخطأ الأول: تعظيمهم لهذه السدرة تعظيمًا لا يليق إلا بالله، والخطأ الثاني: عكوفهم عندها رجاء البركة من جهتها، والخطأ الثالث: تعليق أسلحتهم بها لتنالهم بركتها، فهذه الأخطاء والممارسات تنشأ - عباد الله - عندما يكون الإنسان على جاهلية جهلاء وضلالة عمياء، ولهذا اعتذر أبو واقد الليثي - رضي الله عنه - قال: "كُنَّا حديثي عهد بالكفر؛ أي: نجهل تفاصيل الإسلام، وأحكامَ الشريعة، ولذا طلبنا من النبي - عليه الصلاة والسلام - ما طلبنا، أما مَن تمكَّن من التوحيد وعرف جوانبه على التمام والوفاء، وعرف أسباب الشرك ووسائله، فإنه لا يقول مثل هذا.

 

وبهذا عباد الله نعلم أنَّ البركة لا تُنال إلا بطاعة الله على ضوء شرع الله، وألا يذهب الإنسان مذهبًا بعيدًا، بل مذهبًا منحرفًا فاسدًا في طلبه للبركة بالتوجه إلى بقاع معينة؛ إما أن يعكف عندها، أو أن يتمسَّح بها، أو أن يأخذ من تربتها، أو نحو ذلك من الممارسات الجاهلية التي ليست هي سببًا لنيل البركة، بل هي سبب لِمَحْقها؛ لأنه شرك بالله، وأعظم ما تمحق به البركة الشركُ بالله - جل وعلا - ولأنه أعظم الذنوب وأخطرها وأشنعها وأفظعها.

 

نسأل الله - جل وعلا - بأسمائه الحُسنى وصفاته العُلى أن يبارك لنا أجمعين في أسماعنا وأبصارنا، وقواتنا وأزواجنا وذريتنا وأموالنا، وأن يجعلنا مباركين أينما كنَّا، وأن يعيذنا - سبحانه - من أسباب محق البركة؛ إنه - تبارك وتعالى - سميع الدعاء، وهو أهل الرجاء، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

 

أما بعد:

عباد الله، اتقوا الله، فإن مَن اتقى الله وقاه وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه، ثم اعلموا - عباد الله - أننا في هذه الحياة في دار ممرٍّ وعبور إلى الدَّار الآخرة إلى حيث لقاء الله - جل وعلا - فالكَيِّس - عباد الله - من دانَ نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنَّى على الله الأماني، وصلوا وسلموا - رعاكم الله - على محمد بن عبدالله كما أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «مَن صلى عليَّ واحدة، صلى الله عليه بها عشرًا»، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم؛ إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم؛ إنك حميد مجيد، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين؛ أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وعثمان ذي النورين وأبي الحسنين علي، وارضَ اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.