لا تحقرن من المعروف شيئا

منذ 2022-08-24

اجعَل شعارك في صبحك ومسائك: «لا تحقرنَّ من المعروف شيئًا».

إخوةَ الإيمان:

لندعها إطلالةً على مشهَدٍ حفظَه التاريخ، وسطرَتْه لنا دَواوِين السنَّة، نقفُ مع حدثٍ غابِر، ومشهدٍ غير عابِر، لنأخُذ من هذا الحدَث أحاديث.

 

أوَّل صورةٍ نلتقطها في مشهدنا هذا، هي صورة تلك المرأة السَّوداء، التي عَلاها شيبُها، وتَجعَّد وجهُها، واحدَودَب ظهرُها.

إنَّه خبر أمِّ مِحجَن، وما أدراك ما أمُّ مِحجَن؟!

 

امرأةٌ مسكينةٌ، ليس لها نسبٌ تعتزي به، ولا قَرابة تنتَصِر لها، لا تملك شيئًا من زخرف الدنيا ومتعها؛ لا مَتاع، ولا جاه، ولا ذرية، قد صغُر أمرُها عند الناس، فلم تكن محطَّ أنظارِهم، ولم يكن اسمُها تَلُوكُه الأفواه وتَتداوَله ألسنتُهم، لكن ذكرها خلد بعد موتها أعوامًا ودهورًا، لا لسابقتها في الإسلام، ولا لأنها قدَّمت عملاً كبيرًا جليلاً يُذكَر فيُشكَر، وإنما بَقِي ذكرُها، بسبب عمل صغير حقير في أعيُنِ كثيرٍ من الناس، عمل هذه المرأة أنَّها كانت تقمُّ المسجد؛ تلتَقِط الخِرَقَ والقَذَى والعيدان من المسجد، ولم تكن تطلُب من أحدٍ مُقابِل عملها جزاءً ولا شُكُورًا.

 

نعم، كم هو صغيرٌ هذا العمل في نظَر الأعيُن، ولكنَّه عملٌ قد أهمَّ هذه المرأة السوداء حتى فرَّغت له وقتَها، واستَفرَغت لأجلِه طاقتها، فأصبَح أمرًا مُعتادًا أنْ ترَى الأعيُن هذه المرأة وهي تُلاحِق ما يندُّ من الناس، أو تلفظه الريح من أذًى داخِل المسجد، فتجمَعه في يدَيْها، أو في خِبائها، وتَرمِيه خارِجَ المسجد، داوَمَت المرأة على عملها الصغير، وأحبُّ الأعمال إلى الله أدوَمُها وإنْ قلَّ، حتى ودَّعت هذه المرأة دنياها، وفارَقتْ حياتها ليلاً، ولم يكن خبرُ وفاتها نبأً يُذكَر فيَتسارَع إليه الناس، وإنما بادَر بعضُ الصحابة بتَجهِيزها، ثم الصلاة عليها ودفنها ليلاً.

 

مضَتْ أيَّام وأيَّام، ورسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لا يرى رسم هذه المرأة، فسأل عنها؛ اهتِمامًا بها، وإكبارًا لشأنها، فأُخبِر بوَفاتها، فقال: «أفلا كنتُم آذَنتُموني»، فكأنَّ الناس صغَّروا أمرَها، فقال الرحمة المهداة: «دلُّوني على قَبرِها» ؟، فدلُّوه، فوقَف على قبرِها، وصلَّى عليها، ودعا لها بالمغفرة والرَّحمات.

 

بخٍ بخٍ، هنيئًا لهذه المرأة صلاةُ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عليها، هنيئًا لها صلاةُ مَن كانت صلاتُه رحمةً ونورًا وضياءً.

 

هنيئًا لها هذا الجزاء الذي تمتدُّ نحوه الأعناق.

 

كيف لا؟ وقد قال رسول الهدى صلَّى الله عليه وسلَّم : «إنَّ هذه القُبُور مملوءَةٌ ظلمَة على أهلِها، وإنَّ الله - عزَّ وجلَّ - يُنوِّرُها بصَلاتِي عليهم».

 

وفي هذا المشهَد - عبادَ الله - رسالةٌ إلى كلِّ مؤمن يَرجُو رحمةَ ربِّه والفوزَ برضوانه: ألاَّ يحتَقِر من العمل شيئًا؛ فرُبَّ عملٍ صغَّرَتْه الأعين، كان سببًا لرضا الرحمن، والفوز بالجنان.

 

فيا أهل الإيمان:

جنَّةُ الرحمن ليسَتْ مقصورةً وخاصَّة لِمَن باعُوا أرواحَهم، وبذَلُوا أموالهم في سبيل الله، مغفرةُ الرحمن ليسَتْ وقفًا للعِباد النسَّاك، والصوَّام والقوَّام، بل رحمة الله وجنَّته تُدرَك بأعمالٍ هي صغيرة في أعيُنِ كثيرٍ من الناس؛ {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 35].

 

تأمَّل معي - أخي المبارك - هذه الآثار الصحيحة، وانظُر كيف وصَل أصحابها للسعادة السرمديَّة، والمتعة الأبديَّة بأعمال يسيرة.

 

حدثنا أبو هريرة - رضِي الله عنه - عن نبيِّنا صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال: «بينَما رجلٌ يمشِي بطريقٍ وجَد غُصنَ شوكٍ على الطريق فأخَّرَه، فشَكَر الله له فغفَر له»؛ (متفق عليه).

 

وجاء عند أبي داود: «نزَع رجلٌ لم يعمَل خيرًا قطُّ غصنَ شوكٍ عن الطريق؛ إمَّا كان في شجرةٍ فقطَعَه فألقاه، وإمَّا كان موضوعًا فأماطَه، فشكَر الله له بها، فأدخَلَه الجنَّة».

 

وحدثنا أبو هريرة أيضًا عن حبيبنا صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال: «بينما كلبٌ يطيف برَكِيَّة قد كاد يقتُلُه العطَش، إذ رأَتْه بغيٌّ من بَغايا بني إسرائيل، فنزَعَتْ مُوقَها (أي: خفها) فاستَقَتْ له به، فسقَتْه إيَّاه، فغُفِر لها به»؛ (متفق عليه).

 

وهذا رجلٌ من الأُمَم السابقة نبَّأنا خبرَه نبيُّنا صلَّى الله عليه وسلَّم فقال: «تلقَّت الملائكة رُوحَ رجلٍ ممَّن كان قبلَكم، فقالوا: أعمِلتَ من الخير شيئًا؟ قال: لا، قالوا: تذكَّر، قال: كنتُ أُدايِن الناسَ فآمُر فِتياني أنْ يُنظِروا المُعسِر، ويتجوَّزوا عن المُوسِر، فقال الله - عزَّ وجلَّ -: تجوَّزوا عنه»؛ (متفق عليه).

وفي لفظٍ عند مسلم: «قال الله - تعالى -: أنا أحقُّ بذا منك، تجاوَزُوا عن عبدي».

 

هذه أخبارُ مَن سبَقَكم من الأُمَم الغابِرة، وتفضل الله عليهم جَزاء أعمالٍ صالحة صغيرة، فكيف يكون هو جَزاء أعمالِ أمَّة محمدٍ، الذين اختارَهم الله واصطَفاهم وفضَّلهم على العالَمين؟

 

عباد الله:

وحين نتأمَّل سِيَر أنبِياء الله وصفوته من خلقه، نَراهم سبَّاقين للخَيْرات، مُسارِعين للصالحات، وحالُهم كما قال أحدُهم: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84].

 

فهذا خليل الرحمن، حين زارَه ضيفانه، راغَ إلى أهله فجاء بعجلٍ سَمِين؛ «ومَن كان يُؤمِن بالله واليومِ الآخِر فليُكرِم ضيفَه».

 

وهذا كَلِيمُ الرحمن، موسى بن عمران، ورَد ماء مدين، فرَقَّ لحال امرأتَيْن منعزلتَيْن لا تستَطِيعان مُزاحَمة الرِّجال، فسقَى لهما من الماء.

 

وهذا عيسى ابن مريم كان نفَّاعًا للناس؛ يُبرِئ الأكمه والأبرص، ويشفي السقيم، ويحيي الموتى بإذن ربِّه، فجعَلَه ربُّه مباركًا أينما كان.

 

وهذا سيِّد ولد آدم صلَّى الله عليه وسلَّم شهد له أهلُه قبلَ بعثته بأنَّه يحمل الكَلَّ، ويَقرِي الضيف، ويكسب المعدوم، ويُعِين على نَوائِب الحق.

 

واستَمرَّ معه هذا الجود والنفع للآخَرين إلى آخِر حياته، حتى حَطَمَه الناس؛ أي: أكثَرُوا عليه وزحموه بحوائِجِهم، فكان يُصَلِّي بعد ذلك وهو قاعد؛ {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الأحزاب: 21].

 

عبادَ الله:

وعندما نتأمَّل في سِيرَة أعبد الخلق وأعرَفِ الخلق بربِّه، لا نرى في قاموس حياته استِصغارَ أيِّ عملٍ مهما قَلَّ، بل نرى بوضوحٍ جليٍّ الحضَّ على مُبادَرة كلِّ عملٍ وإنْ يَسُر، والتشجيع على كُلِّ معروفٍ وإنْ صَغُر، فحرصًا على أجر العمل أرشَدَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم لِمَن أدرك الساعة ألاَّ تشغَله أحداثُها عن العمل الصالح ولو قلَّ؛ قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «إنْ قامت الساعة وفي يد أحدِكم فسيلةٌ، فليَغرِسها»؛ (رواه أحمد بسند صحيح).

 

يأتي رجلٌ إلى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قد امتلأ نشاطًا، وتحرَّكت همَّته للمسابقة في أبواب الأعمال الصالحات، فيسأَل النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن المعروف فيأتيه الجواب: «لا تحقِرَنَّ من المعروف شيئًا ولو أنْ تُعطِي صلة الحبل، ولو أنْ تُعطِي شِسعَ النَّعل، ولو أنْ تَنْزِع من دَلوِك في إناء المُستَسقِي، ولو أنْ تنحِّي الشيءَ من طريق الناس يُؤذِيهم، ولو أنْ تَلقَى أخاك ووجهُك إليه مُنطَلِق، ولو أنْ تلقى أخاكَ فتُسلِّم عليه، ولو أنْ تُؤنِس الوَحشان في الأرض»؛ (رواه الإمام أحمد بسندٍ صحيح).

والمقصود بالوَحشان: الغريب، وإيناسُه أنْ تَلقاه بما يُؤنِسه من القول والفعل الجميل؛ كما قال أبو سليمان الخطابيُّ.

 

عبادَ الله:

وبالعمل اليَسِير بُشِّر بلالُ بن رباح بالجنَّة؛ «يا بلال، حدِّثني بأرجَى عملٍ عملتَه في الإسلام؛ فإنِّي سمعتُ دَفَّ نعلَيْك بين يديَّ في الجنَّة»، قال بلال: ما عمِلتُ عمَلاً أرجَى عندي منفعةً من أنِّي لا أتطهَّر طهورًا في ساعة ليلٍ أو نهارٍ، إلاَّ صلَّيتُ بذلك الطهور ما كتَب الله لي أنْ أصلِّي.

 

فاتَّقوا الله أيُّها المسلمون، واستَكثِروا من فعْل الخيرات، واملؤوا ديوان حسناتكم بالباقيات الصالحات؛ {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا} [مريم: 76].

 

لا تحتَقِروا ولا تستَصغِروا شيئًا من صالح العمل؛ فالكلُّ مكتوب، والجميع محسوب؛ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8].

 

والخير مهما قَلَّ فهو عند الله محبوب، وفي مُحكَم التنزيل: {وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [التوبة: 121].

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77].

 

أمَّا بعد فيا إخوةَ الإيمان:

في مُحكَم التنزيل يُخاطِب المولى - جلَّ جلالُه - أهلَ الإيمان في آياتٍ عِدَّة، يحضُّهم فيها على عمل اليسير، ويَعِدُهم بالأجر الوَفِير، فالتفسحة في المجلس للقادِمين والداخِلين، عملٌ هيِّن يَسِير، قال الله عنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} [المجادلة: 11].

أي: يُوسع عليكم، وهذه التَّوسِعة شاملةٌ لأمْر الدنيا والآخِرة، فيُوسع الله لعبده في رِزقه، ويُوسع له مَنازِله في الجنَّة؛ «فلا تحقرنَّ من المعروف شيئًا».

 

يا عبدَ الله:

نفقتُك على أهلك وولدك وبيتك، عملٌ صالح معروفٌ، مع أنها من أسس الحياة، ولا يستَقِيم العيش إلا بها ومعها.

 

كثيرٌ منَّا يَتناسَى استِصحاب النيَّة الصالحة مع هذه النَّفقة، مع أنَّ المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم قد قدَّمها على كثيرٍ من النَّفَقات في قوله: «دينارٌ أنفَقتَه في سبيل الله، ودينارٌ أنفَقتَه في رقبةٍ، ودينارٌ تصدَّقتَ به على مسكين، ودينارٌ أنفَقتَه على أهلك، أعظَمُها أجرًا الذي أنفَقتَه على أهلك»؛ (رواه مسلم في "صحيحه").

 

عبادَ الله:

ومن المعروف الذي ينبَغِي أنْ يُذكر ويُتواصَى به ولا يُحقَّر - الكلمةُ الطيِّبة؛ فالكلمة الطيِّبة سهلةُ المَنال، عظيمة النَّوال، بعيدة الأثَر؛ {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم: 25].

 

فبالكلمة الطيِّبة يتَّقي العبدُ نارَ الله الموقَدة؛ «اتَّقوا النارَ ولو بشِقِّ تمرةٍ، فمَن لم يجد فبكلمةٍ طيِّبة».

وبالكلمة الطيِّبة يكتب الله لعَبدِه مَنازِل من الرِّضوان والجنان، وبالكلمة الطيِّبة فُتحَت مَغالِيق القُلُوب، وعادَ مُعرِضون تائِهُون إلى علاَّم الغُيُوب.

بالكلمة الطيِّبة أسلَمَ خالد بن الوليد، فكان سيف الله المسلول.

وبالكلمة الطيِّبة ألَّف البخاري "صحيحه"، فكان أصحَّ كتاب بعد القرآن.

 

محدِّث الشام البرزالي أطلَقَ كلمةً عابرة لتلميذه الذهبي، فقال له: إنَّ خطَّك يُشبِه خَطَّ المحدِّثين، ففعَلتْ هذه الكلمة فِعلََها في نفْس الإمام الذهبي، فأقبَلَ على طلَب الحديث، حتى عُدَّ رأسًا من رؤوس المحدِّثين.

 

وأخيرًا معاشرَ الأحبَّة:

كم وكم تمرُّ بنا في حياتنا، في يومنا وليلتنا، في عملنا وطُرُقنا ومَنازِلنا من أعمالٍ صالحات، ميسورات قريبات، نَمُرُّ بها وعليها ونحن عنها غافلون!

 

فيا مُفرِّطًا في حسناته، ها هي أوجُه المعروف مشرعة أمامَك، فاقتنصها، واسعَ للآخرة سعيها:

• اجعَل شعارك في صبحك ومسائك: «لا تحقرنَّ من المعروف شيئًا».

 

• لا تبخَل على نفسك ببَذْل ابتسامة، أو دفع هديَّة، أو رفع أذيَّة.

 

• لا تستَقلِل ثواب الشَّفاعة الحسنة، وقَضاء الحوائج، وحل المشاكل، لا تَزهَد في قُربات وطاعات؛ من مُواسَاة مكلوم، وتعزية مُصاب، وتشييع جنازَة، وعِيادَة مريض، وإنظار مُعسِر، بل وإدخال البهجة في النُّفوس، فلا تدري، فلعلَّ ذلك العمل وإنْ كان صغيرًا تكون به ومعه سعادَتُك ونجاتُك في أخراك، وبقاء ذكرك في دنياك.

 

اللهم يسِّرنا لليُسرَى، وجنِّبنا العُسرَى، واجعَلنا من أهل الذِّكرى.

عباد الله، صلُّوا بعد ذلك على الهادي البَشِير، والسِّراج المنير.

فهد بن صالح العجلان

دكتور مشارك في قسم الثقافة الإسلامية في كلية التربية بجامعة الملك سعود بالرياض