للكون إله

منذ 2022-10-02

الدين لا يرفض التقدم المادي، ولكنه يضعه في مكانه الصحيح، كوسيلة وليس غاية، والدين لا يرفض العلم بل يأمر به ويحض عليه، ولكنه يعتبره ـ مهما كان شأنه وشأوه ـ مجرد وسيلة للمعرفة ضمن وسائل أخرى عديدة يملكها الإنسان، كالفطرة والبداهة والبصيرة.

(للكون إله).. قد يبدو العنوان غريباً عند المؤمنين أن للكون إلهاً، فهذه بدهية آمنوا بها، ويشهدونها في كل ما حولهم؛ بل وفي أنفسهم، ولكنه عنوان واجب الطرح، في ظل ما نرى ونسمع من اعتقادات تصل إلى الإلحاد - عياذا بالله - فثمة من ينسب الكون بأكمله إلى الطبيعة، وثمة من يقول إنه يطور نفسه بنفسه، وهناك من لا يؤمن بشيء ولا يحير جواباً إن سألته عمن خلق الكون، وهناك من يتأثر بهذه الشبهات وتلك الأقاويل، أو تنقدح في ذهنه أسئلة حول الخالق، وقد تبهره فورة التقدم العلمي، وتسيطر عليه زهوة الغرور؛ فينغمس في هذا المستنقع الإلحادي، الذي ينكر وجود خالق للكون ومدبر لأموره، وبعض علماء الغرب نفسه يقول: إن الإيمان ولو بحجر خير من ألا تؤمن بشيء، أو ترى العالم هملاً.

من هنا، جاء هذا الكتاب، جاء وليد عالم قلب نظره في الكون؛ فرأى كل ما فيه يدعو للإيمان بخالق ومسير ومسيطر، هو أكبر من هذا الكون وأعظم، وإلا تساوى معه في الحاجة إلى خالق!


الكتاب موضوع العرض اليوم هو: "للكون إله"، ونقرأ أسفل العنوان: "قراءة في كتابي الله؛ المنظور والمسطور"، وهو من تأليف الدكتور صبري الدمرداش - الأستاذ بجامعة الكويت - وقد أصدرته مكتبة المنار الإسلامية بالكويت، في 672 صفحة، مزودة بالصور الملونة والمخططات البيانية، عند الحاجة إليها.

يستعرض الكاتب - تحت عنوان: "التقدم المادي.. ذلك الإله الموهوم" - بعض مظاهر التقدم الحديث التي - إن لم تكن الحكمة قائداً لها - قد تتسبب في دمار كبير، ثم يعرّف بمواقف البشر تجاه ما يعايشونه من تقدم مذهل لا يرى ـ كما يصفه الكاتب ـ إلا بعين واحدة، هي المادة، ويفتقد العين الثانية، وهي الروح التي تبصر البعد الروحي للحياة؛ حيث يقول:

"وكان طبيعياً أن يفتتن بعض الناس بهذا النوع من التقدم، ومن ثم عبدوا هذا المسخ وقدسوه.

وأمام هذا الاستعراض غير المسبوق للقوى المادية للغرب بمختلف جوانبها، فقدنا نحن - أهل الشرق - ثقتنا بأنفسنا، وفي حمى الشعور بالنقص والتخلف تصور بعضنا ـ وخصوصا الشباب من أبنائنا ـ أن دياناتنا إن هي إلا ضرب من الخرافات المخجلة، التي يجب التخلص منها لنلحق بركب التقدم، وندخل في رحاب المعبد الجديد، معبد العلم؛ لنعبد الإله الموهوم، الذي هو المادة!

وسجد بعضنا مبهورين فاقدي الوعي، وقد اختلطت عليهم الوسيلة بالغاية، فجعلوا من التقدم المادي غاية، ونسوا أنه في الحق مجرد وسيلة، وينسى الإنسان في هذا التيه الذي أضاع فيه عمره أنه أخطأ؛ أخطأ مرة حينما تصور أن الكون بلا إله، وأنه قذف به إلى الدنيا بلا نواميس تحكمه ورب يسأله.

وأخطأ مرة أخرى حينما عبد التقدم المادي - الإلهه الذي صنعه بيديه - وجعل منه صدراً لسكينته وراحته؛ فإذا به هو نفسه الذي يسلبه سكينة النفس وراحة البال، بل إنه يصبح - في النهاية - الأداة التي تقصف عمره، وتهد المعبد على بانيه، وعلى ما فيه ومن فيه.

وأخطأ الإنسان مرة ثالثة؛ حينما تصور أن علوم الطبيعة من فيزيقا وكيمياء وبيولوجيا وطب وفلك، هي العلوم الحقة، وأن "الدين أفيون الشعوب".

ويتابع الكاتب تعليقه فيقول: "الدين ضرورة لا غنى عنها؛ لأنه هو الذي يرسم للعلوم الصغيرة غاياتها، ويحدد وظائفها في إطار الحياة المثلى. إن الدين هو الذي يقيم الضمير ويوقظه ويجعله يفعل فعله، وهو الذي يدلنا على أن كل العلوم - غيره - وسائل وليست غايات، كما أن التقدم المادي وهو نتاج تلك العلوم، هو في ذاته وسيلة وليس غاية، والمادة ذاتها مخلوقة مثلما نحن مخلوقون، وليست إلها يعبَد، وإنها لا تستطيع - وحدها - أن تمنح الإنسان سكينته وراحة باله؛ لأنها ناقصة، شأن كل ما في الكون.

والدين لا يرفض التقدم المادي، ولكنه يضعه في مكانه الصحيح، كوسيلة وليس غاية، والدين لا يرفض العلم بل يأمر به ويحض عليه، ولكنه يعتبره ـ مهما كان شأنه وشأوه ـ مجرد وسيلة للمعرفة ضمن وسائل أخرى عديدة يملكها الإنسان، كالفطرة والبداهة والبصيرة. ورفضُ العلم ورفض الأخذ بالتقدم المادي وأسبابه سيئ، سوءَ عبادة هذا التقدم، سواء بسواء.

وإننا لنجد في مشرقنا أحد اثنين: من يرفض العلم اكتفاءً بالدين، ومن يرفض الدين عبادةً للعلم. وكلا الاثنين خطؤه فادح، فهما لم يفهما المعنى الحقيقي للدين ولا المعنى الحقيقي للعلم".


يهدف المؤلف إلى إثبات أن الكون بنفسه ينطق بوجود إله له، وأن التأمل الدقيق يؤكد هذا وكذلك العلم، ويرد في كتابه على الأسئلة والشبهات التي يعرضها منكرو الإله الحق، ضمن إطار حواري مشوق، فيه الجدل، وفيه العلم، وفيه الفكر والتأمل، ويظهر لنا كل هذا عبر أمسيات حوارية، بين أفراد أسرة مؤمنة: الأب عالم في الفلك، والأم معلمة للفيزيقا، وأخوها أستاذ للعقيدة والدعوة، والابن طالب في كلية العلوم، والبنت طالبة في كلية الآداب، فتخصصاتهم مختلفة، وكل منهم يتحدث من العلم الذي آتاه الله، ويعرض الأسئلة التي يواجهها، ويوفق بين ما لديه من علم وما يجده من الآخرين، وتقدم لنا هذه الأسرة خمس أمسيات حوارية، تتركز كل واحدة منها حول جزء معين في الكون:

فالأولى: هي جولة في السماء الدنيا، مع منظومتنا الشمسية، والثانية: تنتقل إلى النجوم والمجرات وطبقات السماء، وفي الأمسية الثالثة: نتعرف على دستور الكون؛ فإن له قوانين وسنناً يمضي عليها، وتقوم حياته بها، وهي كلها تشهد بوحدانية الخالق، وفي الأمسية الرابعة تحدث عن سؤال حير البشرية وما زال؛ وهو: هل في الكون بشر غيرنا؟ ووضح الشروط اللازمة لنشأة الحياة واستمرارها.


أما الأمسية الخامسة: فينضم فيها إلى الأسرة المؤمنة زميل لابنهم، ولكنه يعاني الشك، ويستبد به القلق، ويعترض على كل شيء، ويكاد لا يؤمن بشيء؛ فيعرض كل الأسئلة والشبهات التي يتفوه بها الملحدون والمنخدعون بالتقدم المادي؛ فيرد عليها عالم الفلك وعالم الشريعة بإيمان وثقة ويقين.

تحمل هذه الأمسية عنوان: "الله خالق الكون ومبدعه"، وفيها يقف المؤلف عند بعض أسماء الله الحسنى، ويستعرض مظاهر من الكون، ومشاهد من الطبيعة، ونواميس يقوم عليها العالم، وكلها تثبت وجود الخالق، وتثبت له هذه الأسماء والصفات، وهذه الأسماء التي تناولتها الأسرة في أمسيتهم الخامسة المثبتة في هذا الكتاب هي:

الأول - الآخر - الحي - السميع - البصير - الواحد - القادر - الخالق - العليم - البديع - الحكيم - الهادي.


هذا الكتاب زاخر بالمعلومات العلمية، خاصة في ميدان علم الفلك والفضاء والفيزياء، وهي معلومات حقيقية ذات مراجع محددة في نهاية الكتاب، ويستعين بالقوانين العلمية الثابتة، ويستدل بها على وجود الخالق - عز وجل - ويدحض ادعاءات من يقول إن الكون خلق نفسه بنفسه، أو وجد مصادفة، أو غير ذلك مما يدعيه المدعون جهلاً أو ضلالاً، وكلها ردود علمية من واقع المكتشفات الحديثة، ويإثبات القوانين المؤكدة والمعادلات الرياضية والفيزيقية، ومصاحبة الدلائل القوية الناصعة، التي تؤيد ما يذهب إليه الكاتب في إثبات وجود الله عز وجل.

والكتاب مزود بصور توضيحية كثيرة، وجداول إحصائية وبيانية، كما يتبع طريقة جديدة في العرض في بعض الجزئيات؛ مثل التعريف بالكواكب عبر بطاقات شخصية لكل منها.


أما في نهاية الكتاب فيضع فصلاً على لسان الفقيه - وهو أخو الزوجة - يجمع فيه شهادات عن الله - عز وجل - ووجوده وقدرته وعظمته، فيتكلم فيه الفقيه عن (الله) - عز وجل - على ألسن السلف الصالح، يتبعه بفصل "الله في عيون علماء الطبيعيات"، من علوم الفلك والفيزيقا والكيمياء الحيوية وعلم الأحياء على لسان العالم الفلكي، ثم بفصل عن "الله في فكر المتفلسفين" من الغربيين والمسلمين ممن آمن به، ثم عند الذين أنكروه؛ فيقدم لنا مقاطع من أقوالهم في هذا الفصل.

وأحببت أن أنقل لكم بعض الأقوال، التي قال بها العالم الشهير ألبرت أينشتاين، ففيها تشبيهات تقرب الواقع، وفيها جزء من عقل هذا الإنسان، تبين أن العلم سبيل للإيمان بالفعل لكل ذي عقل.

ذهب جماعة من اللاهوتيين والأخلاقيين والعقليين والماديين إلى مكتب أينشتاين في معهد الدراسات العليا في جامعة برنستون؛ ليحكم بينهم في موضوع (الله)، بعد أن اختلفوا حوله، وسألوه: ما رأيك في الله؟

فأجاب: لو وُفقت أن أخترع آلة تمكنني من مخاطبة الميكروبات، فتحدثت مع ميكروب صغير واقف على رأس شعرة من شعرات رأس إنسان، وسألته: أين تجد نفسك؟ لقال لي: إني أرى نفسي على رأس شجرة شاهقة. عندئذ أقول له: إن هذه الشعرة التي أنت على رأسها إنما هي شعرة من شعرات رأس الإنسان، وإن الرأس عضو من أعضائه! فماذا تنظرون؟ هل لهذا الميكروب البكتيري أو الفيروسي المتناهي في الصغر - حجمه جزء واحد من مليار جزء من السنتيمتر المكعب، ووزنه جزء واحد من ترليون جزء من الجرام - أن يتصور جسامة حجم الإنسان ووزنه؟ كلا. إني بالنسبة إلى الله لأقل من ذلك الميكروب وأحط بمقدار لا يتناهى، فأنى لي أن أحيط بالله الذي أحاط بكل شيء؟


إن أعظم وأجمل شعور يصدر عن النفس البشرية هو ما كان نتيجة التطلع والتفكر والتأمل في الكون ومكنوناته، إن الذي لا يتحرك شعوره وتموج عاطفته نتيجة هذا التأمل؛ لهو حيّ كميّت. إن خفاء الكون وبعد أغواره وحالك ظلامه إنما يُخْفِي وراءه أشياءَ كثيرة منها الحكمة وفيها الجمال، ولا تستطيع عقولنا القاصرة إدراكها، إلا في صور بدائية بسيطة، هذا الإدراك للحكمة والإحساس بالجمال، ما هو إلا جوهر العبادة عند بني البشر، إن ديني هو إعجابي بتلك الروح السامية التي لا حد لها، تلك التي تتراءى في التفاصيل الصغيرة القليلة التي تستطيع إدراكها عقولنا الضعيفة العاجزة، وهو إيماني العاطفي العميق بوجود قدرة عاقلة مهيمنة، تتراءى حيثما نظرنا في هذا الكون المعجز للأفهام.

ويقول أينشتاين كذلك: إني لا أستطيع أن أتصور عالِما حقاً لا يدرك أن المبادئ الصحيحة لعالم الوجود مبنية على حكمة تجعلها مفهومة عند العقل. إن العلم بلا إيمان ليمشي مشية الأعرج، وإن الإيمان بغير علم ليتلمَس تلمُس الأعمى.

ذلك نموذج لموقف أنجب أقوالاً، تنضح بروح الإيمان المبني على العلم، وفي الكتاب نماذج كثيرة جديرة بالقراءة والتأمل، ومعلومات غنية، وحجج ساطعة، وأجواء إيمانية روحانية، يمكن أن نستحضرها في بيوتنا، بقراءة هذا الكتاب في جلسات جماعية، على الطريقة الحوارية الذي أظهره بها المؤلف، فنستفيد اجتماعاً أسرياً، وكنزاً علمياً، وفكراً عميقاً، وقوة إيمانية نحن في أمس الحاجة إليها، وحري بنا ألا نضيعها.

_________________________________________________________

الكاتب: شروق محمد سلمان