أولويات البشر تختلف

منذ 2022-10-04

أولويات البشر تختلف أمَّا حاجاتهم فهي مقدرة عليهم منذ خلقهم الله عز وجل، وما بين الأولويات والحاجات مسافات بيِّنة يصعب علينا أحيانًا تقديرها نحن البشر؛ لما يعترينا من أهواء وحديث نفس!

أولويات البشر تختلف أمَّا حاجاتهم فهي مقدرة عليهم منذ خلقهم الله عز وجل، وما بين الأولويات والحاجات مسافات بيِّنة يصعب علينا أحيانًا تقديرها نحن البشر؛ لما يعترينا من أهواء وحديث نفس!

 

فمن كان عنده بيت بسيط يُؤويه وكان عنده قوت يومه (أي: ما يكفيه سؤالَ الناس) وهو آمِنٌ في هذا البيت، كان تمامًا كمَلِكٍ في قصره وحوله الخدم والحواشي، وعنده الموائد ممدودة مفروشة بألوان الطعام والشراب!

 

نعم، هي حيازة الحاجات، غير أن الأول عنده في الدنيا حاجته بالحد الكافي الذي لا يضيع معه عمرُه في البحث عن الزيادة والسعي لها، والثاني عنده ما يفيض عن حاجته أضعافًا وأضعافًا غير أنه مشغول بالحفاظ على هذا الملْك ونعيمه، وكلاهما يتقلَّب في نعيم الله عز وجل وفضله! وكلاهما قد بلغ حاجته في تقديرات إلهية حكيمة ومحسوبة!

 

وفي الحديث النبوي الشريف: «مَنْ أصْبَحَ آمِنًا في سِرْبِه مُعافًى في بَدَنِه، عنده قوتُ يومِه، فكأنَّما حِيزتْ له الدُّنيا بحذافيرِها»، أما ما تطلبه النفس فوق الحاجات فهو من الهوى ومن فتنة الدنيا! أعلم أن هذا يستثير غضب كثيرين؛ ولكن مع الأسف طلبنا للفائض عن الحاجات وانشغالنا بتحصيله قد شتَّت خطانا، وجعلنا نسير في الدُّنيا على غير هدًى؛ فنسينا الآخرة أو انشغلنا عن العمل الحقيقي لها وإعداد العُدَّة، فانهارت الأمة وخارت قوى جسدها المنهك المتضَعْضِع، وها هي تستصرخ أبناءها أما من مداوٍ لهذه الجروح الغائرة في شتى أرجاء الجسد وفي الأرض كل الأرض! أما من مُصْلحين لهذا الفساد المستشري في الأرض، أما من حاقنٍ لهذه الدِّماء المسفوكة ظلمًا وعدوانًا، أما من سامع لهؤلاء المظلومين على طول الأرض وعرضها!

 

لقد روى الإمام أحمد عن زيد بن ثابت أنه سَمِعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ كَانَ هَمُّهُ الْآخِرَةَ، جَمَعَ اللهُ شَمْلَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ الدُّنْيَا، فَرَّقَ اللهُ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ»؛ ورواه ابن ماجه والدارمي وابن حِبَّان، والبيهقي في شعب الإيمان.

 

من فضل الله عز وجل وعظيم كرمه أن الساعي للآخرة سعيها دون التفات للدُّنْيا يُصيِّر الله تعالى له قلبه جَنَّةً، ويُملِّكه الدُّنيا دون سعي لها منه، ودون طلبها أصلًا، فهو مشغولٌ في طلب الآخرة لا يأبَهُ لما يصيبه من الدنيا وعذاباتها في سبيل سلامة آخرته، تمامًا كمن دخل في سباق يجتاز فيه حواجزَ شتَّى صعبةً ومؤلمةً ومتعبةً، فهو يسير بجدٍّ وقد بان عليه التعبُ والعذابُ، وثيابُه ممزَّقةٌ، ووجهه مُعفَّرٌ بالطين والأوحال، ولا يثنيه ذلك عن المثابرة في الوصول إلى هدفه، عينه على الهدف لا يُخطئه، وعندما يصل مُبْتغاه، ترتسم على وجهه المتعب الملطَّخ ابتسامةُ الرِّضا والسرور، ولله فيما سَنَّ وقدَّر المثل الأعلى.

 

وأمَّا مَن كان همُّه الدُّنيا وسعى لها بتخريب الآخرة، جعل قلبه يطيش بين عثرات الدنيا ومشقَّاتها، ويطلب الدنيا فلا تأتيه إلا بمقدار ما كتب الله تعالى له، وهو يطمع أن يزيد فلا يُزاد له، فتراه يلهث وراءها نهِمًا تعِبًا دونما جدوى!

 

وفي القرآن كثيرٌ من الشواهد الواضحة: {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا} [آل عمران: 145]، {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النساء: 134]، {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20].

 

وفي سيرة نبيِّنا صلوات ربي عليه وآله وصحبه أجمعين الكثير الكثير من الشواهد، ولعَلَّ لحياته كلها صلى الله عليه وسلم لون واحد، وكانت أولويَّاتُه ثابتةً وهدفُه واضحًا وضوحَ الشمس في كبد السماء، عينُه على هدفه المستقر والثابت، لم يتزعزع عنه ولم يَحِدْ حتى بلَّغَنا آخرَ آيةٍ في حياته فداه أبي وأمي! {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، فما آخرُ ما سنُبلِّغه نحن يا ترى؟!