{ فذكر إن نفعت الذكرى }

منذ 2022-10-07

( مراتب القدر أربعة - أنواع كتابة المقادير - حال المؤمن المقدم على الابتلاء )

قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في وصيته لابن عباس: «يا غلامُ، إني أُعَلِّمُكَ كلماتٍ، احفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احفظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إذا سألتَ فاسْألِ اللهَ، وإذا استَعَنْتَ فاستَعِنْ باللهِ، واعْلَم أنَّ الأُمَّةَ لو اجتمعَتْ على أن ينفعوكَ بشيءٍ، لم ينفعوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتَبَه اللهُ لك، ولو اجتمعوا على أن يضُرُّوكَ بشيءٍ، لم يضرُّوكَ بشيءٍ إلَّا قد كتَبَه اللهُ عليكَ، جَفَّتِ الأقلامُ ورُفِعَتِ الصُّحُفُ»؛ (رواه أحمد وغيره، وصححه الألباني في صحيح الجامع).

 

هذا الحديث الشريف يُشير إلى نهجينِ هما: نهج العمل، ونهج الاعتقاد، نية السعي ومستقر اليقين، ماذا عليك فعله؟ وما هو الدافع كي تفعله؟ عمل الظاهر وعمل الباطن، عالم الشهادة وعالم الغيب، هذا الحديث وكأنه يضع حدًّا فاصلًا ما بين عالم الملك وعالم الملكوت.

 

القسم الأول: ((احفظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احفظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إذا سألتَ فاسْألِ اللهَ، وإذا استَعَنْتَ فاستَعِنْ باللهِ)). وهي مضمون قوله تعالى في فاتحة الكتاب: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 5 - 7]، وهي السبع المثاني والقرآن العظيم، فبإفراد الله بالعبادة وبالاستعانة به وحده نكون قد وضعنا قدمينا على صراط الله المستقيم، وفي شرح وبيان ذلك كتب العلَّامةُ الفَذُّ أبو عبدالله محمد بن أبي بكر ابن قيِّم الجوزية سِفْرَه (مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين)، فهي توجز معنى الإخلاص وطرح كل شيء عدا الله من البالِ والاعتبار، والتوجُّه لله سبحانه في كل كبيرة وكل صغيرة من عمل الدنيا أو عمل الآخرة.

 

وإخلاص النية هو مناط الثواب، روى البخاري عن سعد بن أبي وقَّاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بهَا وجْهَ اللَّهِ إلَّا أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حتَّى ما تَجْعَلُ في فَمِ امْرَأَتِكَ»؛ أي: حتى اللقمة التي تُطْعِمُها زوجتك لو أخلصت بعملك هذا وجْهَ الله لنِلْتَ الأجْرَ، وكذلك في سائر عملك.

 

وهذا الحديث يُشبِه في المضمون حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي رواه البخاري عنه صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ اللَّهَ قالَ: مَنْ عادَى لي وَلِيًّا فقَدْ آذَنْتُهُ بالحَرْبِ، وما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشَيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممَّا افْتَرَضْتُ عليه، وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ، فإذا أحْبَبْتُهُ، كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الَّذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها، وإنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وما تَرَدَّدْتُ عن شَيءٍ أنا فاعِلُهُ تَرَدُّدِي عن نَفْسِ المُؤْمِنِ؛ يَكْرَهُ المَوْتَ، وأنا أكْرَهُ مَساءَتَهُ».

 

فإخلاص النية لله والتوجُّه إليه عَزَّ جاهُه بالكلية هو المُوصِّل للصراط المستقيم، وهو المؤدي لأن تنال توفيق ورعاية وحُسْنَ تدبير المولى، فتكون عبدًا ربانيًّا لا وجهة لك إلا وجه الله، ويقول الحق تبارك وتعالى عن هؤلاء:

{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]، ويقول عنهم: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 52].

 

ويقول تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 112]، ويقول تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125]، فهم أهل الإحسان.

 

ويقول تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 272]، وهم أهل الصَّدَقات.

 

ويقول تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 39]، ويقول تعالى: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الروم: 38]، و{هُمُ الْمُضْعِفُونَ}: أهل الزكاة، و{هُمُ الْمُفْلِحُونَ}: أهل الإنفاق.

 

• ويقول تعالى: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 22]، وهم أهل الصبر على الطاعات.

 

أما القسم الثاني:  «واعْلَم أنَّ الأُمَّةَ لو اجتمعت على أن ينفعوكَ بشيءٍ، لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتَبَه اللهُ لكَ، ولو اجتمعوا على أنْ يضرُّوكَ بشيءٍ، لم يضرُّوكَ بشيءٍ إلَّا قد كتَبَه اللهُ عليكَ، جَفَّتِ الأقلامُ ورُفِعَتِ الصُّحُفُ».

 

 

ونحن لا عِلْمَ لنا بما في تلك الصحف، وبما كُتِب لنا أو علينا فيها من شقاوة أو سعادة، والحديث يقول إن ما كُتِب فيها حادث وواقع لا محالة، لا تستطيع الأُمَّةُ كُلُّها لو اجتمعت أن تُبدِّل ما فيها من ضُرٍّ إلى نَفْعٍ، ولا أن تُبَدِّل ما فيها من نفعٍ إلى ضُرٍّ، فهي غيب واقع لا محالة، ولا حيلة لنا فيه، ولا طاقة للأُمَّة بأسرها لو اجتمعت على تغييره؛ إذن فمن الحُمْق الانشغال بما كُتِب فيها والاهتمام البالغ المُعطِّل بها عن العمل بما في القسم الأول من إخلاص العمل لله في كل الأمور، هذه واحدة، أما الثانية فهي رصيدُنا من العلم بمن كتب جلَّ جلالُه، وأنه هو البارئ، وهو العَدْل، وهو الحكيم، وهو الرحمن، وهو اللطيف الخبير، يقول تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 13، 14]، هو سبحانه الأعلم بما خلق، وهو خالق القدرة والمقدور، وهو مسبب الأسباب، وهو العَدْل الذي لا يظلم أحدًا، وقد حرَّمَ الظُّلْم على نفسه، وهو الأرحم من الوالدة بولدها، وهو الحكيم الذي يضع كل شيء في موضعه الأنسب والأصلح، وهو العالم بالجَهْر وما يخفى، وهو عالم السِّرِّ وأخفى، فهل يخشى العبد مِمَّا كتَبَه مَنْ هذا شأنه.

 

فإذا وصل العبد إلى هذه الدرجة من اليقين فقد ارتقى لمرتبة حُسْن الظَّنِّ بالله، وما أدراكم بحُسْن الظَّنِّ بالله! فحُسْن الظَّنِّ بالله هو حبل النجاة، ويجب على كل مؤمن أن يكون له قدر من العلم بالله وصفاته، وهذا هو العِلْم الأسمى، العِلْم المطلوب لذاته، يقول تعالى: {فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 87]، ويقول تعالى عمَّن أحسن باللهِ الظَّنَّ: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 46]، وعن مآل وجزاء من أحسن بالله الظَّنَّ يقول تعالى: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة: 20].

 

أمَّا مَن أساء الظَّنَّ بربِّه فيقول عنه عز وجل: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [الفتح: 6]، فسينقلب عليهم سوءُ ظنِّهم وبالًا وغضبًا ولعنًا من الله، ومأواهم النار.

 

فكل ما يشاء العبد وقبل أن يشاء، قد عَلِم الله به أزَلًا، ولن يخرج ما تفعله بشأنه أبدًا عن عِلْم صاحب مطلق العلم، مهما خفي هذا الشيء، ومهما دَقَّ، وهو معنى وصفة واسمه عز جاهه اللطيف الخبير، وهو سبحانه القائل: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29]، وتلك من صفات الإله الحق الخالق منطقًا وعقلًا، فلو لم يكن هذا وصفه جلَّ شأنُه ما كان يصلح أن يكون إلهًا.

 

جاء في صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله قال: جاء سراقة بن مالك بن جُعْشم قال: يارسول اللهِ، بَيِّنْ لَنَا دِينَنَا كَأنَّا خُلِقْنَا الآنَ، فِيمَ العملُ اليومَ؟ أفيما جَفَّتْ به الأقلامُ، وجَرَتْ به المقاديرُ، أم فيما نستَقبِلُ؟ قال: «لا، بل فيما جَفَّتْ به الأقلامُ، وجَرَتْ به المقاديرُ»، قالَ: فَفِيمَ العَمَلُ؟ قالَ زُهَيْرٌ: ثُمَّ تَكَلَّمَ أَبُو الزُّبَيْرِ بشيءٍ لَمْ أَفْهَمْهُ، فَسَأَلْتُ: ما قالَ؟ فَقالَ: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لما خُلِقَ له»، وفي هذا الحديث أيضًا القسمان اللذان ذكرنا آنفًا؛ أولًا: إثبات اليقين والإيمان بالغيب، وثانيًا: إخلاص العمل لله عَزَّ وجَلَّ.

 

وقد جاء أيضًا في صحيح مسلم عن أبي الدرداء أن النبي صلوات الله عليه وسلامه قال: «إنَّ لكُلِّ شيءٍ حقيقةً، وما بلغ عبدٌ حقيقةَ الإيمان حتى يعلم أنَّ ما أصابَهُ لم يكن ليُخْطِئه، وما أخطأه لم يكن ليُصِيبه»؛ صحيح الجامع للألباني، وقد ورد مثل ذلك عن عُبادة بن الصامت.

 

فالإيمان بالقَدَر خيرِه وشَرِّه هو من أصول الإيمان، ودليله حديث جبريل عليه السلام في صحيح مسلم: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل.... ثم قال: أخبرني عن الإيمان؟ قال: «أن تؤمنَ باللهِ وملائكتِه وكُتُبِه ورُسُلِه واليوم الآخر، وتؤمن بالقَدَرِ خيرِه وشرِّه»، قال: صدقت... قال صلى الله عليه وسلم: «فإنه جبريل أتاكم يُعلِّمكم دِينَكم»؛ (الحديث بطوله رواه مسلم).

 

فالإيمان بالقَدَر من أركان الإيمان الستة، من جحده فقد كَفَر، يقول العلَّامة ابن باز رحمه الله: وكل واحد من هذه الأصول من جحده كَفَر، من جحد الإيمان بالله أو جحد الإيمان بالملائكة أو بالرُّسُل أو بالكُتُب أو باليومِ الآخر أو بالقَدَر، فمن قال: إن الله لا يعلم الأشياء ولم يُقدِّرها كَفَر، فكُلُّ خيرٍ وشرٍّ بقضاء الله وقَدَره، وأنَّ الله تعالى فعَّالٌ لما يريد، ولا يخرج شيءٌ عن مشيئته وتدبيره، علم كل ما كان وما يكون من الأشياء قبل أن تكون في الأزل، وقدَّر المقادير للكائنات حسبما سبق به علمُه، واقتضت حكمتُه، وعلم أحوال عباده وأرزاقهم وآجالهم وأعمالهم، قال تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب: 38]، وقال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49].

 

ومراتب القدر أربعة لا يتحقَّق إيمان العبد إلا بها:

الأولى: العلم؛ وهي الإيمان بأن الله عالم بكل ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون جملةً وتفصيلًا، وأنه علم ما الخلق عاملون قبل خلقهم، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التوبة: 115].

 

الثانية: الكتابة؛ وهي الإيمان بأن الله كتب ما سبق به علمُه من مقادير المخلوقات في اللوح المحفوظ، وهو الكتاب الذي لم يفرط فيه من شيء، فكل ما جرى وما يجري إلى يوم القيامة مكتوبٌ عنده في أُمِّ الكتاب، قال تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12].

 

الثالثة: المشيئة؛ وهي الإيمان بأن كل شيء يجري في هذا الكون فهو بإرادة الله ومشيئته الدائرة بين الحكمة والرحمة، لا يسأل عما يفعل وهم يُسألون، فمشيئتُه نافذةٌ، وقُدْرتُه شاملةٌ، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، لا يخرج عن إرادته شيء، قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان: 30].

 

الرابعة: الخلق؛ وهي الإيمان بأن الله خالق كل شيء، لا خالق غيره، ولا رب سواه، وأن كل ما سواه مخلوقٌ، فهو خالق كل عامل وعمله، وكل متحرك وحركته، قال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2]، وأن كل ما يجري من خيرٍ وشرٍّ وكُفْرٍ وإيمانٍ وطاعةٍ ومعصيةٍ شاءه الله وقدَّره وخلقَه، وأنه يحب الإيمان والطاعة ويكره الكُفْرَ والمعصية.

 

ويجمع كل ذلك قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59]، ومن هنا نقول دائمًا لكل داعٍ لم يستجِب الله له: واظِبْ وتزوَّد من الطاعات، ولا تيأس، واعلم بأنه كي يستجيب الله دعاءك لا بُدَّ من اليقين بأن الله عالم بحالك، فهو سبحانه القائل: {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 94، 95]، وقد اختصرها قول: «ادعوا الله وأنتم مُوقِنون بالإجابة»، فلا أَولى من اليقين بأنه عليم وخبير وحكيم ولطيف وقادر، وهو فَعَّال لما يريد، وبسائر وصفه وصفاته وأسمائه جلَّ شأنُه وعزَّ جاهُه.

 

والعباد لهم قدرة على أفعالهم واختيار وإرادة لما يصدر منهم من طاعة ومعصية، والله عالم بتلك القدرة ومداها- تمامًا كمخترع الصاروخ الذي يعلم بمداه ولله المثل الأعلى- لكن مشيئتهم وإرادتهم تابعةٌ لمشيئة الله وإرادته، فهو عالم بما يمكنك أن تفعل وبما لا يمكنك فعله، والحق هو ما قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 28، 29] فما هو كائن من العبد لن يخرج عما سبق من علم الله وتقديره، وهي كِتابةُ عِلمٍ وإحاطةٍ بما سيَكونُ، وليْست كِتابة جَبْرٍ وإكراهٍ، وقدْ أمَرَ سُبحانه الخَلْقَ بأنْ يَعمَلوا وَفْقَ شرائعِه، ويَسَّر الأمورَ لهم، وخيَّرهم بيْنَ الإيمانِ باللهِ فيَسْعَدوا، أو الكُفْرِ والعِصيانِ فيَشْقَوا، وهذا هو ما ينبغي أن يشغل بال الإنسان، إخلاص النية والعمل لله وحده، فلم يُؤثَر عن أحد من الصحابة أن شغله التفكير فيما هو مُقدَّر له من غيب عما هو بصدده من سعي وعمل بما شرع الله وما يسَّره الله له من الأسباب.

 

أنواع كتابة المقادير:

 

قال الشيخ ابنُ عثيمين رحمه الله: والتقاديرُ كما جاء بالنصوص خمسةُ أنواعٍ:

النوعُ الأوَّلُ: التقديرُ العامُّ، وهو المكتوبُ في اللَّوحِ المَحفوظِ الذي كان قبل خَلقِ السَّمَواتِ والأرضِ بخمسينَ ألفَ سنةٍ، وكان عرشُه على الماءِ، ودليله: عن عبدِاللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، قالَ: وَعَرْشُهُ علَى المَاءِ»، وقال ابن باز: اللهُ سُبحانَه قد قدَّر مقاديرَ الخلائقِ، وعَلِم ما هم عاملون، وقدَّر أرزاقَهم وآجالَهم، وكتب ذلك كُلَّه لديه، كما قال تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة: 51] الآية، وقال سُبحانَه: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج: 70]، وقال سُبحانَه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22]؛ أي: من قبل أن نخلق الأرض والأنفس.

 

النوعُ الثاني: تقديرُ أرزاقِ العبادِ وآجالِهم وأعمالِهم قبل أن يخلُقَهم، جاء في موطَّأِ مالكٍ وسُنَنِ أبي داود والنَّسائيِّ وغيرِه عن مُسلِمِ بنِ يَسارٍ، وفي لفظٍ عن نُعَيمِ بنِ ربيعةَ: أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ سُئِلَ عن هذه الآيةِ {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ...} [الأعراف: 172] الآية، فقال عُمَرُ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وفي لفظٍ: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سُئِلَ عنها، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إنَّ اللهَ خلق آدَمَ ثم مسح ظَهْرَه بيمينِه، فاستخرج منه ذُريَّةً، فقال: خلَقْتُ هؤلاءِ للجنَّةِ وبعَمَلِ أهلِ الجنَّةِ يَعمَلونَ، ثم مسح ظَهْرَه فاستخرج منه ذُريَّةً، فقال: خلَقْتُ هؤلاءِ للنَّارِ وبعَمَلِ أهلِ النَّارِ يَعملَونَ»، فقال رَجُلٌ: يا رسولَ اللهِ، ففيمَ العَمَلُ؟! فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إنَّ اللهَ إذا خَلَق الرَّجُلَ للجنَّةِ استعمله بعَمَلِ أهلِ الجنَّةِ حتى يموتَ على عَمَلٍ من أعمالِ أهلِ الجنَّةِ، فيُدخِله به الجنَّةَ، وإذا خلق الرَّجُلَ للنَّارِ استعمله بعَمَلِ أهلِ النَّارِ حتى يموتَ على عَمَلٍ من أعمالِ أهلِ النَّارِ، فيُدخِله به النَّارَ».

 

النوعُ الثَّالِثُ: تقديرُ ما ذُكِر على الجنينِ في بَطنِ أمِّه، ودليله: حديثُ عبدِاللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: حدَّثنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو الصَّادِقُ المصدوقُ: «إنَّ أحَدَكم يُجمَعُ خَلْقُه في بَطنِ أمِّه أربعين يومًا نُطفةً، ثم يكونُ عَلَقةً مِثلَ ذلك، ثم يكونُ مُضغةً مِثلَ ذلك، ثم يَبعَثُ اللهُ إليه ملَكًا بأربَعِ كَلِماتٍ: بكَتْبِ رِزْقِه، وأَجَلِه، وعَمَلِه، وشَقِيٌّ أو سعيدٌ، ثم يُنفَخُ فيه الرُّوحُ، فواللهِ الذي لا إلهَ غَيرُه، إنَّ أحَدَكم ليَعمَلُ بعَمَلِ أهلِ الجنَّةِ حتى ما يكونُ بينه وبينها إلَّا ذراعٌ فيَسبِقُ عليه الكِتابُ فيَعمَلُ بعَمَلِ أهلِ النَّارِ فيَدخُلها، وإنَّ أحَدَكم ليَعمَلُ بعَمَلِ أهلِ النَّارِ حتى ما يكونُ بينه وبينها إلَّا ذراعٌ فيَسبِقُ عليه الكِتابُ، فيَعمَلُ بعَمَلِ أهلِ الجنَّةِ فيَدخُلها».

 

وعن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «وكَّل اللهُ بالرَّحِم ِمَلَكًا، فيقولُ: أيْ رَبِّ نُطفةٌ، أيْ رَبِّ عَلَقةٌ، أيْ رَبِّ مُضغةٌ، فإذا أراد اللهُ أن يقضِيَ خَلْقَها، قال: أيْ رَبِّ ذَكَرٌ أم أنثى، أشَقِيٌّ أم سعيدٌ؟ فما الرِّزقُ؟ فما الأجَلُ؟ فيُكتَبُ كُلُّ ذلك في بَطنِ أمِّه».

 

النوعُ الرَّابعُ: التقديرُ السَّنويُّ، وهو ما يكونُ ليلةَ القَدْرِ، ودليله: قَولُ اللهِ تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1]، وقَولُه سُبحانَه: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [الدخان: 3 - 5]، عن مجاهدٍ أنَّه قال في قَولِه تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}؛ أي: في ليلةِ القَدْرِ يُقدَّر كُلُّ أمرٍ يكونُ في السَّنَةِ إلى السَّنَةِ: الحياةُ والموتُ، يُقَدَّرُ فيها المعايِشُ والمصائِبُ كُلُّها، وعن قتادةَ قال: هي ليلةُ القَدْرِ فيها يُقضى ما يكونُ من السَّنَة إلى السَّنَة مِن مَوتٍ وحياةٍ، ورِزقٍ ومَطَرٍ، وما يقومُ به العبادُ من أعمالٍ، ونحوُ ذلك.

 

النوعُ الخامِسُ: التقديرُ اليوميُّ، دليلُه: قَولُ الحق سُبحانَه: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29]، قال المفسِّرون: مِن شأنِه أن يحييَ ويميتَ ويَرزُقَ، ويُعِزَّ قَومًا، ويُذِلَّ قَومًا، ويشفيَ مريضًا، ويَفُكَّ عانيًا، ويُفَرِّجَ مَكروبًا، ويجيبَ داعيًا، ويعطيَ سائِلًا، ويَغفِرَ ذنبًا، إلى ما لا يُحصى مِن أفعالِه، وإحداثِه في خَلْقِه ما يشاءُ.

 

وفي الختام نورد هذا الكلام القيِّم لابن قيِّم الجوزية رحمه الله (وهو من أجمل ما قرأت):

وجماع هذا أَنك إِذا كنت غير عالمٍ بمصلحتك، ولا قادر عليها، ولا مريد لها كما ينبغي، فغيرك أَولى أَلَّا يكون عالمًا بمصلحتك، ولا قادرًا عليها، ولا مريدًا لها، والله سبحانه هو يعلم ولا تعلم، ويقدر ولا تقدر، ويعطيك من فضله لا لمعوضة ولا لمنفعة يرجوها منك، ولا لتكثر بك، ولا لتعزز بك، ولا يخاف الفقر، ولا تنقص خزائنه على سعة الإِنفاق، ولا يحبس فضله عنك لحاجة منه إِليك، واستغناه بحيث إِذا أَخرجه أَثر ذلك في غناه.

 

وهو سبحانه يحب الجود والبذل، والعطاءَ والإِحسان أَعظم مما تحب أَنت الأَخذ والانتفاع بما سأَلته، فإِذا حبسه عنك؛ فاعلم أَن هناك أمرين لا ثالث لهما؛ أَحدهما: أن تكون أنت الواقف في طريق مصالحك، وأنت المعوِّق لوصول فضله إِليك، وأَنت حجر في طريق نفسك، وهذا هو الأَغلب على الخليقة، فإِن الله سبحانه فيما قضى به أَن ما عنده لا ينال إِلا بطاعته، وأَنه ما استجلبت نعم الله بغير طاعته، ولا استديمت بغير شكره، ولا عوقت وامتنعت بغير معصيته، وكذلك إِذا أَنعم عليك، ثم سلبك النعمة، فإِنه لم يسلبها لبخل منه، ولا استئثار بها عليك؛ وإِنما أَنت المسبب في سلبها عنك، فإِن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأَنفسهم: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 53]، فما أُزيلت نعم الله بغير معصيته:

إِذا كُنْتَ في نِعْمَةٍ فَارْعَهَا = فَإِنَّ المعاصِى تُزِيلُ النِّعَم

 

فآفتك من نفسك، وبلاؤك من نفسك، وأَنت في الحقيقة الذي بالغت في عداوتك، وبلغت من معاداة نفسك ما لا يبلغ العدو منك، كما قيل:

مَا يَبْلُغُ الأَعْدَاءُ مِنْ جَاهِلٍ = مَا يَبْلُغُ الْجَاهِلُ مِنْ نَفْسهِ

ومن العجب أَن هذا شأْنك مع نفسك وأَنت تشكو المحسن البريء عن الشكاية، وتتهم أَقداره وتعانيها وتلومها، فقد ضيعت فرصتك، وفرطت في حظك، وعجز رأَيك عن معرفة أَسباب سعادتك وإِرادتها، ثم قعدت تعاتب القدر بلسان الحال والقال، فأَنت المعني بقول القائل:

وعاجِزُ الرأَي مضياعٌ لفُرْصتِه   ***   حتى إِذا فات أَمْرٌ عاتبَ القَدَرا 

 

ولو شعرت بنفسك، وعلمت من أَين دهيت، ومن أَين أُصبت، لأَمكنك تدارك ذلك؛ ولكن قد فسدت الفطرة، وانتكس القلب، وأَطفأ الهوى مصابيحَ العلم والإِيمان منه، فأَعرضت عمن هو أَصل بلائك ومصيبتك منه، وأقبلت تشكو من كل إِحسان دقيق أَو جليل وصل إِليك منه عز جاهه، فإِذا شكوته إِلى خلقه كنت كما قال بعض العارفين- وقد رأَى رجلًا يشكو إِلى آخر ما أَصابه ونزل به – فقال: يا هذا، تشكو مَن يرحمُكَ إِلى مَن لا يرحمك.

 

وإِذا علم العبد حقيقة الأَمر، وعرف من أَين أُتي؟ ومن أي الطُّرق أُغير على سرحه؟ ومن أي ثغرة سُرِق متاعه وسُلب؟ استحى من نفسه - إِن لم يستحِ من الله - أَن يشكو أَحدًا من خلقه، أَو يتظلمهم، أَو يرى مصيبته وآفته من غيره، وقد قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]، وقال: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165]، وقال: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79].

 

فإِن أَصررت على اتهام القدر، وقلت: فالسبب الذي أُصبتُ منه، وأُتيت منه، ودهيت منه قد سبق به القدر والحكم، وكان في الكتاب مسطورًا، فلا بد منه على الرغم مني، وكيف لي أَن أَنفك منه؟ فما حيلة من قلبه بيد غيره، يقلبه كيف يشاءُ، ويصرفه كيف أَراد؛ إِن شاء أَن يقيمه أقامه، وإِن شاءَ أَن يزيغه أَزاغه، وهو الذي يحول بين المرءِ وقلبه، وهو الذي يثبت قلب العبد إِذا شاءَ، ويزلزله إِذا شاءَ، فالقلب مربوب مقهور تحت سلطانه، لا يتحرك إِلا بإِذنه ومشيئته، قال أَعلم الخلق بربِّه صلوات وسلامه عليه: «ما مِنْ قلبٍ إِلَّا وهو بين إِصبعينِ من أَصابع الرحمنِ؛ إِن شاءَ أَن يُقيمَه أَقامَه، وإِن شاءَ أَن يُزيغَه أَزاغَه»، ثم قال: «اللَّهم مُقلِّب القلوب ثَبِّتْ قلوبَنا على دينِكَ»، وكان أَكثر يمينه: «لا ومُقَلِّب القلوبِ».

 

وعلى كل مؤمن عاقل أن يتدبَّر بعد كل ذلك قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج: 15].

 

وقال عطاء عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29]، قال: كتب الله أَعمال بني آدم، وما هم عاملون إِلى يوم القيامة، قال: والملائكة تستنسخ ما يعمل بنو آدم يومًا بيوم، فذلك قوله: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}، وفي الآية قول آخر: إِن استنساخ الملائكة هو كتابتهم لما يعمل بنو آدم بعد أَن يعملوه، وقد يقال- وهو الأَظهر-: إِن الآية تعمُّ الأَمرين، فيأْمر الله ملائكته فتستنسخ من أُم الكتاب أَعمال بني آدم، ثم يكتبونها عليهم إِذا عملوها، فلا تزيد على ما نسخوه من أُمِّ الكتاب ذرةً ولا تنقصها، وقال علي بن أَبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]، خلق الله الخلق كلهم بقدر، وخلق الخير والشر، فخير الخير السعادة، وشر الشر الشقاوة.

 

حال المؤمن المقدم على الابتلاء:

الدنيا كما نعلم ليست للمؤمن الحق بدار بقاء؛ وإنما هي دار ابتلاء وافتتان، وبذلك قالت ودلَّت كل النصوص والآثار مما يطول ذكره عن كتاب، ويحتاج لمجلدات، فماذا على المؤمن أن يفعل عندما يُقدِم على الابتلاء وتتقاذفه الفتن:

أولًا: أن يوقن بأن ما كتبه الله في اللوح المحفوظ وأجرى به القدر هو الأصوب والأنفع إن لم يكن عاجلًا فآجلًا؛ فموسى عليه السلام وأصحاب السفينة رأوا في بادئ الأمر ما فعله الخضر عليه السلام شيئًا إمْرًا، وموسى ووالدا الغلام رأوا في قتل الغلام شيئًا نكرًا، وموسى رأى أن الخضر كان يجب أن يتقاضى أجرًا على إصلاح الجِدار، ولم يروا ما قدَّر الله في اللوح المحفوظ من خير لأهل السفينة ولا للغلام ووالديه ولا للأيتام أبناء الرجل الصالح، يقول الله تعالى: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} [الإسراء: 11]، ويقول الحق تبارك وتعالى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} [يونس: 11]، فالإنسان عجول ولا يرى إلا تحت قدمه ولا يدرك ما قد خُبِّئ له في الغيب، ولن يستطيع مع القَدَر صبرًا، ويلزمه كي يدرك ذلك أن يقوِّيَ يقينَه بالله، وأن يُوطِّن نفسَه على المجاهدة، ولأجل ذلك فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصحابته ولنا: «المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحَبُّ إلى الله من المؤمنِ الضعيف، وفي كلٍّ خيرٌ، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلتُ كان كذا وكذا، ولكن قل: قدَّر اللهُ وما شاءَ فَعَلَ، فإنَّ لو تفتحُ عملَ الشيطان».

 

ثانيًا: أن يلوذ بالدعاء: قال الإمام ابن باز: هناك أقدار مُعلَّقة على أشياء يفعلها الإنسان، فالله يعلم كل شيء ولا تخفى عليه خافية، قد جعل البِرَّ من أسباب زيادة العمر، وصلة الرَّحِم كذلك، وجعل المعاصي والسيئات من أسباب نزع البركة، ومن أسباب قصر الأعمار إلى غير ذلك.

 

فالحاصل: أن هناك أقدارًا معلقةً توجد بأسبابها، ومعلقة عليها، وهناك أقدارًا محكمة ليس فيها تغيير، لا تغير بالدُّعاء، ولا بغير الدعاء؛ كالشقاوة، والسعادة، والآجال المضروبة، والمحكمة، إلى غير ذلك، وذهب بعض أهل العلم إلى أن كل شيء يمكن تغييره؛ لأن الله قال: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39]، وأن الله جل وعلا أمر بالدعاء، وشرع الأسباب، وعلَّق ما يشاء على ما يشاء، علق الشقاوة على شيء، والسعادة على شيء، وهو حكيم عليم يعلم ما يصير إليه أمْرُ العبد.

 

فإذا اجتهد العبد في طاعة الله، وسأل ربَّه أن يُنجيَه من الشقاوة إلى السعادة فإن هذا قد يقع، ويكون القدر ليس محتمًا؛ بل مُعلَّق، فيروى عن بعض السلف، وعن عمر أيضًا أنه كان يقول: "اللهُمَّ إنْ كنتَ كتبْتَني شقيًّا، فاكتُبْني سعيدًا"، هذا قاله جماعة من أهل العلم.

 

والمشهور عند أهل العلم والأكثرين: هو الأول، وأن الشقاوة والسعادة والآجال مفروغٌ منها، وهذا ما يدل عليه الحديث الصحيح؛ حديث علي رضي الله عنه أنهم سألوا- أي: الصحابة- قالوا: يا رسول الله، هذا الذي نعمل أهو في أمر قد مضى، وفُرِغَ منه، أو في أمر مستقبل؟ قال: «بل في أمر قد فُرِغَ منه ومضى»، قالوا: يا رسول الله، ففيمَ العملُ؟ قال: «اعملُوا فكُلٌّ مُيَسَّرٌ لما خُلِق له، أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ»، ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 5 - 10].

 

ولأن الله عز وجل هو من بيده أن يُوفِّق العباد لأسباب توصلهم إلى ما قدر لهم، توصل السعيد إلى السعادة، وتوصل الشقي إلى الشقاوة، ولا حول ولا قوة إلا بالله، كل مُيَسَّر لما خُلِق له، فقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعاء والاستخارة عند كل أمر، عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعلِّمُنا الاستخارة في الأمور كلها كالسورة من القرآن، يقول: «إذا همَّ أحدُكم بالأمر فليركَعْ ركعتينِ من غير الفريضة، ثم ليَقُلْ: اللهم إني أستخيرُكَ بعِلْمِكَ وأستقدِرُكَ بقُدْرتِكَ، وأسألُكَ من فضلِكَ العظيمِ، فإنَّكَ تَقْدِرُ ولا أقْدِرُ، وتعلَمُ ولا أعلَمُ، وأنت علَّامُ الغيوبِ، اللهم إنْ كنتَ تعلمُ أنَّ هذا الأمرَ خيرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال: عاجل أمري وآجله، فاقْدُرْهُ لي، وإن كنتْ تعلمُ أن هذا الأمرَ شرٌّ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال: عاجل أمري وآجله، فاصْرِفْه عني واصْرِفْني عنه، واقْدُر لي الخيرَ حيثُ كانَ، ثم أرْضِني به، ويُسمِّي حاجته»، فدعاء الاستخارة بمثابة تفويض من العبد لربِّ العِزَّة بأن يمضي عليه من الأقدار ما هو صواب ونافع له في الآجل والعاجل، فعلى العبد ألَّا يغفل عن ذلك.

 

ثالثًا: روى الإمام مسلم عن صهيب الرومي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له».

 

فعلى كل مؤمن أن يُوقِن بأن ما قضى الله به عليه هو خيرٌ في الحالين سواءً كان ما يراه خيرًا أو شرًّا، أو كان ما يراه نفعًا أو ضرًّا، فرؤيته قاصرة؛ لأنه ليس إلهًا، ولا يعلم الغيب، فما رآه ضُرًّا في العاجل قد يكون نفعًا في الآجل، وما رآه شرًّا في الحال قد يكون فيه الخير في المآل، وهكذا يجب أن ننظر لقَدَر الله وقضائه فلا نكون كأصحاب السفينة أو أهل الغلام، ويرشدنا معلمنا ومُبشِّرنا بالخير وهادينا إلى ما فيه الخير سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن نتلقَّى ما يسُرُّ بالشكر، وبأن نتلقَّى الضُّرَّ بالصبر، فإذا فعلنا ذلك فقد بلغنا درجة المؤمن الحق، وحقَّقْنا كمال الإيمان.

 

رابعًا: لا بُدَّ لكل مسلم شهد بأنه لا إلهَ إلَّا اللهُ وأنَّ محمدًا رسول الله، وأقدره الله على النطق بالشهادة أن يُوقِن بأنه صائر إلى خير؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذَرٍّ رضي الله عنه في الحديث المتفق عليه، عن أبي ذرٍّ الغفاري رضي الله عنه قال: أَتَيْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وعليه ثَوْبٌ أبْيَضُ، وهو نَائِمٌ، ثُمَّ أتَيْتُهُ وقَدِ اسْتَيْقَظَ، فَقالَ: «ما مِن عَبْدٍ قالَ: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، ثُمَّ مَاتَ علَى ذلكَ إلَّا دَخَلَ الجَنَّةَ»، قُلتُ: وإنْ زَنَى وإنْ سَرَقَ؟! قالَ: «وإنْ زَنَى وإنْ سَرَقَ» قُلتُ: وإنْ زَنَى وإنْ سَرَقَ؟! قالَ: «وإنْ زَنَى وإنْ سَرَقَ» قُلتُ: وإنْ زَنَى وإنْ سَرَقَ؟! قالَ: «وإنْ زَنَى وإنْ سَرَقَ علَى رَغْمِ أنْفِ أبِي ذَرٍّ»، وكانَ أبو ذَرٍّ إذَا حَدَّثَ بهذا قالَ: وإنْ رَغِمَ أنْفُ أبِي ذَرٍّ، وهو حديث يُثلِج الصدر، وتهشُّ له النفس غير أنه فيما أرى موقوف على شيء، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «قال لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، ثُمَّ مَاتَ علَى ذلكَ»، فعلينا أن نحرص على التمسُّك بقول: "لا إلهَ إلَّا اللهُ" والإخلاص والعمل بمقتضاها ما حيينا؛ كي نكون من أهل السعادة؛ لذلك يقول الحق تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].

 

فالإيمان بالقضاء والقَدَر يلزمه حُسْنُ الظَّنِّ بالله كما قلنا، والرِّضا بما قضى به الله كله خيره وشره، والصبر على الطاعة، وصدق التوكُّل وتفويض الأمر كله لربِّ العزة، فهو الحكيم، وهو العدل الذي لا يظلم أبدًا، وقد حرَّم الظلم على نفسه، ومحال في عدله أن يظلم موحِّدًا به، مخلصًا له في العبادة، عاملًا بشريعته في نفسه وأهله.