الإلحاد أخطر تبعات الجهل بالإسلام
إنكار الإله لم يُعرَف في التاريخ الإسلامي بعكس التاريخ الغربي، ولكن روج للإلحاد في ثوب آخر وهو إنكار النبوة والأنبياء وهذا يجلِّي لنا سر الهجوم على سنة النبي ﷺ في العصر الحديث.
الجهل بالإسلام:
هو الجهل بالدين الحق، الذي ارتضاه الله لعباده في كل زمان ومكان، وهو الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وهو أيضًا دينُ جميع الأنبياء عليهم السلام قبل أن تنال يدُ التحريف منها.
وبتتبُّع سَيْرِ الإلحاد في العالم قديمًا وحديثًا، يظهر أن شيوع هذا الفكر الضالِّ لا يكون إلا مع غياب الدين الصحيح، فكلما كان الدين السائد محرَّفًا أو مشوَّهًا أو باطلًا من جذوره، كانت فرص الإلحاد بين الناس كبيرة، وذلك واضح جدًّا حينما نتعرف على نشأة الإلحاد في الغرب قديمًا؛ فإنه نشأ في بيئة تؤمن بتعدد الآلهة، فجاء إلحاد بعض الفلاسفة ردًّا عنيفًا على ذلك التعدد، حتى صار رفضًا لفكرة الألوهية من أساسها.
ديمقريطس أول الملحدين:
يعد ديمقريطس في الفكر اليوناني هو أول من قال بأن العالم لا توجد فيه إلا المادة، فألغى وجود إلهٍ، وقد نبع إلحاد ديمقريطس بالأساس من رفضه لعقيدة تعدد الآلهة، فلذلك قال: إن الآلهة التي كان يعتقد بها اليونانيون مركَّبة من جواهر كالبشر، إلا أن تركيبهم أدقُّ، فهم لذلك أحكم وأقدر، وأطول عمرًا بكثير، ولكنهم لا يخلُدون، وهكذا نشأ إلحاده من خلال وصوله إلى نصف الحقيقة، دون أن يتابع المسير لبلوغ النصف الثاني؛ فقد أنكر تعدد الآلهة، ومن ثَمَّ وجودهم، وكان ينبغي أن يقوده ذلك إلى التوحيد، لكنه أنكر وجود أيِّ إله البتةَ.
نشأة الإلحاد في بلاد المسلمين:
لقد نشأ الإلحاد في بلاد المسلمين أيضًا عندما تشوَّه الإسلام، بظهور الفرق الإسلامية، وكثُر الخوض في الغيبيات، واختلطت الحضارة الإسلامية بالثقافات اليونانية والرومانية البائدة، فدخل في الإسلام بعض الملوَّثين بهذه الأفكار الضالة التي حاولوا نقلها إلى دينهم الجديد، لكن الحقيقة أن إنكار الإله لم يُعرَف في التاريخ الإسلامي، فلم يكن هناك من يجرأ على إعلان إنكار وجود الله، ولكن عُرف الإلحاد في ثوب آخر؛ وهو إنكار النبوة والأنبياء؛ ولذلك يقول الأستاذ عبدالرحمن بدوي: "إن الدين والتدين إنما يقومان على فكرة النبوة والأنبياء، وعلى هذا فإن الإلحاد لا بد أن يتجه إلى القضاء على هذه الفكرة التي تكوِّن عصبَ الدين وجوهره لدى تلك الروح، وهذا يفسر لنا السر في أن الملحدين في الروح العربية إنما اتجهوا جميعًا إلى فكرة النبوة وإلى الأنبياء، وتركوا الألوهية، بينما الإلحاد في الحضارات الأخرى كان يتجه مباشرةً إلى الله، ولا فارقَ في الواقع في النتيجة النهائية بين كلا الموقفين؛ لأن كليهما سيؤدي في النهاية إلى إنكار الدين"، وهذا كلام غاية في النَّفَاسة؛ لأنه يجلِّي لنا سر الهجوم على سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العصر الحديث، ويُبرز لك الحقيقة الكامنة ما بين السطور.
الإلحاد قرين الجهل بالدين:
فالجهل بالدين الحق هو التربة الخصبة لنشأة الإلحاد، في أي مكان وأي زمان، فكلما كان الإسلام الصحيح الواضح سائدًا، كما في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعصر الخلفاء الراشدين، كانت فرص الضلال أقلَّ، بل أندر، وكلما تحولت الأديان عن نقائها واختلطت بها المداخيل، هاج العقل البشري في متاهات لا ساحلَ لها، واحتكم في نهاية المطاف إلى أحد أمرين؛ إما إلى السائد مهما كان قدر ضلاله، أو إلى الرفض للتدين جملة وتفصيلًا، ومن ثَمَّ إنكار الدين بجميع مشتملاته؛ لذلك كرر الله تعالى إرسال الرسل على مر التاريخ، ونبَّه في القرآن الكريم إلى هذه الغاية من إرسالهم؛ فقال: {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل: 63، 64]، لقد أرسلهم واحدًا تلو الآخر؛ ليحافظوا على نقاء التوحيد، وأصل الدين من الزيغ والانحراف، الذي لطالما ظلَّ الإنسان يجنح إليه على مدى تاريخه.
نيتشه يثني على الإسلام:
الفيلسوف الألماني فريدريخ نيتشه هو أحد أشهر الملاحدة على الإطلاق، وُلد في 1844م، رفض المسيحية بقوة واعتبرها تُكرِّس للضعف، واعتبرها أيضًا ديانة محرَّفة قام بتشكيلها بولس بما يتفق والعقائد الوثنية للرومان، وبرغم أنه أثنى على الإسلام في مواطنَ مِن بعض كتبه؛ مثل قوله: إن "الكنيسة تقاوم النظافة، حتى إن المعيار الأول عند المسيحية بعد طرد المسلمين كان إغلاق الحمامات العامة، التي كانت قرطبة وحدها تملك منها 270 حمامًا"، إلا أن ثناءه ذلك لم يكن عن قراءة متعمقة للإسلام، بل كانت نظرته له سطحية، فلم ينظر إلى الإسلام على أنه دين من عند الله، بل مع إعجابه بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، لكنه نظر إليه على أنه (مؤسس دين)؛ فيقول: "ما كان الشيء الوحيد الذي استعاره محمد لاحقًا من المسيحية؟ إنه ابتداع بولس، ووسيلته للتسلط الكهنوتي، ولتشكيل القطعان: الاعتقاد بالخلود، وهذا يعني عقيدة الدينونة".
نيتشه جاهل:
هل كان نيتشه جاهلًا أو أحمقَ؟ سؤال طرحته على نفسي وأنا أستل هذه المقالة من بحثي للدكتوراة، وأنا أبحث في أسباب إلحاد الفيلسوف الكبير للمرة الثانية، بعد إثبات اختلال منظومة القيم لديه في كتابي (براهين الدين في مواجهة الملحدين)، فقد تبين لديَّ أن أحد أهم أسباب إلحاده أنه لم يقرأ القرآن الكريم، لقد قرأ الأناجيل، وقرأ في كتب اليهود، وقرأ البوذية، والزرادشتية، لكن قراءته للإسلام لم تكن كذلك، فلم يقرأ الإسلام من مصادره، وإنما عرف الإسلام من نافذة المستشرقين، فلم تكن معرفته بالإسلام موسوعية ولا عميقة؛ إذ لا يورد في دفاتره سوى مصدرين لمستشرقَين ألمانيَّين شهيرين: يوليوس فلهوزن J. WELLHAUSEN صاحب كتاب: (الدولة العربية)، وأوغست موليير A. MLLER صاحب كتاب: (الإسلام في الشرق والغرب)، وإن هذا يكرس لدينا الاعتقاد بأنه على قدر اضطلاعه على مثالب المسيحية، وعقائدها المحرفة التي رفضها بقوة، على قدر ما جهل الإسلام، ولم يقرأ فيه، ولكن قرأ عنه، من خلال كتابات بعض بني جِلدته من الغربيين، لا من مصادره الأصلية، وهذا أيضًا سبب رئيس في إلحاد شيطان كبير في حجم نيتشه، كان من الممكن لو أولى قضية الإيمان قدرًا أكبر من مطالعاته لأدرك أن الحق قريب منه.
في بؤرة الجهل العربي:
بتتبع حركة الفكر العربي الحديث وما اكتنفها من إلحاد، في صور شتى، خاصة مع بدايات ما يسمونه بعصر النهضة، أو قادة التنوير، سنجد أن نموذج نيتشه المصغر لطالما تكرر في صور باهتة مهرتأة، تظهر بين الفينة والأخرى في أشخاص يظنون أنهم أعلام ثقافة، وهم في الواقع ليسوا إلا ناقلين عن الغرب، مفتونين به، قليلي العلم بالدين الحق، يأخذون الإسلام من أفواه نيتشه وأمثاله، وهم وإن لم يعلنوا كفرهم بوجود الله تعالى، لكنهم ينكرون أحكامه، ويحاربون شرعه، وليس لذلك سبب سوى الجهل بالإسلام الذي لم يدرسوه دراسة متأنية، بل ولم يقرؤوه بإنصاف، ولكن قرؤوا عنه، من مصادر غربية فتأثروا بذلك، ليظل الجهل بالدين هو أحد أهم أسباب الإلحاد، بجميع أشكاله.
الوقاية من الجهل بالدين:
الوقاية لا تكون كاملة شاملة تامة، إلا إذا كان الدرع سابغًا، وهكذا الدين لا يكون قويًّا، واقيًا من موجات الإلحاد، إلا حينما يُؤخذ به جميعه، ويُحاط به فهمًا وعلمًا وعملًا من كل أطرافه، وإذا كان الجهل بالدين الحق يمكن أن يوقِعَ الإنسان فريسة الضلال إلى أقصى مداه، فيكفر بجميع الأديان، وينكر وجود الله تعالى، فإن هذا يعني أن العلم الشرعي السليم يقِي من ذلك، ويحول دون حصوله، وهذه مسألة على جانب شديد من الخطورة في تشكيل عقائد العامة، ومكمن الخطورة فيها أن العناصر التي تساهم في تشكيل العقول والعقائد، وتحدد المفاهيم، يجب أن تكون واضحة ابتداءً، كاملة في التصور والتطبيق، لا يتخلف منها عنصر، فنحن قد نجد من يقرأ عن الإسلام عشرات الكتب، ربما بعضها لمتخصصين فيه، ومع ذلك لم تزده تلك المعرفة إلا ثقافة خالية عن الإيمان واليقين، فهي ليست إلا ثقافة سطحية لم تلامسِ الحق من قريب، وقد نجد من يحفظ أجزاء كاملة من القرآن الكريم؛ مثل: الملحد المصري السابق أحمد حرقان، الذي كان يحفظ القرآن، ثم بين ليلة وضحاها قرر ترك الإسلام؛ ولذا فإن العلم بالإسلام - في مثل هذه الحالات - لا يكون علمًا كاملًا ولا واقيًا، بل إنه يكون صارفًا عن الحق، منفرًا منه، ومضلًّا عنه، في كلا النموذجين؛ نموذج من يقرأ بلا تعمق ودراسة، ونموذج من يحفظ ولا يفهم؛ ومن ثَمَّ فإن الذي يقي من الإلحاد هو أن يقدَّم الإسلام كاملًا كما أُنزل، ويُؤخذ به على هذا النحو، من غير تغليب لجزء منه على آخر.
مقترحات لتوفير الحماية من الإلحاد:
1- تعليم النشء في المدارس والمقارئ القرآنية طرفًا من تفسير ما يحفظون من القرآن الكريم.
2- التصدي لجميع الشُّبُهات التي تُثار في وسائل الإعلام، ودحضها أولًا بأول، مهما بلغ تهافتها وضحالتها.
3- الاهتمام في الخطاب الديني والتربوي والإعلامي بالجوانب التي تقلص الاختلاف بين المذاهب الإسلامية في فروع الفقه والعقيدة، وإبرازه على أنه اختلاف تنوع لا تضاد.
4- زيادة العناية بالترجمات الصحيحة لمعاني القرآن الكريم، نشرًا وتوزيعًا لدى المجتمعات غير المسلمة، والتي يكثُر فيها الإلحاد في أوروبا وآسيا.
__________________________________________________
الكاتب: د. محمد محمود النجار
- التصنيف: