من منطلقات العلاقات الشرق والغرب (الفوقية والدونية)

منذ 2022-10-19

متى ما سيطر عامل الدونية والفوقية في أي حوار، فإنه لا يسمى حينئذ حوارًا بالتعريب الإجرائي للحوار بين عقيدتين، ومثله في ذلك حوار رئيس العمل الجاف الجِلف مع عامله الضعيف المنكسر الخائف...

حوار الأديان قضية قديمة تتجدد مع الزمان، ويزيد من الاهتمام بها ازدياد الإقبال على الإسلام، فتهبُّ العقائد الأخرى، لا سيما النصرانية، في محاولة التركيز على نقاط اللقاء، ومعلوم لدينا أن هذا الحوار قد بدأ مع أول هجرة للمسلمين إلى الحبشة - كما سبق ذكره أكثر من مرة - فحاورهم النجاشي حوارًا أراد منه أن يصل إلى الحق؛ ولذلك عندما وصل إليه آمن بالبعثة، وتوفي مسلمًا مؤمنًا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.

 

ثم قدم وفد نجران إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان بينه وبينهم حوار انتهى بإسلام بعضهم على الأقل، وكان هناك حوار بين موفَد النبي صلى الله عليه وسلم وهرقل عظيم الروم، وكل هذه الحوارات مسجلة في سيرة المصطفى - عليه الصلاة والسلام[1]، واستمر الحوار إلى يومنا هذا في نماذج فريدة، يريد منها المحاور المسلم إقناع الآخر بالرسالة؛ طمعًا في إسلامه، أو درء شره على الأقل، إن أصر على الكفر بالرسالة والرسول صلى الله عليه وسلم[2].

 

الذي يجمع بين الحوارات الفاعلة انطلاق المحاور المسلم من قوة الإيمان بالله تعالى، وبالرسالة، والرسول صلى الله عليه وسلم، ويكفي أن نتذكر موقف ربعي بن عامر رضي الله عنه في قوله لكسرى: "إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء، من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضِيق الدنيا إلى سَعتها، ومن جَور الأديان إلى عدل الإسلام"[3].

 

أما إذا لم ينطلق المحاور المسلم من هذه القوة، فإن الأمر لم يَعد يأخذ صفة الحوار، بل يمكن أن نسميه بأي اسم آخر؛ كالاعتذار، أو الدفاع، أو التسويغ لأحداث وقتية قد تلصق بالإسلام، أو قد تنطلق على أنها من هذا الدين، بينما هي ليست بالضرورة منه، وقد تكون منه، ولكن الاعتذار أو التسويغ أو الدفاع يأتي لأنها أوامر أو نواهٍ لا تُعجِب الآخر، فنتقدم بها معتذرين عنها ونحن بصدق نشعر بالدونية في مقابل الآخر.

 

متى ما سيطر عامل الدونية والفوقية في أي حوار، فإنه لا يسمى حينئذ حوارًا بالتعريب الإجرائي للحوار بين عقيدتين، ومثله في ذلك حوار رئيس العمل الجاف الجِلف مع عامله الضعيف المنكسر الخائف[4].

 

إن حوارات الزمن الحالي بين المسلمين وغير المسلمين لا يصدق عليها مفهوم الحوار الإجرائي بين عقيدتين أو أكثر؛ ذلك أن أغلب المحاورين، وليس كلهم، متَّهمون باتباعهم الأساليب الاعتذارية والدفاعية والتسويغية في حواراتهم مع الآخر؛ ذلك أن الآخر ربما يركز في حواره على ظاهرات اجتماعية طارئة على المجتمع المسلم دفع إليها وضع غير طبيعي في ذاك المجتمع[5].

 

من ناحية أخرى، يظهر أن المحاور الآخر قد وضع تصورًا في ذهنه للحياة والعلاقات، وأراد من الآخرين أن يقربوا منها في وقت هو فيه الغالب والمسيطر على الحياة الاقتصادية والثقافية والفكرية؛ ولذا فإن مقياسه نابع من نظرته هو.

 

لذا يقوم حواره على اتهام الآخر بأنه لم يصل إلى المستوى الاقتصادي والسياسي والفكري الذي وصل إليه هو، وإن يكن قد بنى هذا كله على مقدمات خاطئة وقواعد غير راسخة، ولكنه لا يعترف بذلك، ومن هنا، ولهذين العاملين المتوافرين في المتحاورين من الجهتين، يفقد الحوار الغرض الذي قام من أجله، ولا يكون الإقناع والاقتناع هدفًا أساسيًّا من أهدافه، فالقوي في هذا الحوار يريد أن يملي أفكاره، والضعيف فيه يريد أن يعتذر عن أفكاره، رغبةً خاطئة منه في محاولة الاقتراب.

 

وقد بدا في لقاءات الحوار التي تتم في بعض البلاد العربية شيءٌ من هذا من الطرفين أو من الأطراف المتحاورة، ومن خلال المتابعة الإعلامية لهذه الحوارات يظهر أنه قد تجسدت فيها مفهومات الدونية والفوقية، وإن لمس الاعتذار من الطرف الآخر في مسألة البوسنة والهرسك مثلًا، الأمر الذي أدى بالجانب المسلم إلى الاعتذار عن الصرب أنفسهم، وأنهم لا يمثلون النصرانية التي تسود اليوم! وليت هذا الاعتذار قد جاء من جانب آخر، لكان الأمر أسهل، ولَدَخل في منطق التسويغية التي تهيمن على حوارات اليوم[6].

 

إننا لا نزال نحتاج إلى الوقت غير المحدد الذي نقوي فيه انتماءنا لهذا الدين، فنفهمه فهمًا يؤهلنا إلى تقديمه إلى الآخر بالقوة المطلوبة، التي لا تعني بالضرورة العنف، كما قد يفهم منها، وهذا أمر متحقق، والمسألة مسألة وقت ومزيد من الوعي.

 


[1] انظر: عبدالسلام هارون،تهذيب سيرة ابن هشام - ط 3 - القاهرة: المؤسسة العربية الحديثة، 1396هـ/ 1967م - ص 471.

[2] انظر: محمد خاتمي،حوار الحضارات/ ترجمة: سرمد الطائي - دمشق: دار الفكر، 1423هـ/ 2002م - ص 152.

[3] انظر: عبدالسلام هارون،تهذيب سيرة ابن هشام - مرجع سابق - ص 471 - وانظر أيضًا: أبو الحسن علي الحسني الندوي،الإسلام والغرب - بيروت: مؤسسة الرسالة، 1405هـ/ 1985م - ص 19 - 20.

[4] انظر نماذج من هذا الموقف الاعتذاري في: كلثوم السعي،نحن والغرب: حوارات مع: حمادي الصيد، وسهيل إدريس، والطاهر لبيب، وعبدالمجيد الشرفي، ومحد الطالبي - تونس: مؤسسة عبدالكريم بن عبدالله، 1992م - ص 138،وانظر في ذلك كذلك: عبدالوهاب المؤدب،أوهام الإسلام السياسي - مرجع سابق - ص 231،وفي هذا المرجع الأخير الذي بذل فيه الكاتب جهدًا كبيرًا قدر عال من السخرية، خلط فيه الكاتب بين من يستحق ومن لا يستحق من منطلق تغريبي يبرز فيه قدر من التأثر بالكتَّاب الغربيين المتطرفين المتحاملين على الإسلام.

[5]انظر حوارات أحمد الشيخ مع رهط من المثقفين العرب في: أحمد الشيخ،من نقد الاستشراق إلى نقد الاستغراب: المثقفون العرب والغرب - القاهرة: المركز العربي للدراسات الغربية، 2000م - ص 319،وقد حاور فيه واحدًا وعشرين مفكرًا عربيًّا.

[6]تبنَّت مكتبة الإسكندرية عقد ندوات للحوار بصورة دورية، بحيث تختار موضوعًا محددًا للحوار مع الآخر،وهي سلسلة من الندوات موجودة على موقع المكتبة الإلكتروني.

______________________________________________________

الكاتب: أ. د. علي بن إبراهيم النملة