قانون التدافع الحضاري
اقتضَتِ الحكمة الإلهيَّة أنْ يَحدُث التِقاءٌ بين الحقِّ والباطِل، وأنْ يصير ثمَّة تدافُعٌ بينهما...
اقتضَتِ الحكمة الإلهيَّة أنْ يَحدُث التِقاءٌ بين الحقِّ والباطِل، وأنْ يصير ثمَّة تدافُعٌ بينهما، وفي "القاموس": تدافَع القومُ؛ بمعنى: دفَع بعضهم بعضًا، والتدافُع يَحمِل معنى التزاحُم والحرَكة والتموُّج، لكنَّه لا يحمل معنى التناحُر والتكالُب والإفْناء، إنما يحمل دلالةً مُؤدَّاها الردُّ بالحجَّة، فدافَع دِفاعًا ومُدافعة بمعنى: حامَى عنه، وانتَصَر له، والحقُّ هو الأمر الثابت والصحيح والواجب فعله وبَقاؤه، من اعتقادٍ أو قولٍ أو فعلٍ ينضَبِطُ ومُقرَّرات الشَّرع، والباطل هو ما لا ثَبات له ولا اعتِبار، ولا يُوصَف بصحَّةٍ أو صَوابٍ، ويستَوجِب التَّرك ولا يستحقُّ البَقاء، إنما يجبُ قلعُه وإزالتُه بالحُسنَى؛ ليتغيَّر وَجْهُ الأرض إلى الأحسن والأنفع، وهذا الصِّراع بين الحقِّ والباطل صِراعٌ في الأساس بين أصحابهما؛ لأنَّ أهل الحقِّ يحملون مَعانِي الحقِّ، ويمضون في نشْره، ويحمِلون مَنظُومته، ويسهَرُون عليه، ويدفَعُون في سبيل إقامته الغالي والرخيص، ويعيشون به، وأهلُ الباطل يعمَلُون على نشْره، ويُخطِّطون له، ويتمنَّوْن أنْ يعمَّ الأرض؛ قال - تعالى -: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة: 67]، وقال - سبحانه -: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73].
فأهلُ الباطل يندَفِعون إلى باطِلِهم؛ يُنافِحون عنه، ويلتفُّون حولَه، ويعمَلُون على وضْع ضوابطَ له، وقد يستَمِيتُونَ في نشْره، وأهلُ الحقِّ وأتْباع الهدى يقولُ الله - تعالى - عنهم: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71].
ومن هنا فإنَّ القُرآن يَحكِي هذه السُّنَّة لهذا التدافُع بين الحقِّ والباطل: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة: 251]، وهذه الآية من الجلال والدِّقَّة بمكانٍ؛ فالله - تعالى - يَدْفَعُ الناس بعضهم ببعض، فمفهومُ التَّدافُع يَحمِل معنى التنافُس وحبِّ التطوير، فهذا يعمَل شيئًا والآخَر يعمَل أفضل منه، وثالثٌ يُطوِّره، ورابعٌ يُضِيفُ إليه، وخامسٌ يأتي بجديدٍ أكثر تطويرًا، ويحدُث التَّدافُع الذي لولاه لفَسَدَتِ الأرض ولكنَّ الله ذو فَضْلٍ على العالَمين، وشأنُ الناس أنْ يتمَّ بينهم صِراعٌ ومُدافَعةٌ، وتموُّج واضطرابٌ، وهي مسألةٌ حتميَّة، وقضيَّة لا بُدَّ منها؛ لأنَّ الحقَّ يُضادُّ الباطل، والهُدَى يُخالِف الضَّلال، والنُّور يُبايِن الظَّلام، والتوحيد يَأنَفُ من الشِّرك، وهما ضِدَّان، والضدَّان يتَرافَعان ولا يجتَمِعان، وتطبيقُ أحدِهما يتطلَّب مُزاحمة الآخَر ومُدافَعته، وقلعه وإزالته، أو إضعافه وتحجيمه، ومنعه أنْ يكون له التأثيرُ الأقوى في واقع الناس، فمن غير المعقول أنْ يتصوَّر أنْ يتعايَشَ الحقُّ مع الباطل، أو أنْ يتَوافَق الهدى مع الضَّلال في حياةٍ يملَؤُها السِّلم، وتَحُوطُها الطمأنينة، وهذا كلامٌ لا يستقيمُ، وإذا كان للباطل قُوًى تُطغِيه فإنَّه يجبُ أنْ يكون للحقِّ قوَّةٌ تحميه، فأهل الباطل يسعَوْن بكلِّ قوَّة أنْ ينحُّوا أهلَ الحق، فهم لا يكفيهم بَقاؤُهم على باطِلهم، إنما يَشتَطُّون فيسعَوْن إلى مَحْقِ الحقِّ وأهله، وصد الناس عنه، ولا يملُّون من ذلك، ويُنفِقون الأموال الطائلة والساعات الطويلة، يُفكِّرون في مَحْوِ الحق من الأرض، وقد حكَى القُرآن هذا المسلك المهين منهم، وأنبَأَنا بعاقِبة سعْيهم أنها إلى خُسرانٍ مُبِين وحَسْرةٍ دائمة؛ قال - تعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال: 36].
وقال - تعالى - مُبيِّنًا طبيعة هذا التَّدافُع غير المحمود، وأنَّه ميئوس منه، مَطعُون في نجاحه: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217]، فجُهودُهم مشكوكٌ في استِطاعتها محوَ الحق، أو قُدرتها على محق أهله، فكلُّها داخلةٌ في إطار "إن" الشرطيَّة التي تُفِيدُ الشكَّ، وكيدهم ضعيفٌ، وتدبيرُهم إنما هو مهترئٌ، نخب، هواء، لا يلبث أمام قوَّة الحقِّ؛ قال - تعالى -: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76].
لكنْ على أهل الحقِّ في هذا التدافُع أنْ يَثبُتوا ويعمَلُوا بقوله - تعالى -: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60]، ويقول - عزَّ مِن قائل -: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39]، وقَضَتْ سُنَّةُ الله - جلَّ جلاله - في تَدافُع الحقِّ والباطل أنَّ الغلَبَة للحَقِّ وأهله، والاندِحار والمَحْق للباطل وحِزبه؛ قال - عزَّ شأنُه -: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} [الشورى: 24]، يقول الرازي في تفسيرها: "أي: ومن عادة الله إبطالُ الباطل وتقريرُ الحق".
وقال الزمخشري: "ومن عادة الله أنْ يمحو الباطل ويثبت الحق بكلماته؛ أي: بوَحْيِه أو بقَضائِه؛ كقوله - تعالى -: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء: 18]".
ومعنى "عادة الحق"؛ أي: سُنَّته في خلْقه، فأهلُ الحقِّ مَنصُورون بقُدرة الله - سبحانه -: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171 - 173]، وأهل الباطل مَهزُومون فارُّون هارِبُون: {جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ} [ص: 11]، {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ} [الدخان: 24]، {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج: 17 - 20]، {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ} [الذاريات: 40].
إنها سنَّة الله - جلَّ جلاله - في أرضه بين الحقِّ والباطل وأتْباعهما، يجبُ علينا - أهلَ الإسلام - فهمُها، والوقوفُ عند آياتها وآثارِها على المستوى الفَرديِّ والاجتماعيِّ والكوني، على مَرِّ الدُّهور، وتعاقُب العُصور.
ونسأَلُ الله أنْ يُبصِّرنا بعظَمَةِ الإٍسلام، وجَلال القُرآن، وأنْ يَرزُقنا حُسْنَ الفهْم، وصِدْقَ التأسِّي ودَيْمومةَ الولاء لله ربِّ العالمين.
وصلَّى الله وسلَّم وبارَك على سيِّدنا محمَّدٍ، وعلى آلِه وصحْبه أجمَعِين.
____________________________________________________________
الكاتب: د. جمال عبدالعزيز أحمد
- التصنيف: