بين الخصوصية والعولمة

منذ 2022-10-23

الدعوة إلى الخصوصية الثقافية ليست وليدةَ المجتمع العربي المسلم، بل إن اليابان والصين وفرنسا - بل وكَندا قبل ذلك - بل والولايات المتحدة الأمريكية تشبَّثَت بما أسمَتْه الاستثناء الثقافي، في ضوء هذا الزَّحف القادم من وراء البحار.

لا يتنافى الموقف المنفتِح على العولمة مع ما يُنادي به بعضُ كتَّابنا ومفكِّرينا من ضرورة الحفاظ على "الخصوصية الثقافية"[1]، بمفهومها المعياري، وليس بالضرورة في جانبها الوصفي؛ إذ إن هذه الخصوصية هي التي تدعو إلى الموقف المتوازن.

 

ويركز آرنولد سيميل في مقالة له عن الخصوصية، نُشرت في المجلد الثامن من الموسوعة الدولية للعلوم الاجتماعية (1968م) على الجانب المعياري للخصوصية أكثر من الجانب الوصفي، إذ يقول: "إن الخصوصية مفهومٌ يتعلق بالعزلة والسرِّية والاستقلال الذاتي، ولكنها ليست مُرادفة لهذه المصطلحات؛ ففوق الجوانب الوصفية البحتة للخصوصية - مثل العزلة عن صحبةِ وفضولِ وتأثيرِ الآخرين - تَنطوي الخصوصيةُ على عنصرٍ معياري؛ هو: الحق في التحكم المطلَق في الوصول إلى العوالم الخاصة"[2].

 

وإنَّ السعي إلى اختراق الخصوصية الثقافية أو خَطْفها بسبب العولمة نتَج عنه مقاومة العديد من الدول - خاصة الدول النامية - للعولمة، "أو على الأقل عدم الاستسلام لشروطها القاسية؛ انطلاقًا من الشعور لدى الكثيرين من أبناء الدول بأن العولمة تستهدف القضاء على خصوصياتهم الثقافية، وتميُّزهم الحضاري، ولما ترى لها من أثرٍ في تقليص السيادة الوطنية في مجال صُنع السياسات الاقتصادية وغيرها، وخشية التعرض للصدمات الخطرة؛ كما حصل لبعض هذه الدول"[3].

 

يقول إبراهيم بن محمود حمدان: "تقتضي الحِكْمة أن لا نَحصر أنفُسَنا بين رفض العولمة أو قَبولها؛ فهي ليست مشكِلةً عابرة يُجاب عنها بنعَم أو لا، بل دَعْنا نتعامل معها بشفافية كبيرة ووعيٍ وكِياسة، ولغة لا تَخلو من واقعية، تضمن هامشًا لخصوصيتنا الثقافية ومنظومتنا القيمية"[4].

 

هذه الدعوة إلى الخصوصية الثقافية ليست وليدةَ المجتمع العربي المسلم، بل إن اليابان والصين وفرنسا - بل وكَندا قبل ذلك - بل والولايات المتحدة الأمريكية تشبَّثَت بما أسمَتْه الاستثناء الثقافي، في ضوء هذا الزَّحف القادم من وراء البحار.

 

من هنا فإن الموقف العربي الإسلاميَّ من العولمة لا يَزال يخوض في جدَليَّة القَبول والرفض، ولكل فريق مُسوِّغاته ومَخاوفه من القبول أو الرفض[5]، وليس الرفض هنا على إطلاقه، بل هو رفضٌ لسيطرة العولمة الثقافية على الشعوب في ضوء تجاهُل خصوصياتها الثقافية، مما يَستدعي قَدرًا من التوازن في الموقف من العولمة والخصوصية[6].

 

 


[1] انظر: السيد ولد أباه، اتجاهات العولمة، مرجع سابق، ص 171 - 177.

[2] نقلا عن فريد هـ. كيت، الخصوصية في عصر المعلومات، مرجع سابق، ص 34.

[3] انظر: إبراهيم الناصر، العولمة: مقاومة واستثمار - الرياض: مجلة البيان، 1426هـ، ص 41، (سلسلة كتاب البيان).

[4] انظر: إبراهيم بن محمود حمدان، عولمة اللغة ولغة العولمة، ص 1401 - 1437، في: جامعة الملك سعود ندوة العولمة وأولويات التربية، 3 مج - الرياض: الجامعة، 1427هـ، ص 1714.

[5] انظر: صالح بن مبارك الدباسي العولمة والتربية - (الرياض): المؤلف 1423هـ، ص 29 - 35.

[6] نقلًا عن فريد هـ. كيت، الخصوصية في عصر المعلومات، مرجع سابق، ص 46 - 47.

_________________________________________________________

الكاتب: أ. د. علي بن إبراهيم النملة