مفهوم الثقافة الإسلامية

منذ 2022-10-24

نشأ مصطلح الثقافة الإسلامية في العصر الحديث، ومر بتطورات فرضت واقعها على المفهوم. هذا الواقع أنتج اتجاهات؛ كل واحد منها صاغ مفهوما يعكس تصوره للثقافة الإسلامية.


نشأ مصطلح الثقافة الإسلامية في العصر الحديث، ومر بتطورات فرضت واقعها على المفهوم. هذا الواقع أنتج اتجاهات؛ كل واحد منها صاغ مفهوما يعكس تصوره للثقافة الإسلامية. ومن أوائل من كتب في هذا الموضوع د.رجب سعيد شهوان في كتاب بعنوان "دراسات في الثقافة الإسلامية"، وقد حاول هو ومن شاركه في التأليف التنظير لمفهوم الثقافة الإسلامية بطريقة أقرب إلى التجريدية منها إلى الواقعية من الناحية الإجرائية التي انطلقوا منها في تعريف الثقافة الإسلامية، فعلى سبيل المثال قاموا باستنباط ثلاثة اتجاهات لواقع الثقافة الإسلامية وهذا شيء جيد، ولكن يلحظ أن تعريف الثقافة الإسلامية لكل اتجاه لم يصدر عن أصحاب الاتجاه نفسه، بل يبدو من تشابه صياغة التعريفات في كل الاتجاهات أن واضعه واحد أو مجموعة، حاولت أن تتمثل كل اتجاه، وتضع له تعريفا، والمنهج العلمي يقتضي أن يضع التعريف المتخصص في الفن نفسه، المدرك لجوهره، والملم بأبعاده وموضوعاته...الخ؛ حتى يخرج التعريف جامعا مانعا؛ لذا أجد أن بعض التعريفات لم ترق إلى المستوى الذي يعرف بالاتجاه تعريفاً دقيقاً.

الاتجاهات في تعريف الثقافة الإسلامية[2]:

ذكر د. رجب سعيد شهوان ثلاثة اتجاهات في تعريف الثقافة الإسلامية وهي:

الاتجاه الأول: يرى أن الثقافة الإسلامية مصطلح يعبر عن حياة الأمة الإسلامية، وهويتها الدينية والحضارية، وقد عرفت الثقافة الإسلامية على هذا الأساس بأنها: "معرفة مقومات الأمة الإسلامية العامة، بتفاعلاتها في الماضي والحاضر؛ من دين، ولغة، وتاريخ، وحضارة، وقيم، وأهداف مشتركة".

الاتجاه الثاني: يرى أن الثقافة الإسلامية مصطلح يعبر عن مجموع العلوم الإسلامية الصرفة أو الشرعية، وقد عرفت الثقافة الإسلامية على هذا الأساس بأنها: "معرفة مقومات الدين الإسلامي، بتفاعلاتها في الماضي والحاضر والمصادر التي استقيت منها هذه المقومات".

الاتجاه الثالث: يرى أن الثقافة الإسلامية مصطلح يعبر عن علم جديد، يضاف إلى العلوم الإسلامية، وهو علم ظهر نتيجة التحديات المعاصرة للإسلام، والأمة الإسلامية، وقد عرفت الثقافة الإسلامية على هذا الأساس بأنها: "معرفة التحديات المعاصرة، المتعلقة بمقومات الأمة الإسلامية، ومقومات الدين الإسلامي".
بعد هذا العرض المجمل لهذه الاتجاهات وتعريفاتها لعل القارئ يوافقني- فيما أشرت إليه سابقا- من أن هذه التعريفات لم تصدر عن أصحاب الاتجاهات نفسها، وإنما حاول تمثلها من اشترك في تأليف الكتاب الذي وردت فيه.

بعد هذه الدراسة، ظهرت دراستان أكثر جدية وموضوعية، اهتمتا بمصطلح الثقافة الإسلامية، على أساس أنه يعبر عن علم جديد اسما، قديم موضوعا وتأليفا، هاتان الدراستان حاولتا جاهدين التنظير للعلم تعريفا وتقسيما على أساس أن الثقافة الإسلامية علم معياري مثله مثل علمي العقيدة والفقه. أولى الدراستين كان رائدها أ.د. عبد الرحمن الزنيدي، حيث كتب بحثا بعنوان "مدخل إلى علم الثقافة الإسلامية"، عرف فيه الثقافة الإسلامية بأنها: "علم كليات الإسلام، في نظم الحياة كلها، بترابطها[3]"، وقد حلل التعريف؛ بذكر محترزاته، بحيث خرج إلى حد كبير جامعا لموضوعات العلم، مانعا من تداخله مع التخصصات (العلوم) الأخرى.

الدراسة الثانية هي نتاج عمل جماعي، لمجموعة من الأساتذة المختصين في علم الثقافة الإسلامية، بقسم الثقافة الإسلامية، في كلية الشريعة، بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، هذا العمل خرج في كتاب تنظيري لعلم الثقافة الإسلامية يحمل عنوان "الثقافة الإسلامية - تخصصا ومادة وقسما علميا"، عرفت الثقافة الإسلامية فيه بأنها: "العلم بمنهاج الإسلام الشمولي في القيم والنظم والفكر ونقد التراث الإنساني فيها"[4]، وقد قامت هذه الدراسة مثل سابقتها بتحليل التعريف من خلال ذكر محترزاته؛ فخرج المفهوم منضبطا ودقيقا، وأجمع من سابقه؛ وهذا يتضح من خلال المقارنة بين التعريفين بشأن ما أجمعت عليه كلتا الدراستين بخصوص منهج علم الثقافة الإسلامية، الذي تحدد فيه وظائف العلم؛ فالأول اقتصرت عبارته على إظهار علم الثقافة الإسلامية بأنه علم تأصيلي[5]، بينما الثاني اشتمل على الجانب التأصيلي، والنقدي للتراث الإنساني.

كما ألحظ أن الدراسة الأولى، حاولت جاهدة، في التنظير لمفهوم مصطلح الثقافة الإسلامية، أن تربط مفهوم الثقافة الإسلامية بوصفها علما، بمفهوم علم الثقافة، الذي وضع كاتب الدراسة نفسه تعريفا له بأنه: "العلم الذي يبحث كليات الدين في مختلف شئون الحياة"[6]، منطلقا من فهمه، بأن مصطلح الثقافة في الفكر الغربي يعني النظام الكلي في المعرفة، والدين، والأدب، والفن، والأخلاق، والقانون، والتقاليد؛ هذا المنهج حتما يصور للقارئ أن علم الثقافة الإسلامية منهجيا مبني على مفهوم علم الثقافة.

وبالتحقيق في الدراسة؛ أجد أن مفهوم علم الثقافة الإسلامية، وفقا لتصور أ.د. عبد الرحمن الزنيدي، إنما بني على تصور جزئي لمفهوم الثقافة في الفكر الغربي، وليس لمفهوم علم الثقافة، وأقرب تعريف للتصور الذي خرج به، وبنى عليه؛ هو تعريف إدوارد تيلور للثقافة بوصفها أسلوب حياة، وليس علما، حيث قال: الثقافة هي: "ذلك الكل المعقد الذي يتضمن المعرفة والعقيدة والفن والأخلاق والقانون والعرف والعادة وكل المقومات الأخرى التي يكتسبها الإنسان كعضو في المجتمع"[7].

أما علم الثقافة في الفكر الغربي فأول من عرفه هو فلهلم أوزفالد حيث عرفه بأنه: "الدراسة العلمية التفسيرية للظواهر الثقافية"[8]. لذا ألحظ فرقا شاسعا بين تعريف الثقافة بوصفها علما عند أ.د. عبد الرحمن الزنيدي الذي بنى عليه تعريف علم الثقافة الإسلامية، وبين تعريف علم الثقافة في الفكر الغربي؛ حيث بدا جليا، أن تصور أ.د. عبد الرحمن الزنيدي لعلم الثقافة؛ مقتصر على كليات الدين، ولم يقل بذلك أحد ممن سبقه لا في الفكر الغربي - الذي سبق في التنظير لعلم الثقافة - ولا في الفكر الإسلامي. ومن الممكن عزو هذا التصور لدى أ.د. عبد الرحمن الزنيدي إلى عدد من الأسباب؛ منها:
 
1- اقتصاره على مفهوم الثقافة بوصفها أسلوب حياة في الفكر الغربي بينما الأولى اعتماده على مفهوم الثقافة بوصفها علما.
2- تأثره بمفهوم الأيدولوجيا في الفكر الغربي حيث عرفت على أنها: "الأصول العامة في الوجود والإنسان ونظم الحياة المختلفة سواء كانت عقدية أو سلوك أو اجتماعية" الذي اعتبرها أ.د. عبد الرحمن الزنيدي مصطلحا على أقل تقدير يتقاطع تقاطعا كبيرا، إن لم يتماثل مع مصطلح الثقافة بوصفها علما، وفق تعريفه هو، وبالمقارنة بين مصطلح الأيدولوجيا، وبين مصطلح علم الثقافة في الفكر الغربي من حيث التعريفين السابقين نلحظ البون الشاسع بينهما.
 
3- واقع منهج الثقافة الإسلامية، المطبق في قسم الثقافة الإسلامية، منذ تأسيسه بكلية الشريعة، بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وغيره من الأقسام المناظرة، في بعض الجامعات والكليات؛ حيث صورت الثقافة الإسلامية، من خلال مقرراتها الجامعية، على أنها تدرس الإسلام عقيدة؛ وقيما؛ ونظما؛ و فكرا؛ بصورة كلية شمولية، يركز فيها على الأصول العامة، التي تبنى عليها تلك العناصر.
 
إضافة إلى ذلك، فإن مفهوم علم الثقافة الإسلامية- كما عرف سابقا-؛ إنما هو انعكاس لواقع حالة عاشتها الأمة الإسلامية، في بداية صراعها مع القوميات والنزعات التحررية -وبقي هذا المفهوم مراوحا مكانه-، ولم ينطلق من تاريخ المصطلح نفسه.

وفي الحقيقة إن الثقافة هي نتاج مجتمع، من خلال فهمه، والأفهام تختلف باختلاف المجتمعات وبيئاتها، والأمة الإسلامية لم تعد مجتمعا واحدا، بل مجتمعات، تنوعت أفهمها؛ بناء على تنوع مذاهبها العقدية، والفقهية؛ وبناء على ذلك تنوعت ثقافاتها التي هي انعكاس لأساليب حياتها الفكرية والاجتماعية، فمن الصعب جمع الأمة الإسلامية على ثقافة واحدة، وإن توحدت على ثوابت معينة، فإنها تختلف فيما بينها في تفسير كثير من النصوص التي تبنى عليه أسلوب حياتها؛ لذا أرى أن التعريف المعياري لعلم الثقافة الإسلامية يبقى تجريديا.

وبناء على ما سبق؛ أقترح تطوير مفهوم علم الثقافة الإسلامية، بحيث يتحول من كونه علما معياريا-الذي أوقعه في كثير من الإشكاليات مع بعض التخصصات الشرعية والإنسانية-، إلى كونه علما تفسيريا، يستمد مفهومه من تاريخ علم الثقافة نفسه، وفق التعريف الغربي السابق، بحيث يمكن تعريفه على أنه"علم تفسير الظواهر الثقافية في المجتمع الإسلامي"، وبهذا يتحرر من إشكالية الالتباس بغيره من التخصصات المشار إليها أولا، وينطلق من تاريخ علمي للمصطلح نفسه ثاني،

وكذلك يختص بدراسة الظواهر الثقافية العامة والخاصة، الإيجابية والسلبية بخاصة، التي تعج بها المجتمعات الإسلامية في هذا العصر؛ بسبب الإفراط والتفريط (التعصب والتساهل)، ولعل من أبرزها ظاهرة التطرف أو ما يسمى بالإرهاب، وظاهرة الانهزامية، والتغريب وغيرها من الظواهر، التي تحتاج إلى دراسة علمية، متخصصة، تفسر هذه الظواهر؛ بدعا بمفهومها وأسبابها، وانتهاء بعلاجها، وقس على ذلك الظواهر الثقافية الخاصة بكل مجتمع من المجتمعات الإسلامية. وهذا الاقتراح- الذي يعتبر مشروعا- يحتاج تفعيله مؤسسة علمية، أو إلى فريق عمل، مقتنع بالفكرة، يحدد مفهوم الظاهرة الثقافية، والآليات المنهجية، التي من خلالها تتم دراسة الظاهرة وتفسيرها.
ـــــــــــــــــــــــــ
[1]  ورقة عمل مقدمة في ندوة مقررات الثقافة الإسلامية بين واقعها والمتغيرات والمنعقدة في رحاب كلية التربية بجامعة الملك فيصل في المملكة العربية السعودية. 
[2]  انظر "دراسات في الثقافة الإسلامية"، د. رجب سعيد شهوان وآخرون، ص11-12.
[3]  "مدخل إلى علم الثقافة الإسلامية" مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، عدد2،محرم 1410هـ ص89. 
[4]  "الثقافة الإسلامية - تخصصا ومادة وقسما علميا"ص13. 
[5]  بالرغم من أن الدراسة ذكرت في موضوع منهج علم الثقافة الإسلامية الجانب النقدي، ومن ضمن موضوعاته المذاهب والنظريات الحديثة، إلا أن هذا لم يظهر في التعريف. انظر"مدخل إلى علم الثقافة الإسلامية" مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية،عدد2،محرم 1410هـ ص96، 98. 
[6]  المصدر السابق ص89. 
[7]  "قاموس علم الاجتماع" د. محمد عاطف غيث مادة"ثقافة". 
[8]  المصدر السابق، مادة "علم الثقافة". 
_____________________________________________________________
الكاتب: د. ناصر بن عبدالرحمن اليحيى