خبيئة العمل
لقد جاءت الأدلَّة بامتداح عبادات الخفاء، والترغيب في قربات السِّر؛ إذِ القلْبُ فيها أشَدُّ حضورًا واجتماعًا، والعبد بها أكثر خشوعًا وخضوعًا
أمَّا بعد، فأوصيكم أيُّها الناس ونفسي بِتَقوى الله عزَّ وجلَّ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119].
أيُّها المسلمون:
إنَّ مِن نِعَمِ الله التي يَجِب على العبد شكْرُها وحفْظُها، أن يوفِّقه للالتزام بالسُّنة في الظَّاهر، وييسِّر له الاستقامةَ على الأوامر الشرعية في العلَن، ويرزقه من الحياء ما يَمْنعه من الإساءة أمام الناس والمُجاهرةِ بذنبه؛ «والحياء شعبةٌ من الإيمان»، و«إن مِمَّا أدرك الناس من كلام النبوَّة الأُولَى: إذا لَم تستَحْيِ فاصنعْ ما شئت».
غير أنَّ المَحَكَّ الدقيق الذي يُجلِّي حقيقةَ تلك الاستقامة العلنيَّة ويُمحِّصها، والاختبار الصَّعب الذي يتحطَّم عليه ما قد يَشوبُها من تكلُّفٍ وتصنُّعٍ، إنَّما يكون بعبادات السرِّ المَحْضة، والتي تكون في الخلوة والخفاء، حين لا يرى العبدَ أحدٌ غيْر ربِّه، ولا يطَّلِع على عمَلِه إلاَّ مولاه؛ ذلك أنَّ عبودية القلب واجبةٌ في كل وقتٍ وحينٍ، وهي أعظَمُ من عبودية الجوارح وأدْوَم، بل إنَّ عبادة الجوارح الظاهرة إذا خلَتْ من تلك العبودية الباطنة، لم تكنْ عبادةً مقبولةً نافعةً، وقد لا يؤْجَر صاحبُها عليها ولا يُثاب، وإنَّما يتميَّز المؤمن الصادق عن المنافِق المخادع بتلك العبوديَّة الخفيَّة.
والله عزَّ وجلَّ لا ينظر من الناس إلى الصُّور والأموال، وإنَّما ينظر إلى القلوب والأعمال، قال عليه الصلاة والسَّلام: «إن الله لا ينظر إلى صُوَرِكم وأموالكم، ولكنْ ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»؛ رواه مسلمٌ.
والإيمان ليس بالتمنِّي ولا بالتحلِّي، ولكنَّه ما وقر في القلب، وصدق القول فيه صالح العمل، ومقصود الشَّرع من الأعمال كلِّها ظاهِرِها وباطنِها، إنَّما هو صلاحُ القَلْبِ وكمالُه، وقيامُه بالعبوديَّة لربِّه عزَّ وجلَّ قال صلَّى الله عليه وسلَّم: (( {ألاَ وإنَّ في الجسَد مُضْغةً، إذا صلحتْ صلح الجسد كلُّه، وإذا فسدَتْ فسد الجسد كلُّه، ألا وهي القلب} ))، ويوم تُبَعثر القبور ويُحصَّلُ ما في الصُّدور، وتُبْلى السَّرائر، إذْ ذاك لا ينفع عندَ الله مالٌ ولا بنون، إلاَّ من أتى الله بقلبٍ سليمٍ، ومن ثَمَّ فإنَّ حِرْص العبد على صلاحِ قلْبِه أولى وأهَمُّ، وقيامه بعمله أجَل وأعظم.
أيها المسلمون:
لقد جاءت الأدلَّة بامتداح عبادات الخفاء، والترغيب في قربات السِّر؛ إذِ القلْبُ فيها أشَدُّ حضورًا واجتماعًا، والعبد بها أكثر خشوعًا وخضوعًا، قال عزَّ وجلَّ: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة: 271]، وقال عليه الصلاة والسلام: «صدقة السرِّ تُطْفِئ غضب الرَّب»؛ (رواه الطبراني وصحَّحه الألباني) ، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصَّدقة، والْمُسرُّ بالقرآن كالمسرِّ بالصدقة»؛ (رواه أهل السُّنن، إلاَّ ابن ماجه، وصحَّحه الألباني).
وفي حديث السبعة الذين يظلُّهم الله في ظله يوم لا ظلَّ إلا ظله، قال عليه الصلاة والسلام: «ورجلٌ ذكر الله خاليًا ففاضتْ عيناه، ورجلٌ دعَتْه امرأةٌ ذاتُ منصبٍ وجمالٍ فقال: إنِّي أخاف الله، ورجلٌ تصدَّق بصدقةٍ فأخفاها؛ حتَّى لا تَعْلم شِمالُه ما تنفق يَمينه»؛ (متفقٌ عليه).
وقال عليه الصلاة والسلام: «صَلُّوا أيها الناس في بيوتكم؛ فإنَّ أفضل الصَّلاة صلاةُ المرء في بيتِه إلاَّ المكتوبة»؛ (رواه البخاري).
وقال عليه الصلاة والسلام: «أقرب ما يكون الرَّبُّ من العبد في جوف اللَّيل الآخِر، فإنِ استطعْتَ أن تكون ممن يَذْكر الله في تلك الساعة فكُنْ»؛ (رواه التِّرمذي والنَّسائي، وصحَّحه الألباني).
وقال عليه الصلاة والسلام: «أيُّها الناس، أفشوا السَّلام، وأطعموا الطَّعام، وصِلُوا الأرحام، وصَلُّوا بالليل والناس نيامٌ؛ تدخلوا الجنة بسلامٍ»؛ (رواه الترمذي وابن ماجه، وصحَّحه الألباني).
إنه لَم تُمْدَحْ تلك العباداتُ ويُحَثَّ عليها وتُنَزَّلْ منازِلَ عاليةً، إلاَّ لأنَّ صاحِبَها حين فعَلها يبعد عن دائرة الأنظار، ويَنْأَى عن مُلاحظة الأعيُن له، ويتمحَّض قلْبُه لِمُطالعة ربِّه والإخلاص له، في لَحظاتٍ إيمانيةٍ صادقةٍ، لا تشوبُها من الرِّياء والسُّمعةٍ شائبةٌ، ولا يُخالِطُها من طلب المدح والظُّهور كدرٌ، قد توجَّه القلب فيها لله - تعالى - معظِّمًا، واطمأنَّت النَّفْس إليه، وتَمَّت مُراقبة العبد له.
وإنَّه حين تَدْفع بعضَ الناسِ إلى العبادات الظَّاهرة في بعض الأحيان دوافِعُ أرضيَّةٌ سُفلى، مِن مِثْل حُبِّ المدح أو خشية الذَّم، فإنَّ العباداتِ الباطنةَ سِرٌّ بين العبد ورَبِّه، لا يَدْفعه إليها إلاَّ محبَّتُه تعالى والْخوفُ منه وطلَبُ ما عنده، وتلك هي حالُ أهْلِ الخشية في السِّر، الَّذين ينتفعون بالذِّكرى، وتُؤَثِّر في قلوبِهم النذارة؛ قال تعالى: {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} [فاطر: 18]؛ أيْ: يَخافونه - سبحانه - حال خلوَتِهم به بعيدًا عن أعيُن الْخَلْق، ومن ثَمَّ فقد كانوا أحقَّ الناسِ بِمَغفرته ونَيْلِ ثوابه؛ قال - سبحانه -: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 31 - 35]، وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك: 12].
أيُّها المسلمون:
إنَّ مثَلَ العلانية مع السَّريرة، كمثَلِ ورَقِ الشَّجرة مع عرقها، فإنْ نُخِر العرق هلكَتْ الشجرة، وإنْ صَلح العرق صلحَت الشجرة كلُّها، ولا تزال الشَّجرة نَضِرةً ما كان عرقها مستخفيًا لا يُرى منه شيءٌ، كذلكم الدِّين لا يزال صالِحًا ما كان للعَبْد سريرةٌ صالحةٌ يصدِّق الله بِها علانيتَه، ومع هذا فإنَّه كما ينتفع من الشَّجرة بالورق أو الثَّمر، فإنَّ صلاح علانية المرء مِمَّا ينفع الله به مَن حوله.
ومِن ثَمَّ فإنَّ الحثَّ على عبادات السرِّ واستحباب الطاعات في الْخَلَوات، ليس مقصودًا به العزْلَة التامَّة عن الناس، واجتناب مَجالسهم، وهَجْر مُنتدياتِهم، أو عدم عمل أيِّ خيرٍ أمامهم؛ فإنَّ هذا مِمَّا تأباه نصوصُ الشَّرع المطهَّرة، ولا تُقِرُّه قواعدُه المقرَّرة، فثَمَّة جُمَعٌ وجَماعاتٌ لا بُدَّ من شهودها مع المسلمين، وهناك أمرٌ بالمعروف ونَهيٌ عن المنكر باليد واللِّسان، ولا بُدَّ من التعاوُن على البِرِّ والتقوى، و «يَدُ الله على الجماعة»، و«المؤمن للمؤمن كالبُنْيان، يشدُّ بعضه بعضًا»، و«مَن دلَّ على خيرٍ فله مِثْل أجْرِ فاعله»، و«مَن سَنَّ في الإسلام سُنَّةً حسنةً فله أجْرُها وأجْر مَن عمل بها من بعده».
والمقصود أنْ يُصْلِح العبد ما بينه وبين ربِّه، وأن يكون له خبيئةٌ من عملٍ يرجو أجْرَها ويحتسب ثوابَها.
ألاَ فاتَّقوا الله - عباد الله - واحْرصوا على إصلاح سرائرِكم، وعمارة بواطنكم، وتعاهَدُوا أنفسكم في خفائكم وسرِّكم؛ فإنَّ صلاح البواطن هو طريقُ الرِّفعة في الدُّنيا وسبيل النَّجاة في الآخرة، وإيَّاكم أن يأخذ بكم سرابُ الظُّهور، أو يَفْتنكم غرورُ الشُّهرة، أو يَغْلبكم الْخُمول، ويُقْعِدكم الكسَل، وخَصَّصوا لأنفسكم أوقاتًا تَخْلون فيها بالله، وتَأْنسون به، وتعيشون في كنفه، بيْنَ اعتكافٍ لِمُحاسبة النَّفْس، وخلوةٍ للتفكُّر في ملكوته - سبحانه - وذِكْرٍ وتسبيحٍ ودعاءٍ، وقيامِ ليلٍ، واستغفارٍ بالأسحار، ومناجاةٍ، وقراءةِ قُرآنٍ، وصدَقةِ سرٍّ.
في الحديث: «مَن استطاع منكم أن يكون له خبْءٌ من عملٍ صالحٍ فلْيفعلْ»؛ (رواه الضِّياء المقدسيُّ في "المختارة"، وصحَّحه الألباني).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 15 - 17].
روى الإمام أحمدُ - وصحَّحه الألبانِيُّ - عن محمود بن لبيدٍ رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «إنَّ أخْوَفَ ما أخاف عليكم الشِّرْكُ الأَصْغر»، قالوا: وما الشِّركُ الأصغرُ يا رسول الله؟ قال: «الرِّياء؛ يقول الله عزَّ وجلَّ إذا جزَى النَّاسَ بأعمالِهم: اذْهَبوا إلى الذين كنتم تُراؤون في الدُّنيا، فانْظُروا هل تَجِدون عندهم جزاءً».
ألاَ فمَا أجْمَلَه أن يكونَ للمَرْء حَظٌّ من عبادةٍ خفيَّةٍ، لا يَعْلم به أحدٌ إلا البَرُّ الرَّحيم، وأن يَحْذر أشدَّ الحذر من ذنوب الخلوات، ولا سيَّما الإصرار عليها واعتيادها؛ فإنَّ ما يُصاب به بعضُ الناس اليومَ من انتكاسٍ بعد صلاحٍ، أو فُتورٍ بعد قوَّة عزيمةٍ، إنَّ مِن أهَمِّ أسبابه التقصيرَ في عبادات القُلوب، وضَعْفَ القيام بكثيرٍ من القرُبات في الْخَفاء؛ مِمَّا ورَّث الكثيرين هشاشةً في الاستقامة، وضعفًا في الالتزام، فكيف بِما بُلِي به بعضهم مِن جَمْعٍ بين ترك العبادات في السِّر، والوقوع في ذنوب الْخَلوات، فيَظْهر أمامَ النَّاس بِمَظهر الصَّالِح المتديِّن، المُحافظ على الأوامر والنَّواهي، فإذا خلا بِنَفسه لَم يَقْتصرْ على ترك العمل الصَّالِح حتَّى يقع في المُحرَّم، فماذا بقي له من تعظيم ربِّه وإجلاله؟!
عن ثَوْبانَ مولى رسولِ الله رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لأعلمنَّ أقوامًا من أُمَّتِي يأتون يوم القيامة بحسناتٍ أمثال جبال تِهامَةَ بيضًا، فيجعلها الله هباءً منثورًا»، قال ثوبانُ: يا رسول الله، صِفْهم لنا، جَلِّهِم لنا؛ ألاَّ نكون منهم ونحن لا نَعْلم، قال: «أمَا إنَّهم إخوانُكم، ومِن جِلْدتِكم، ويأخذون من اللَّيل كما تأخذون، ولكنَّهم أقوامٌ إذا خلَوْا بِمَحارم الله انتَهَكوها»؛ (رواه ابن ماجه، وصحَّحه الألباني).
فيا من لا يصْبِر لَحظةً عمَّا يشتهي، ما أحقرَك وأصْغَرك، وأقَلَّ عِلْمَك بربِّك! ألا تَسْتحْيِي مِن خالقك وتُراقِب مولاك؟! كيف تعصيه - سبحانه - وهو يراك؟! إنَّك لن تَنال ولايتَه وتأييدَه وحِفْظَه، حتَّى تكون معامَلتُك له خالصةً، لن تَنال ولايته حتَّى تترك شهواتك، وتصبر على مكروهاتك.
فاللهَ الله في مراقبته في الْخَلوات، اللهَ الله بعمارة البواطن، اللهَ الله في النِّيات، {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 10 - 12].
{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الشعراء: 217 - 220].
________________________________________________________
الكاتب: الشيخ عبدالله بن محمد البصري
- التصنيف: