الملامتية

منذ 2022-11-10

ظهَرَ في تاريخنا الإسلامي - وما زال - نزعاتٌ صوفيَّة، يرى أصحابُها أنَّ الأعمال الصالحة لا قيمةَ لها إذا تَمَّ الإيمان، وهناك من يستحقُّون وصفَ الملامتيَّة، فهم في كلِّ ردودهم وجِدالهم يتبنون هذا المذهب؛ قصدًا أو عن غير قَصدٍ، جهلاً أو عن عِلم.

ظهَرَ في تاريخنا الإسلامي - وما زال - نزعاتٌ صوفيَّة، يرى أصحابُها أنَّ الأعمال الصالحة لا قيمةَ لها إذا تَمَّ الإيمان، بل وُجِد من الطوائف الصوفيَّة ما يُسمَّى بطائفة "الملامتية"، التي ترى ألاَّ يوجَّهَ اللوم إلى مرتكبي الجرائم؛ لعلَّ بينهم وبين الله صِلة كما يزعمون.

ووُجِد كذلك بين الفلاسفة مَن نادوا بأنَّ الإيمان وحْدَه يَكفي المتفلْسِف، وإنما شُرِعَت الأعمال للعامَّة، لا للفلاسفة والخاصَّة.

وهناك من التصرُّفات والأفعال الكثير التي يستحقُّ أصحابُها وصفَ الملامتيَّة، فهم في كلِّ ردودهم وجِدالهم يتبنون هذا المذهب؛ قصدًا أو عن غير قَصدٍ، جهلاً أو عن عِلم.

 

تقول له: إنَّ هذا الموظَّف مُرتشٍ، والرِّشْوَة حرام، مَلعون آكلها وموكِّلها، يقول لك: وماذا يفعل؟ عنده أولاد كُثُر، والبُطون الجائعة لا ترْحم، ومصاريف الحياة باهظة، والراتب لا يكفي شيئًا، هل يجوع أو يتسوَّل؟

 

تقول: إنَّ فلانًا يزني ويُرافِق هذه وتلك، والزنا من الكبائر، يقول لك: شابٌّ ويريد أن يُفرغَ شهوتَه، ولا يستطيع أن يتزوَّج؛ لأن أسعار الشقق مُلْتَهِبة وراتبه على قدر حاله، والمثيرات للشهوات في كلِّ مكان، فلا بد أن نعْذِرَه!

 

تقول له: إنَّ فلانًا يشرب الخمر وهي من الكبائر، يقول لك: يريد أن ينسى، فأحوال الناس والمجتمع والدنيا التفكير فيها يُذْهِب بالعقل ويُحْبِط، فيسلِّي نفسه بشُرْب الخمر؛ حتى يستطيع أن يعيشَ وهو ليس وحْدَه، ففلان المشهور يشرب، والممثل الفلاني يشرب، والمثقَّف الفلاني، والأديب الفلاني، وهكذا!

 

تقول له: إنَّ فلانًا يتساهل في فتاوِيه، فيحلِّل الْحَرام، ويحرِّم الحلال، يقول: إنَّ التعصُّب والتشدُّد مَمْقوت، وما أضاع المسلمين إلا التذمُّتُ، والدنيا تتغيَّر ولا بد أنْ تتغيَّر الفتوى مع تغيُّر الأحوال، كما أنَّ الناس تَكْرَه مَن يقول: إنَّ هذا حرام، وهذا حرام، فلا بد من التساهُل وعدم تقنيط الناس!

 

تقول: إنَّ فلانًا يستمع للكِليبات، ويشاهد ما في الإنترنت من مُوبِقات، وما في المجلات من خَليعات، ويُشاهد العاريات اللاتي يَتمايَلْنَ كأنَّ نارًا تُلْهِب أجسادَهنَّ أو أنَّ حَيَّة تتحرَّك على جلودهنَّ، يقول لك: إنه ينظر ويشاهد، ولكنَّه لا يقع في الحرام، ولا يُمارس الزنا، كما أنَّ قلبَه عامرٌ بالإيمان!

 

تقول له: إنَّ فلانًا لا يصلِّي، وتراه يسمع الأذان وهو جالس في المقهى يدخِّن (النارجيلة) أو السيجارة، ولا يفكِّر في الذهاب للمسجد للقاء الله - عز وجل - يقول لك: إنه يصلِّي في البيت خمسةَ الفروض قبل النوم، ولا يترك فَرْضًا واحدًا!

 

تقول له: لِمَ لا تؤدِّي فريضةَ الزكاة، وتتصدَّق على المحتاجين؟ يقول لك: أُعطيها لِمَن؟ لقد أعطيتُ فلانًا، ثم اكتشفتُ أنه أغنَى منِّي وعنده كذا وكذا من العَقَارات والأموال!

 

تقول له: لِمَ لا تؤدِّي فريضةَ الحج؟ يقول لك: أنوي ذلك، ولكن بعد أن أخْرُجَ على المعاش، وأزوِّج الأولاد، وأشتري بيتًا واسعًا!

 

تقول له: لِمَ لا تصوم شهر رمضان؟ يقول لك: لَم أَعْتَدِ الصيام وربُّنا رؤوف رحيم!

 

تقول له: فلان الموظَّف لا يتَّقِي الله في عمله، يقول لك: على قَدْر فلوسهم يَعْمَل، وإن زوَّدوا الراتب سيَعْمَل أكثر، وتقول له: أيها الموظَّف، لِمَ تعامِل الناس بغِلْظة ولا تسهِّل عليهم؟ يقول: لا بدَّ أن أُرِيَهم العين الحمراء؛ حتى أستطيع أن أتعاملَ معهم، وأعيشَ وسطهم!

 

تقول له: إنَّ السائق الفلاني يسبُّ الرُّكَّاب، ويزيد الأُجرة عليهم، يقول لك: إنْ لَم أفعلْ ذلك يُتْعِبوني، جرَّبْتُ المعاملة الليِّنَة ولم تنفعْ!

 

تقول له: لِمَ تترك زوجتَك أو ابنتك أو أختك تخرجُ من بيتها مُتبرِّجة، لا ترتدي الزِّيَّ الشرعي؟ يقول لك: حتى تتماشَى مع (الموضة)، وتُصبح مثلَ صاحباتها وزَميلاتها، ولا داعي للتضييق عليهنَّ؛ حتى لا يَكْرَهْنَني، والدِّين يُسْرٌ!

 

تقول له: لِمَ لا تعامِل جَارَك بالْحُسنى كما أمرَ الله - عز وجل - وأمَرَ رسوله - صلى الله عليه وسلم؟ يقول لكَ: جاري سيِّئ، والمعاملة الْحَسَنة معه تُفْسِده، جرَّبتُ المعاملة الْحَسَنة، فلمْ تنفعْ!

 

تقول له: لِمَ لا تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتنصح للمسلمين؟ يقول لك: ومَن ذا الذي يقبلُ النصيحة في هذه الأيام، الناس خُلقُها أصبحَ ضَيِّقًا، ولا أريدُ أن أُغضِبَ أحدًا منِّي، ولو فعلتُ ذلك: لن أجِدَ صاحبًا أو أحدًا أتعامل معه!

 

تقول له: فلان التاجر يغشُّ الناس، ويبيع لهم بضائعَ فاسدة، وأطعمة مُلوَّثة تَجْلِب لهم الأمراض والأوبئة، يقول لك: هو اشتراها هكذا، وهذا هو الموجود في السوق، وماذا يَفعل؟ هل يقوم بأكْل البضاعة، أو يُخزنُها في المحل؛ حتى يأكلها الدود؟!

 

تقول له: إن الطبيب الفلاني يزيد سعر الكشْف على المرضى بشكلٍ مبالَغ فيه، ويطرد مَن لا يستطيع دفْعَ ثَمَن الكشْف، ويُهمل في علاج مَرْضاه، يقول لك: لقد اشترى عيادة جديدة، وجَهَّزها بالآلاف، واشترى أجهزة بالملايين بالقسط، ويريد أن يشتريَ "فيلا"، وسيارة أحدث طرازًا، فماذا يفعل وكلُّ زملائه عندهم كذا وكذا، ولا بد أن يكونَ مثلَهم، والكلُّ يفعل ذلك؟!

 

تقول له: إنَّ المهندس الفلاني يغشُّ في الحديد والإسمنت، ولا يعطي العمارة حقَّها من مواد البناء، يقول لك: إن المقاوِل هو المسؤول، واتَّفق معه على ذلك، وإنْ لَم يُجَارِه، سيجد غيره بالعشرات يفعلون له ما يريد، وسيظل هو بلا عمل، وتنتشر عنه سُمْعة سيِّئة أنه معقَّد، وليس ذكيًّا، والتعامُل معه صعبٌ!

 

تقول له: إنَّ المعلم لا يؤدِّي عملَه على الوجه الذي يُرضي الله - عز وجل - والتلاميذ لا يستفيدون منه شيئًا، والأجيال الجديدة ستضيع إنْ استمرَّ معدَّل التعليم على ما هو عليه، يقول لك: إنَّ الأولادَ غير مُؤدَّبين أصلاً في بيوتهم، ولن يكونَ أحنَّ عليهم من آبائهم وأُمَّهاتهم، أمعلِّمٌ هو أم مُرَبٍّ؟ والراتب ضعيف، والفرد غيرُ قادرٍ على مَضَض التلاميذ، هؤلاء الأطفال كالشياطين في عَبَثهم، والضرْب في الميِّت حرام، لا أملَ في تعليمهم، وعدم تعليمهم أفضل، وهل مِنَ اللازم أن يتعلَّمَ كلُّ الناس؟!

 

تقول له: إنَّ فلانًا يغتاب الناس، ويشنِّع عليهم، ولا يراعي فيهم إلاًّ ولا ذِمَّة، يقول لك: هذا كلامٌ، وليس على الكلام ضريبةٌ، والناس كلهم يتكلَّمون، لَم يَبقَ غيره هو؟ هو لا يقصد إلا الخير، وقلبه صافٍ، ويضعُ رأْسه على وسادته، ولا يحمل في قلبه حِقْدًا لأحدٍ من الْخَلق!

 

تقول له: إنَّ (الميكانيكي) لا يهتمُّ بالسيارة، ولا يُصْلحها جيدًا، يقول لك: إنْ أتقنَ إصلاحَها، فلنْ يأتيَ صاحب السيارة مرة أخرى، والعمل يحتاج إلى مالٍ، ولديه عُمَّالٌ كثيرون!

 

تقول له: إنَّ الشاب الفلاني يشرب "البانجو والهيروين والكوكايين وغيره من المصائب"، يقول لك: إنها أشياء فاسدة وكل ما يفعله أنه يحرقُها ولا يضرُّ أحدًا إلا نفسه، ثم إنه يريد أن يعيشَ بحريَّة، ويَسْبح في الفضاء بعيدًا عن الناس الأشرار الموجودين على الأرض!

 

تقول له: لِمَ تُربي ابنك على سلاطة اللسان، وعلى الإساءة إلى مَن هو أكبر منه، وعلى عدم الْمُروءة والشهامة والأخلاق الإسلاميَّة الحميدة؟ يقول لك: خِبرتي في الدنيا عَلَّمتني أن الناس إمَّا آكل أو مأكول، وأنا لا أريد أن يكونَ ابني ضعيفًا يُضْرب ويُهَان من كلِّ مَن هبَّ ودبَّ، ولا أريده أن يكونَ خجولاً مثل البنات!

 

تقول له: لِمَ لا تجعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصَحْبه الكِرام أُسوةً حسنة لك بدلاً من سين أو صاد من الفاسدين والمفسدين؟ يقول لك: أين أكون أنا من الرسول؟ فزمنُ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان زمنًا جميلاً وقد انتهى، أنت تطلبُ المستحيل!

 

وعلى هذا المنوال يكون الردُّ على مئات، بل آلاف من الأفعال القبيحة والأخلاق الرديئة وأمراض القلوب، إلى درجة تصِلُ فيها إلى استنتاج مفاده: أنَّ الشيطان يتحدَّث بلسان هذا الشخص.

وصدق الله - عز وجل - إذ يقول: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121].

__________________________________________________

الكاتب: عبدالفتاح أنور البطة