للجارة باب فاطرقوه

منذ 2022-11-10

تعد الأمثال مصدرًا لغويًّا مهمًّا يلجأ إليها المتحدث؛ طلبًا للتمثيل والاختصار، وأحيانًا للتواري والاختباء؛ ومن هذه الأمثال قولهم: "إِيَّاكِ أعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَة"، وأول من قاله سهل بن مالك الفزاري

تعد الأمثال مصدرًا لغويًّا مهمًّا يلجأ إليها المتحدث؛ طلبًا للتمثيل والاختصار، وأحيانًا للتواري والاختباء؛ ومن هذه الأمثال قولهم: "إِيَّاكِ أعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَة"، وأول من قاله سهل بن مالك الفزاري؛ حين أنشد:

يَا أُخْتَ خَيْرِ الْبَدْوِ وَالْحَضَارَهْ   ***   كَيْفَ تَرَيْنَ فِي فَتَـــى فزارَهْ 

أَصْبَحَ يَهْوَى حُرَّةً مِعْطَــــــارَهْ   ***   إِيَّاكِ أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَهْ 

 

وهو يقصد بكلامه أخت حارثة بن لام الطائي، وقد بلغ بُغيته بهذا الكلام وتزوجها، وأصبح مثلًا سائرًا في التعريض بالشيء يُبديه الرجل وهو يريد غيره[1].

 

فهذا المثل "إِيَّاكِ أَعْنِي واسْمَعِي يَا جَارَة" له قصته الخاصة، لجأ المتكلم به إلى التلميح والتعريض حين كان الحياء خُلُقًا يمنع المتكلمَ من اللغة المباشرة، لكنه مع الأيام جُعل ظهرًا للاختباء، فيقول القائل ما يقول من سبٍّ وقذف وشتم، وإسقاط لأحكام خاطئة على الناس، ثم يتبعه بالمثل: "إِيَّاكِ أَعْنِي واسْمَعِي يَا جَارَة"؛ فيرفع الحرج عن نفسه في أذيتك، ويفتح باب سوء الظن بالآخرين، فأنت لا تعرف من المقصود بالخطاب، ولا ما حدث بين المتكلم وبين هذا المخاطب المجهول.

 

فإذا أصاب المتكلم الأول بالتلميح إلى المخاطب والوصول إلى هدفه، فقد نجح من استعمل بعده المثل في توسيع دائرة المخاطبين حين عمَّاه خوفًا لا حياء؛ لأنه لا يملك الشجاعة ولا الجرأة الكافية في تعيين صاحب الشأن، فتكون حاله أشبهَ بمن يطرق باب الأرنب، وهو يريد الأسد، وفي الأخير يعلق ضعفه على المثل: "إِيَّاكِ أَعْنِي واسْمَعِي يَا جَارَة".

 

ولأن الناس ليسوا على مستوى واحد من الفهم والإدراك، ولا على وعي كامل بمقدمات الموضوع المكني عنه؛ فقد يدخل المتكلم مع غير المعنيين في صراعات ومشادات هو غني عنها، وقد يثير فتنة بين آخرين، فالحجر إذا رُميَ لا بد له من أن يرتطم بشيء فيصدر صوتًا، والكلام أيضًا إذا قيل لا بد من أن يجد ردًّا أو ردود أفعال.

 

لأجل ذلك، ما أجمل أن تُرفع لغة المجازات، ويُلجأ إلى اللغة المباشرة الواضحة مع تعيين المخاطب! فليست كل المواضيع صالحة للتعريض، وليست كل الأمثال صالحة لتكون حجابًا، بل في كثير من الأحيان لا بد من الشجاعة المواجهة في الخطاب؛ لأن ضرب المعاني بالأمثال في بعض المواقف جبنٌ وإتيان للبيوت من ظهورها، وهذا منهي عنه، خصوصًا أن للجارة بابًا تدخل منه، ومن البر أن يطرقوه.

 


[1] انظر: كتاب الأمثال لأبي القاسم بن سلام، تحقيق: عبد المجيد قطاش، دار المأمون، دمشق، سوريا، ط: 1/ 1980م، هامش: 2 ص: 65.

_____________________________________________

المصدر: سعاد أشوخي