الاستهلاك والتعاون الاجتماعي.. الأخلاق هي الحل

منذ 2022-11-21

في خضمِّ الحياة الَّتي نعيشُها يواجه المرْء صعوبات جمَّة، من أبرزِها: أزْمة الاستِهلاك، وارتفاع الأسْعار، وضِيق ذات اليد، وكثْرة المتطلَّبات مع ضعْف معدَّلات الدَّخل...

في خضمِّ الحياة الَّتي نعيشُها يواجه المرْء صعوبات جمَّة، من أبرزِها: أزْمة الاستِهلاك، وارتفاع الأسْعار، وضِيق ذات اليد، وكثْرة المتطلَّبات مع ضعْف معدَّلات الدَّخل، وهناك كثير من الأُسَر المسلِمة لا تجد قوتَ يومِها، وخاصَّة في عصر الرَّأسماليَّة الطبقيَّة، فالفيصَل الَّذي يَحمينا من هذه المصاعب هو التمسُّك بالأخلاق الإسلاميَّة السلميَّة، والعكوف على القِيَم الرَّشيدة الَّتي علَّمنا إيَّاها دينُنا الحنيف، وابتِعاث قيم التَّكافُل الاجتماعي من جديد.

 

إنَّنا في موضوع الإنْفاق والمَعيشة لا بدَّ أن نقْرأ عددًا من الأحاديث الَّتي تصِف حياتَه - صلَّى الله عليه وسلَّم - بكافَّة تفاصيلها، ومَن يقرؤُها ويُحاول التمثُّل والاقتِداء، فسيجِد نفسَه بعيدًا عن شرَه الاستِهلاك والوقوع في الأزمات، منها مثلاً: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «طعام الواحِد يكْفي الاثنَين وطعامُ الاثنَين يكْفِي الأرْبعة».

 

ما سبب الغلاء وارتفاع الأسعار؟ وكيف السبيل؟

إنَّ ما يُعانِيه النَّاس اليوم من غلاءٍ وارْتِفاع في الأسعار، وكثْرة للمطلوبات مع قلَّة الدخول، كل هذا يُلْقِي بعبْئِه على كاهل الإنسان، ويثقله بالهموم الَّتي تكاد تَهوي بإيمانِه وتُزَعْزِع رضاه بِما قسمه له موْلاه، وبنظرةٍ ثاقبة فاحِصة نلاحظ أنَّ البُعد عن الأخْلاق الحسَنة وإهْمال تعاليم وآداب الإسلام، كصِلة الأرْحام، والعطف على الضُّعفاء، ومعاونة المحتاجين، كل هذا من أسْباب نزْع البركة وكثْرة الشكوى، {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه: 124].

 

وروى التِّرمذي بسنَده عن أنس - رضِي الله عنْه - قال: غلا السِّعر على عهْد رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال النَّاس: يا رسولَ الله، غلا السِّعْر فسعِّر لنا، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «إنَّ الله هو المسعِّر القابض الباسط الرَّازق، وإنِّي لأرجو أن أَلقى الله وليس أحدٌ منكُم يطلُبُني في دمٍ ولا مال».

 

ولم يسعِّرْ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - للنَّاس؛ ليوضِّح لهم أنَّه بقدْر إيمانهم وقُرْبِهم من الله ترتفِع الأسعار أو تنخفض، وتُنْزَع البركة أو تبْقى، {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 69].

 

قال ابن قدامة في "المغني": "قال بعضُ أصحابِنا: التَّسعير سببُ الغلاء؛ لأنَّ الجالبين إذا بلغهم ذلك لم يقْدموا بسلعهم بلدًا يكْرَهون على بيعِها فيه بغير ما يُريدون، ومن عنده البضاعة يَمتنع من بيعِها ويكتمها، ويطلبها أهل الحاجة إليْها فلا يَجدونها إلاَّ قليلاً، فيرفعون في ثمنها ليصِلوا إليها؛ فتغلو الأسعار ويحصل الإضرار بالجانبين: جانب الملاك في منْعِهم من بيع أملاكهم، وجانب المشتري من الوصول إلى غرضِه فيكون حرامًا".

 

الضوابط الإيمانيَّة لأزمة الاستِهلاك:

ولقد وضع الإسلام عدَّة مبادئ وضوابط شرعيَّة في مجال الاستهلاك، تكْفي لتحْقيق الوقاية والمناعة من كثيرٍ من الأزمات والمجاعات الَّتي يتعرَّض لها كثير من المجتمعات الإسلاميَّة، ومن هذه المبادئ:

1- معرفة أنَّ نعم الله - تعالى - الَّتي أنعمها على البَشَر لا تخصُّ طائفة دون أخرى، وحتَّى لو وجدت بيد فئة معيَّنة فإنَّ للآخَرين حقًّا فيها؛ فالمال مال الله، والإنسان مستخْلَف فيه، ومن هنا فإنَّه ليس للمسلم أن يفرِّط أو يسرف ويبذِّر في استهلاكه.

 

2- إنَّ الاستهلاك شأنُه شأن أي تصرُّف من التصرفات، يجب أن ينضبط بحدود ما أمر الله دون إسراف في الحلال، ودون تبْذير في الحرام؛ قال الله - تعالى -: {وكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31].

وقال - سبحانه -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة: 168].

وقال - تعالى -: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} [المائدة: 88].

 

3- الإسلام يحث على الاعتدال والتوسُّط في الإنفاق والاستهلاك، وينهى عن الإفراط والتفريط، وقد بيَّن القرآن منهج عباد الرَّحمن بأنَّهم أصحاب توسُّط، بلا تفْريط ولا إفْراط، قال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67]، ومنهج القوام والاعتِدال يكفل للمجْتمعات الإسلاميَّة التخلُّص من كثيرٍ من المشْكلات والأزَمات الَّتي ترهق كاهلها، ولا يمكن الالتِزام بهذا المنهج إلاَّ بوجود القناعة والحوافز الدَّاخليَّة، من خلال الرقابة الذَّاتيَّة الإيمانيَّة.

 

4- للاستهلاك في الإسلام أولويَّات لا بدَّ من مراعاتها عند التعارُض بحيث يبدأ المسلم بسد حاجات نفسه أوَّلاً، ثمَّ أهله ثمَّ أقربائه ثمَّ المحتاجين، فقد قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «ابدأ بنفسك فتصدَّق عليها، فإن فضلَ شيءٌ فلأهْلِك، فإن فضل عن أهْلِك شيء فلذي قرابتك، فإن فضلَ عن ذي قرابتِك شيءٌ فهكذا وهكذا»؛ يقول: فبيْن يديك وعن يمينك وعن شمالك.... ويبقى الإيثار خلق الأنصار وأتباع الأنصار، ومَن سار على درْب الأنصار - رضي الله عنهم.

 

5- ينبغي للمستهْلك المسلم أن يقوم بتلْبية ضروراته أوَّلا، ثمَّ حاجياتِه، ثمَّ تَحسيناته، فالضَّروري: ما تتوقَّف عليه حياة النَّاس، كالطَّعام والشَّراب، والحاجيات هي: ما يرفع الحرج ويدفع المشقَّة عن النَّاس، والتَّحسينات: ما يؤدي إلى رغد العيش ومتعة الحياة دون إسراف أو ترف أو معصية.

 

6- يتحدَّد مستوى الاستهلاك والإنفاق على النَّفس والعيال والمحتاجين بالقُدْرة المالية للشَّخص؛ فلا يكلِّف الله نفسًا إلاَّ وُسعَها.

 

7- لا يجوز أن يشتمل الاستِهْلاك على محرَّم، سواء كان ضروريًّا أو حاجيًّا أو تحسينيًّا.

 

وقد رُوِي أنَّ طبيبًا نصرانيًّا قال لهارون الرَّشيد إثر حوارٍ دار بينهما عن منهج الإسلام في الاعتِدال في الطَّعام والشَّراب: "ما ترك كتابُكم ولا نبيُّكم لـ(جالينوس) طِبًّا".

_________________________________________________

الكاتب: د. جمال عبدالناصر