إشكال حول قول علي رضي الله عنه: ((لو كان الدين بالرأي..))

منذ 2022-12-03

عن علي رضي الله عنه أنه قال: لو كان الدِّيْنُ بالرأي لكان أسفل الخُفِّ أوْلَى بالمَسْح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خُفَّيْه.

استشكل بعضهم متن هذا الأثر المروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: لو كان الدِّيْنُ بالرأي لكان أسفل الخُفِّ أوْلَى بالمَسْح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خُفَّيْه.

 

فقال المستشكل: المسح على ظاهر الخُفِّ موافقٌ للعقل؛ لأن المراد التخفيف والترخُّص لا إزالة الخبث؛ ومِنْ ثَمَّ فالأثر ضعيف.

 

والجواب على هذا الإشكال كالتالي:

أولًا: نص الأثر:

أخرج الإمام أبو داود في سننه (كتاب الطهارة 61 - باب كيف المسح)؛ قال: حدَّثنا محمد بن العلاء، حدثنا حفص- يعني ابن غياث- عن الأعمش، عن أبي إسحاق، عن عبد خير عن علي، قال: لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخُفِّ أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خُفَّيْه.

 

ثانيًا: تخريج الأثر:

أخرجه أبو داود رحمه الله كما ذكرت، وأخرجه أيضًا:

1- الدارقطني في سننه 1 - كتاب الطهارة، باب ما في المسح على الخُفَّين من غير توقيتٍ ( ح783)عن: محمد بن القاسم بن زكريا، ثنا أبو كريب، ثنا حفص بن غياث به بلفظه.

 

2- والبيهقي في السنن الكبرى جماع أبواب المسح على الخُفَّين، باب الاقتصار بالمسح على ظاهر الخُفَّين (ح1386)من طريق: حفص بن غياث به بلفظه.

 

3- وقال البيهقي[1]: وَبِمَعْنَاهُ رَوَاهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، يَبْدَأُ بِمُقَدِّمَيْ خُفَّيْهِ، وَأَطْلَقَ بَعْضُ الرُّوَاةِ الْقَدَمَيْنِ، وَالْمُطْلَقُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ.

 

4- وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (1/ 25 ح183)عن: وَكِيع، عَنِ الْأَعْمَشِ به بلفظ: "لَوْ كَانَ الدِّينُ بِرَأْيٍ كَانَ بَاطِنُ الْقَدَمَيْنِ أَحَقَّ بِالْمَسْحِ مِنْ ظَاهِرِهِمَا".

 

قُلتُ: ولا تعارُض بين لفظ ابن أبي شيبة ولفظ أبي داود وغيره؛ لأن المقصود بالقدمين قدما الخُفِّ، فالمطلق محمول على المقيد، كما قال البيهقي، ومِمَّا يدل على ذلك قول وكيع بعد روايته بلفظ "القدمين" قال: يعني الخفين"[2].

 

ثالثًا: بيان درجة الحديث:

الحديث صحيح، وقد صحَّحَه جماعة من أهل العلم، منهم:

1-الحافظ عبدالغني المقدسي رحمه الله: فقد قال ابن عبدالهادي: قال الحافظ عبدالغني المقدسي: إسناده صحيح، ورجاله ثقات كلهم [3].

 

2-الحافظ ابن حجر رحمه الله، فقد قال: إسناده صحيح [4]، وكذا قال: "أخرجه أحمد وأبو داود والدارقطني ورجاله ثقات"[5].

 

3-العظيم آبادي رحمه الله[6].

 

4-العلامة الألباني رحمه الله: فقد صحَّحَه في «صحيح أبي داود» (152).

 

5-الشيخ الأرنؤوط رحمه الله، فقد قال: هو حديث صحيح [7].

 

6-الشيخ أبو إسحاق الحويني حفظه الله [8].

 

7-وقد حسَّنه جماعة آخرون منهم:

1-ابن عبدالبر[9].

2-ابن كثير[10].

3-الشيخ ابن عثيمين [11].

 

رابعًا: بيان الإشكال ودفعه.

هذا البيان يكون بشيئين:

أ): الحديث صحيح كما بينت، وإذا صحَّ الخبر فلا يمكن ردُّه بمجرد النظر، فإن النصَّ الصحيح لا يُخالِف العقل الصريح.

 

ب): المقصود بالرأي هنا.

المقصود بالرأي هنا هو مجرد الرأي المخالف للنصوص الشرعية، الذي يظهر للإنسان ويلوح له ابتداء قبل التدبُّر والتفكُّر، وإلا فلو تفكَّر الإنسان حقَّ التفكُّر، وتعقَّل في هذا الأمر تمام التعقُّل لظهر له أن المسح أعلى الخُفِّ موافقٌ للعقل ولا يخالفه؛ لأن الدين لا يُخالِف العقل، فالأمور الدينية لا تأخذ من العقل ابتداء، وإنما مأخذها من الشرع، فإن ثبتث في الشرع فلا يمكن أن يخالفها العقل السليم أبدًا؛ ولذا قال الإمام أبو الحسن المباركفوري رحمه الله: "فلا يعتبر بالرأي والقياس الذي هو على خلاف فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

واعلم أن العقل الكامل تابعٌ للشرع؛ لأنه عاجزٌ عن إدراك الحكم الإلهية، فعليه التعبُّد المحض بمقتضى العبودية، وما ضَلَّ مَنْ ضَلَّ من الكفرة، والحكماء، والمبتدعة وأهل الأهواء إلا بمتابعة العقل، وترك موافقة النقل"[12]، والقاعدة المشهور في مثل هذا قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (إنَّ الْعَقْلَ الصَّرِيحَ لَا يُخَالِفُ شيئًا من النَّقْل الصَّحِيح)[13].

 

وهذه بعض أقوال أهل العلم المبينة لذلك:

• يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله بعد ذكر قول سَهْل بْن حُنَيْفٍ رضي الله عنه: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ"، قال: أَيْ لَا تَعْمَلُوا فِي أَمْرِ الدِّينِ بِالرَّأْيِ الْمُجَرَّدِ الَّذِي لَا يَسْتَنِدُ إِلَى أَصْلٍ مِنَ الدِّينِ، وَهُوَ كَنَحْوِ قَوْلِ عَلِيٍّ فِيمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ: لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ مَسْحُ أَسْفَلِ الْخُفِّ أَوْلَى مِنْ أَعْلَاهُ" [14].

 

• ويقول العلامة الصنعاني رحمه الله: [لو كان الدين بالرأي]؛ أي: بالقياس وملاحظة المعاني [15].

 

• ويقول الشيخ محمود محمد خطاب السبكي رحمه الله: (أراد الإمام علي رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بهذا أن يسدَّ مدخل الرأى وباب الذرائع؛ لئلا يفسد العامة على أنفسهم دينهم- ثم قال- اعلم أن العقل الكامل تابع للشرع؛ لأنه عاجز عن إدراك الحكم الإلهية، فعليه بالتعبُّد المحض بمقتضى العبودية وما ضلَّ مَنْ ضَلَّ من الكفرة والحكماء والمبتدعة وأهل الأهواء إلا متابعة العقل وترك موافقة النقل)[16].

 

• وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: (قول علي رضي الله عنه: "لو كان الدِّين بالرأي"؛ أي: ببادي الرأي "لكان أسفل الخُفِّ أولى بالمسح من أعلاه"؛ لكن الدِّين يكون بالعقل المتعمِّق الراسخ المتأني؛ ولذلك تجد أكثر الذين يبنون أمورهم على بادي الرأي يفسدون أكثر مما يصلحون؛ لأنهم لم ينظروا إلى العواقب ولم ينظروا إلى النتائج والثمرات، فتجدهم يفسدون أكثر مما يصلحون- ثم قال -: إذا نظرنا إلى هذه المسألة بالرأي العميق وجدنا أن أعلى الخُفِّ أوْلَى بالمسح من أسفله؛ لأنك إذا مسحت على الخُفِّ مسحت على شيء نظيف، على شيء لم تلوثه الأرض بالأذى والقذر، ولو مسحت على الأسفل فتلوثت يدك بالأذى والقذر والوسخ)[17].

 

• وقال رحمه الله في موضع آخر (مراد علي بن أبي طالب- إن صحَّ الحديث عنه- مراده بالرأي ظاهر الرأي، كما قال تعالى: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود: 27]؛ يعني: في ظاهر الأمر، في ظاهر الأمر قد يقول قائل: أسفل الخُفِّ أولى؛ لأنه هو الذي يُباشِر التراب والوساخة، فكان أوْلَى بالمسح من أعلاه، أعلاه أنظف، كيف يمسح؟! ولكننا نقول: عند التأمُّل تجد أن العقل يدل على أن مسح أعلاه هو الأولى؛ لأن المسح لا يُراد به التنظيف والتنقية، يُراد به التعبُّد، ولو أننا مسحنا أسفلَ الخُفِّ لكان في ذلك تلويثٌ له؛ زيادة، لو فرض أن فيه أذًى صار ذلك تلويثًا أكثر، فصار الرأي الصحيح هو مسح أعلاه"[18].

 

وبهذا بان لنا أن الحديث ثابت صحيح عن علي رضي الله عنه، وأن معناه لا غرابة فيه ولا نكارة، وأرجو من القارئ الكريم إن بدا له ملاحظة فلا يتردَّد من بيانها لي، والحمد للهِ ربِّ العالمين، وصَلِّ اللهم وسلِّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 


[1] معرفة السنن والآثار (2 / 126 ح 2080).

[2] ينظر: سنن أبي داود (1/ 119).

[3] يُنظَر: التنقيح (1/ 530).

[4] يُنظَر: «تلخيص الحبير (1/ 160).

[5] ينظر: الفتح 4/ 192.

[6] ينظر : عون المعبود (1/ 139)

[7] يُنظَر: جامع الأصول (7/ 243).

[8] ينظر: النافلة في الأحاديث الضعيفة والباطلة (2/ 45).

[9] ينظر: التمهيد (11/ 149).

[10] ينظر: إرشاد الفقيه (1/ 47).

[11] ينظر: شرح بلوغ المرام (4/ 218).

[12] ينظر: مرعاة المفاتيح (2/ 221).

[13] «ينظر: المسائل والأجوبة» (1/ 150).

[14] ينظر: الفتح (13/ 288-289).

[15] ينظر: سبل السلام (1/ 83).

[16] يُنظَر: المنهل العذب (2/ 145).

[17] ينظر: فتح ذي الجلال والإكرام (1/ 225).

[18] ينظر: الشرح الصوتي المفرغ لزاد المستقنع (1 / 306).

______________________________________________________

الكاتب: جمال علي يوسف فياض