ثقافة الدرجة النهائية

منذ 2022-12-07

المفاهيم التي ترسخت فينا من التربية والمجتمع، تطالبنا بالكمال والمثالية، والحصول على الدرجات النهائية في كل شيء، ثقافة كل شيء أو لا شيء، ثقافة أكون أو لا أكون، لا أقبل بأنصاف الحلول، ولا ثلاثة أرباعها حتى.

يأتي إليك ابنك ليُرِيَك ورقة اختباره الأخير في مادة الرياضيات، وقد حصل على درجة مرتفعة، ولكنها ليست الدرجة النهائية، قد تقول له: جميل يا بني، ولكن المرة القادمة إن شاء الله أريد منك الدرجة النهائية.

 

فضلًا عن بعض الآباء الذين قد يعاقبون أبناءهم؛ لأنهم لم يحصلوا على الدرجة النهائية.

 

يجاهد الولد ويحاول المرة القادمة؛ ليصل إلى ما يتوقعه منه أبوه؛ لأنه يحب أباه، ويحب إسعاده، لكنه يفشل أيضًا في الحصول عليها هذه المرة؛ فيحزن ويتهم نفسه بالتقصير، ويجلد ذاته؛ لأنه لم يصل إلى طموحات أبيه فيه، فما دام لم يصل للدرجة النهائية، فهو فاشل في نظر أبيه.

 

يذهب لممارسة رياضة ما، فتطالبه أمه بتحقيق الميدالية الذهبية، والذهبية فقط، وإلا غضِبت منه واتهمته بالفشل، وقارنته بابن صديقتها الذي حصل عليها العام الماضي.

 

تبدأ البنت حمية غذائية، يخسر وزنها بعض الكيلوات، ولكنها لن تفرح إلا أن تصل إلى الوزن المثالي؛ فتضغط على نفسها مرة أخرى، فتفشل، فتتهم نفسها بعدم القدرة وضعف الإرادة، وتجلد ذاتها.

 

تكبر قليلًا، تسمع كلمات؛ مثل: الإجابة النموذجية، الطالب المثالي، كليات القمة، الوزن المثالي، الزوج المثالي، الزوجة المثالية، المرأة الحديدية، والسوبر مان...

 

يترسخ في ذهنها أنه لا بد من تحقيق هذه المسميات، وإلا أصبحت منبوذة مطرودة من المجتمع، لا بد أن تحقق توقعات الآخر منها، حتى وإن كانت مخالفة لمهاراتها وزائدة عن قدراتها.

 

في الزواج لا بد أن أكون الزوجة المثالية في الترتيب والتنظيم، يكون بيتي عشرة على عشرة، أربعة وعشرين ساعة، حتى لو كان معي أطفال صغار يخربون كل شيء.

 

في الطبخ لا بد أن أكون طاهية ماهرة - شيفًا متقاعدًا - أجيد جميع أصناف الطعام، والحلويات، والمخللات، والمعجنات، والكيكات، يتحدث عن طبخي القريب والبعيد.

 

في الاهتمام بمظهري، أكون كفُلانة وفلانة من الممثلات والفنانات.

 

في التربية لا بد أكون الأم المثالية؛ أولادي يحفظون القرآن، مؤدبون، هادئون، منظمون، عباقرة، يجيدون ثلاث لغات، يتحدثون مع الناس بذوق ولباقة.

 

في العمل أكون سيدة أعمال، رمز الإتقان والكمال لا أترك صغيرة ولا كبيرة إلا أراجعها بنفسي، لا أفوض أي عمل لغيري، فلا أثق في شخص أن يؤدي العمل كما أتصوره من الدقة والحرفية.

 

وإن لم أحقق كل ذلك، أو قصرت فيه، أكون مخطئة مقصِّرة، لا أستحق التقدير، فاشلة أجلد ذاتي، وأصفها بالدونية والنقص؛ لأنني لم أصل لتلك الخيالات الخزعبلية، والأوهام الوردية، والآمال الحالمة.

 

وغيرها وغيرها من المفاهيم التي ترسخت فينا من التربية والمجتمع، تطالبنا بالكمال والمثالية، والحصول على الدرجات النهائية في كل شيء، ثقافة كل شيء أو لا شيء، ثقافة أكون أو لا أكون، لا أقبل بأنصاف الحلول، ولا ثلاثة أرباعها حتى.

 

ولكن في الحقيقة أن جميع هذه المصطلحات والأفكار تتحطم واحدة تلو الأخرى عند الاصطدام بصخرة الواقع، فالحياة ليست كذلك، الحياة لا تمشي بالمسطرة هكذا.

 

الحياة ليست أبيضَ وأسودَ فقط، هناك ألوان أخرى.

 

ننسى أننا بشر، لسنا ملائكة لا تخطئ، ولسنا آلات تعمل ليلَ نهارَ دون كلل أو ملل، ولسنا خارقين لدينا قدرات سحرية، لسنا قادرين ولا مسيطرين على كل شيء، الله وحده هو القادر على كل شيء.

 

نحن بشر ناقصون، نتعب ونتألم، ونقصر ونذنب ونتوب، يصيبنا أمراض عضوية أو نفسية تؤثر على حالتنا المزاجية بالسلب، فلا نطيق ما كنا نطيق في الأوقات العادية.

 

يأتي علينا أوقات نشعر بالإحباط أو الاكتئاب، أو الضغط أو الحزن، أو القلق؛ فينخفض مستوى أدائنا.

 

كل هذا طبيعي جدًّا؛ فنحن بشر، نحن بنو آدم، ننسى كما نسِيَ سيدنا آدم، نحزن ونمرض كما مرض رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم.

 

لسنا مطالبين أن نبقى دائمًا في القمة في كل شيء.

 

الكمال لله وحده، كتب الله علينا الذنوب لنتوب ونعترف بضعفنا له، وما ارتفع شيء في الدنيا إلا انخفض؛ عن أنس بن مالك قال: ((كان للنبي صلى الله عليه وسلم ناقةٌ تسمَّى العَضْباء، لا تُسبق - قال حميد: أو لا تكاد تسبق - فجاء أعرابي على قعود فسبقها، فشقَّ ذلك على المسلمين حتى عَرَفه، فقال: «حقٌّ على الله ألَّا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه».

 

هذه سنة الله في خلقه؛ حتى لا نتكبر ونغترَّ بشيء من الدنيا، حتى نلجأ لله القوي القادر دون غيره.

 

قال تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24].

 

تأمل قوله تعالى: {وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} [يونس: 24].

 

قال السعدي في تفسيره: "أي‏:‏ حصل معهم طمع، بأن ذلك سيستمر ويدوم، لوقوف إرادتهم عنده، وانتهاء مطالبهم فيه"‏.‏

 

فبينما هم في تلك الحالة، {أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} [يونس: 24]؛‏ أي‏:‏ كأنها ما كانت فهذه حالة الدنيا، سواء بسواء‏‏".

 

ابتلاهم الله وأهلكهم، حين اعتقدوا أنهم قادرون على كل شيء.

 

النقص وصف لازم لجميع البشر والمخلوقات، دَعْ عنك خرافة السوبر مان، والخارقين التي تشرَّبناها من أفلام الكارتون.

 

لا تقارن نفسك بسين أو صاد من الناس الذين منَّ الله عليهم بالتفوق في شيء ما، لا تُحْسِنُهُ أنت، ولم يتيسر لك أسبابه.

 

ليس معنى ذلك ألَّا تكون طموحًا، بل كن طموحًا، وحاول بكل جهدك الوصول إلى أقصى شيء تستطيع أنت الوصول إليه، ولكن في نفس الوقت لا تجلد ذاتك، ولا تلُمْ عليها إذا لم تصل لما وصل إليه غيرك، فالعبرة بقدراتك ومهاراتك أنت، لا قدرات ومهارات غيرك.

 

فالله قسم المواهب بين الناس، كما قسم الأرزاق، ولكل شخص ظروفه ومسؤولياته التي تختلف عن ظروفك ومسؤولياتك؛ فلا تقارن نفسك بغيرك.

 

فالله عز وجل لا يكلفنا إلا بما نطيق، فلا تكلف نفسك أكثر مما تطيق، وإلا أُصيبت بالأمراض النفسية، والوسواس، والاكتئاب، والتوتر، والقلق.

 

لم يطالبنا الله بأن نكون كالملائكة لا تفتر عن العبادة، بل ننشط أحيانًا، ونكسل أحيانًا، نذنب لنشعر بحاجتنا لربٍّ رحيم يتوب علينا، نذنب لنعلم أن الكمال لله وحده، نشعر بالنقص والكسر أحيانًا؛ لنطلب من الجبار أن يُلَمْلِمَ كسورنا ويجبرها.

 

كذلك لا تتوقع الكمال في غيرك فتطالبه به، وتختلق المشاكل على كل خطأ صغير فيمن حولك، بل تحلَّ ببعض المرونة والتماس الأعذار والتغافل؛ فإن ذلك من شيم الكرام.

 

وليس معنى ذلك ألَّا نتقن أعمالنا، أو أن نتركها ولا نسعى للتفوق في الحياة، بل نعمل ونأخذ بالأسباب الممكنة قدر استطاعتنا، مع الاستعانة بالله ونترك النتائج على الله.

 

ولكن معنى كلامي أن نتقبل نقصنا وبشريَّتَنا، ونعترف بعجزنا في بعض الأوقات، فليس هذا عيبًا فينا.

 

تقبَّل نقصك.

تقبَّل بشريتك.

اعترف بضعفك.

أنت لست كاملًا، الكمال لله وحده.

أنت ابن آدم.

والسلام.