وقفات مع سورة النمل

منذ 2022-12-07

سورة النمل واحدة من السور المكية التي تعالج التوحيد، وتثبته في نفوس المدعوين، وتردُّ على شُبَه المعاندين، وتُقدِّم القَصَص الدالَّ على هذا المعنى.

سورة النمل واحدة من السور المكية التي تعالج التوحيد، وتثبته في نفوس المدعوين، وتردُّ على شُبَه المعاندين، وتُقدِّم القَصَص الدالَّ على هذا المعنى.

 

وهي من السور التي ركَّزت على النماذج في تقديمها للدعوة، وتعاطي الناس معها، فركَّزت على نموذج لم يكد يرد في سورةٍ أخرى غيرها، هو نموذج سليمان عليه السلام النبي الملِك الذي سخَّر المُلك في الدعوة إلى الدين وتوحيد الخالق، كما قدَّمَت نموذجًا آخر من نماذج العناد المنتهي بالإيمان، وفيما سوى ذلك هي كسائر السور المكية في قصصها ومواضيعها وطرق علاجها للقضايا.

 

والسورة تبدأ بعد الحروف بمقدمة تؤكد ربانية القرآن وغايته، وتُذكِّر باختصار ببعض القصص التي فُصِّلت في سور أخرى، ثم تنطلق إلى نماذج من نماذج الصلاح في التعاطي مع الدعوة فتطوي بعضها وتُفصِّل في البعض الآخر، ثم تنطلق إلى نماذج من المعاندين، وتطوي ذكرهم بسرعة، ثم تخلص للحجاج، والقواعد المستنبطة من القصص، والكليات التي تُريد السورة تركيزها في النفوس.

 

مقدمة السورة:

لا تختلف مقدمة سورة النمل عن أغلب مقدمات نوعها من السور، فهي تبدأ بالحروف المقطَّعة، (وإن كانت بدأت بحرفين لم يرد الاكتفاء بهما في أي سورة أخرى)، ثم تذكر القرآن وغايته وموقف الناس منه: {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ * هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} [النمل: 1 - 5]، ثم تذكر مصدره القرآن الكريم {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} [النمل: 6].

 

وتكتفي السورة بهذا القدر من التقديم، ثم تأتي بالبراهين على هذه المقدمات الثلاث: مواقف الناس من الدعوة إلى دين الحق، مسلمهم وكافرهم، وأدلَّة أن القرآن من الله، وفي ذلك أكبر الدلالة على نبوَّة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أُمِّي لم يكن يعرف هذا العلم ولا هذه التفاصيل.

 

القصص الشاهدة:

يُقدِّم القرآن في هذه السورة عدة قصص كنماذج على تعاطي الناس مع الدعوة، فيبدأ بقصص الرفض ويختم بها، ويُقدِّم قصص القبول بالدعوة والدين بينها.

 

أولًا: قصة موسى:

وقد طواها القرآن طيًّا، وركَّز فيها على نقاط هي الأهم في سياق ما تُعالجه السورة:

أولى هذه النقاط هي: عظمة الوحي، وما يُعانيه الأنبياء عند تنزُّله عليهم من صعاب، ويُقدِّم موسى هنا، وكيف جاءه الوحي فجأة، وكيف خاف من الآيات التي هي براهين نبوَّته، وكيف أمَّنه الله حتى لم يعد يخاف.

 

وثانية النقاط هي تعاطي فرعون وقومه مع هذه الرسالة ومع آياتها الباهرة، وكيف أعرضوا عنها رغم القناعة التامة بصدقها {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل: 14].

 

وفي ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم في تكذيب المشركين له، رغم يقينهم أنه الصادق الأمين الذي لم يُجرَّب عليه كذب ولا خيانة.

 

وفي خاتمة الآية الدالة على النظر في عواقب المكذبين أكبر تهديد لمن اتَّصَف بما اتَّصَف به أولئك، فقانون الله لا يُحابي أحدًا، ومن كذب فسيلحق بالمكذبين؛ ولذلك لم يقل القرآن فانظر كيف كان عاقبة فرعون؛ وإنما ألفت إلى عاقبة المكذِّبين، فهي حق على كل مُكذِّب أن يجدها.

 

ثانيًا: قصة داود وسليمان:

وهذه القصة تتألف من خمس محطات:

المحطة الأولى: داود الشاكر:

تتعلَّق بداود، وقد أجمل القرآن ذكره مع سليمان، ولم يفصل في قصته في هذه السورة، وذلك أن داود كان قائدًا لجماعة مؤمنة؛ لكنها رافضة للانقياد لقادتها، ولنبيِّها فيما يأمرها به من مصالح دُنْياها، التي هي فرع عن مصالح دينها؛ لذلك كان التفصيل في ذكر قصته من نصيب القرآن المدني.

 

وغاية ما ذكر القرآن المكي عنه في هذه السورة أنه كان عبدًا شاكرًا، صرف النعمة في شكر المُنعِم.

 

المحطة الثانية: سليمان الشاكر:

وفي هذه المحطة يبين القرآن لنا كيف كان نبي الله سليمان صلى الله عليه وسلم شاكرًا لله على نعمه بجزئياتها وكلياتها، فقد شكر الله مع أبيه داود {وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} [النمل: 15]، وشكر الله بعد والده، ولم ينسب عطاء الله له إلى نفسه، ولا إلى والده؛ وإنما ردَّ نسبة العطاء إلى المعطي الحق: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} [النمل: 16]، وحين تعاظم مُلكُه وتزايَدَ، وخضعت له حتى الوحوش والحشرات، والجن والإنس لم يزده ذلك إلَّا عبوديةً وإحساسًا بعظمة النعمة، فتحوَّل الدعاء من شكر محض إلى طلب توفيق للشكر، {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 17 - 19].

 

ودعاؤه الأخير بأن يدخل في عباد الله الصالحين ينبه إلى معنى عميق، وهو خوف هذا النبي المصطفى والرسول المجتبى من أن يكون مجرد ملك يملك الدنيا ثم تنزوي عنه بموته، فيكون مجرد استجراد، فطلب الله ألَّا يصرف عنه النعمة، وأن يُثبِّته على الدين حتى يلقى الله، وهو معنى من الخوف والرجاء يكثر ذكر القرآن له عن صفوة الله من خلقه، فقد قال تعالى لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام: 15] وقال الله له: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65].

 

ولذلك حين امتنَّ الله على سليمان عليه السلام بالحصول على عرش ملكة سبأ بخارقة نادرة لم يرد الفضل في ذلك لوالده ولا إلى نفسه، ولا إلى علم من له علم من الكِتاب؛ بل رد ذلك لله جل جلاله، وبين طبيعة الابتلاء، وهدفه وغايته: {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل: 40]، فهذا نبي الله سليمان الشكور.

 

المحطة الثالثة: سليمان القائد:

عرضت السورة ملك سليمان وعظمة هذا الملك وكثرة الجنود، وخوف الحشرات من سليمان وجنوده نظرًا لكثرتهم وعظمتهم؛ ولكنها لفتت إلى أمر مُهِمٍّ، وهو قوة ضبط سليمان لهذا الجيش العظيم المتنوع، ففي هذا الاستعراض العظيم لم يغفل عن الهدهد؛ بل سأل عنه، وبحث بحث الإداري الحازم، والقائد القوي عن هذا الهدهد الصغير، ولم يغفله، وطرح الاحتمالات وتوعَّد: {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل: 40]، وفي هذا من الحكم:

1- أن القائد لا يغفل عن جيشه، ولا عن رعيته.

2- أن الضبط النافع للمقودين لا يسوي بين المحسن والمسيء، ولا بين المُقصِّر والمجتهد.

3- أن سليمان قد صبغ دولته صبغة إدارية جعلت الاهتمام الإداري والاقتصادي- بالإضافة للهموم الدعوية الآتي ذكرها- يشيع حتى يصل الهدهد؛ ولذلك فالهدهد بين أن في سبأ:

• مملكة.

• أن الملك عند امرأة.

• أن الوضع الاقتصادي مريح.

• أن المرأة في أعلى مظاهر الترف.

• أن دين الدولة وثني، وأنه عبادة الشمس.

وفي هذا من عمق النظر ودِقَّة الملاحظة ما لا يخفى.

 

4- أن المخالف للانضباط، والعاصي للأمر يستحق العقوبة بمجرد المخالفة، ما لم يأتِ ببينة تبرئه؛ إذ أوقع نفسه بنفسه في قفص الاتهام، وأخرج نفسه مختارًا من البراءة الأصلية المفترضة.

 

5- أن العقوبة تتنوَّع وترتفع وتتقلَّص بحسب نوع الجرم بعد التبرير.

 

6- أن من جاء بما يبرر غيابه لا يستحق العقاب.

 

7- أن مجرد ادعاء البراءة من الخطأ لا يحمي من العقوبة؛ بل لا بد من بيِّنة {قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النمل: 27].

 

8- أن الهدهد كفر عن خطئه بتكليف قام به على أحسن وجه، وفي ذلك من محو سيئات المخالفة بحسنات الإنجاز ما يحتاج إليه أي مخالف يريد التأكيد على صدق توبته، وتمام عزمه على الإصلاح.

 

9- وفيه أن مملكة سليمان عليه السلام وجنوده فيها ومنهم الهدهد لا يملكون التواصل مع سليمان فقط؛ بل يستطيعون سماع كلام الناس ونقله بأمانة وعلى أحسن وجه، فقد نقل الهدهد محضر اجتماع الملكة بجشيها وقادة دولتها خير نقل.

 

10- وكأنني بالهدهد المؤتمن على الرسالة لم يفتحها، ولم يعرف أي شيء عن مضمونها، ولولا امتثاله لأمر سليمان لما عرف مضمون الرسالة، وربما يكون هذا من مضامين الامتحان الذي تعرض له الهدهد لإثبات براءته، كما أن طبيعة الهدهد التي تجعله على الراجح غير قادر على القراءة تجعله لو لم يتولَّ عنهم ويستمع إليهم لما عرف مضمون الرسالة.

 

المحطة الرابعة: سليمان الداعية:

تبرهن قصة الهدهد وملاحظاته واهتماماته على أن سليمان عليه السلام قد صبغ دولته بصبغة دعوية، وجعل الدعوة للدين، والتمكين له هدفًا وغايةً، ليس لقيادة الدولة فقط، ولا للمختصين فقط، ولا لفئة فقط؛ بل شاع الأمر في الناس حتى إن هُدْهدًا واحدًا اختفى وجاء بما يدل على انشغال قلبه، واهتمام روحه، إنه استنكر وجود دولة بهذا المستوى الاقتصادي والرخاء المادي لا تعبد الله؛ لأنه فهم أن مهمة الدول خدمة الدني والتمكين له.

 

لذلك فإنه جعل سجود بلقيس ومن معها للشمس من دون الله جريمةً كبيرةً، {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل: 24 - 26]، وأرشد إلى علاج هذه الجريمة بالدعوة إلى الله وعبادة الله سبحانه وتعالى.

 

وقد استغل سليمان الخبر استغلالًا مزدوجًا، فأراد أن يتأكد من براءة الهدهد في تخلُّفه من ناحية؛ لكن أراد أن يرسل رسالةً إلى ملكة سبأ يدعوها فيها إلى الله، فصدرها – بعد الرأسية الدالة على المرسل- بالبسملة، وهو معنى عميق دوَّنه القرآن، فالبسملة دعوة عظيمة، ومعنى عميق، وكل شيء يبدأ باسم الله، ففيه طابع خير، ودلالة على أن البادئ قارئ باسم الله، وعامل باسم الله، وخاضع لدين الله، وختم البسملة باسمي الله الرحمن الرحيم له في هذه الرسالة دلالة عميقة، فالدعوة إلى الدين دعوة رحمة، وليست دعوة عنف، ودعوة خير وليست دعوة غلظة، ومن اضطر الدولة المسلمة، والدعاة المسلمين إلى الإكراه فقد أخرجهم عن الأصل، ولن يبخلوا باستعمال القوة باسم الله حين يحتاجون إليها؛ لذلك لما تلكَّأت الملكة جاء التهديد، {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} [النمل: 37]، وهذا العلوُّ العسكري لوَّح به سليمان، ولم يستخدمه؛ لأن الدعوة لا تبدأ بالقوة، ولا تستخدم القوة إلا عند تعذُّر السُّبُل الأخرى، وما كان الأنبياء بمستخدمي القوة إلا لمن لا يصدُّه غيرُها.

 

لكن سليمان عليه السلام استخدم أساليب دعوية مختلفة، كلها تحيل إلى معنى واحد هو قِمَّة الاستعلاء الحضاري والعلمي والإيماني والتقني على ملك سبأ، فاستخدم معها:

1- البريد الخاص: فالرسالة جاءت عبر طائر، والطائر ليس من شأنه حمل الرسالة، والطائر الذي تحمَّل الرسائل عادة هو الحمام الزاجل، وليس الهدهد منه.

 

2- العِفَّة المطلقة: فسليمان لم يقبل هدية بلقيس، ولم يأخذها منها؛ بل قدَّم رسالة في غاية الأهمية، وهي أن دعوته لها للدين والخير ليس من أجل الاستيلاء على ما عندها، ولا من أجل أخذ أموالها، أو الاستزادة بملكها، {قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} [النمل: 36]، فهو يستنكر أن يُعطى له المال أو الرشاوى، ويُبيِّن غناه عمَّا عندهم.

 

ولا تقتصر العِفَّة المطلقة على هذا الحد؛ بل إن سليمان الذي طلب مَن يأتيه بعرشها في مثل ما يرتد إليه طرفه فيه لم يسلب منها عرشها قبل أن تقرر التوجُّه إليه، ولم يتقن العرش لنفسه؛ بل جعله آيةً على قدرته على أخذ ما تحت يدها لو أراد.

 

3- القوة الخارقة: وقد قدم سليمان عددًا من مظاهر القوة الدالة على سيطرته، وغلبته على ملكة بلقيس، فعنده الجن، وعنده الإنس، وعنده الطير، ويسمع منطق النمل، ومنطق الطير، وغير ذلك، وهو إلى ذلك بإمكانه استجلاب العرش العظيم من سبأ إلى فلسطين ليس في أول النهار أو نصفه؛ بل قبل أن يرتد إليه طرفه، ومساومته للعفريت، ورفضه لعرضه يدل على تعدد الخيارات عنده {قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل: 39، 40].

 

4- تنكير العرش: وهو تحدٍّ مزدوج، فاستجلاب العرش أمرٌ فيه من التحدِّي ما فيه، ولكن تنكيره وتغيير معالمه، بحيث يجمع بين الأصل وبين بعض الغرابة الطارئة جعل بلقيس تحار، وهو أبلغ ممَّا لو أخبروها أن عرشها عندهم؛ إذ يكفي تأمُّلها بنفسها في العرش، وفيه ما تعرف، وفيه ما تنكر، وقلبها ينكر أكثر من ذلك كيف لهذا العرش المحصن وهو في سبأ أن يسبقنا إلى فلسطين، ويأتي ولم تتغيَّر معالمه إلا تغيرًا نسبيًّا.

أي وسيلة نقل أقلته؟ وأي طريق سلك، كيف لم يغبر، وكيف لم يتكسر؟

 

5- التفوق الحضاري: وهو تحدٍّ في غاية الأهمية، وقد استخدمه سليمان مع ملكة سبأ حين طلب منها أن تدخل الصرح، فظنته ماء، لتكتشف لاحقًا أن صناعة الصروح الزجاجية الشفافة لهذه الدرجة أمرٌ بسيطٌ عند سليمان ومملكته؛ ولذلك كان هذا التحدِّي هو آخر التحديات التي دفعت الملكة لإعلان الاستسلام التام أمام التفوُّق الحضاري العظيم لسليمان عليه السلام {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44].

 

ثالثًا: قصة ملكة سبأ:

وفصل قصة بلقيس عن قصة سليمان صعب؛ لكن من المهم إفرادها من أجل أخذ بعض العِبر والعِظات من تمييز القرآن لهذه القصة ببعض الذكر، وإعطائه لبعض التفاصيل عنها، والعبر الهمة من هذه القصة تأتي عبر المحطات التالية:

المحطة الأولى: الشورى:

أول ميزة قدَّمها القرآن لملكة سبأ هي نقله المستفيض المفيد للحوار الذي دار بينها وبين قادة جيشها، فقد بيَّن القرآن كيف دار هذا الحوار الشورى الذي يتضمن:

1- بيان سبب الاجتماع وموضوعه: {قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 29 - 31].

 

وكثيرٌ من الناس؛ بل من القادة لا يحسن هذا الأمر، فتحديد الموضوع بدقة يصعب على كثير من الناس، وبيان خلفية الدعوة وسببها قد يستعصي على الكثيرين أو لا يكترثون به، فيضيع الكلام دون بساط، ودون وجهة واضحة.

 

2- بيان نوع الخدمة المطلوبة: {قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ} [النمل: 32].

 

فملكة سبأ تؤكد ثانية على أن هؤلاء هم الملأ بمعنى هم أهل الشورى، وهم أهل الحل والعقد، وتطلب منهم طلبًا محددًا هو الرأي في هذا الأمر بالذات.

 

وما دامت الرسالة جاءت بوسيلة غير طبيعية، فالأمر يحتاج إلى تفكير غير تقليدي، وغير نمطي.

 

وأيضًا فهي تُبيِّن أنها لا تريد أن تحسم هذا الأمر الخطير إلا بحضورهم، فالرأي بالتالي مطلوب، وهذا يُوحِي بأمرين:

• الأول: إما أنها تريد الرأي ولا تريد أن تحسم الأمر إلَّا من خلال آرائهم.

• الثاني: أنها قد تريد أيضًا أن تُطلِعهم على قرارها ليتحسبوا له، ويستعدوا لما يترتب عليه، وهو الراجح- عندي- إذ يُوحي قولها: {قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ} [النمل: 32]، بأنها هي من يأخذ القرار النهائي، وأن الشورى إنما جاءت لإبداء الرأي، وتقليب أوجهه، وأن الرأي النهائي إليها.

 

3- رد الملأ كان مُشيرًا إلى أمر يستثبت منه القادة عادة، وهو ولاء الجنود، والوزراء، والمسؤولين، فهي أرادت بشوراها أن تطمئن إلى الأمرين معًا: الولاء والدعم، وأن تأخذ الرأي إن كان ثمت رأي مهم؛ لذلك كان ردُّهم متضمنًا للولاء التام، والاستعداد المطلق لما تصدر من أوامر: {قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} [النمل: 33].

 

4- حين اطمأنت إلى الولاء والدعم من الأعوان، لم تكتفِ بذلك؛ بل مهدت له بأمر في غاية الأهمية، وهي بيان أسباب القرار الذي ستتخذ، {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النمل: 34]، وفي هذا التسبيب من تهديد مصالح الملأ ما لا يخفى، فالقرية ستخرب، والمناصب ستفقد؛ لذلك لا بد من حل يهدف إلى تفادي هذا الخطر.

 

5- قررت أن ترسل بهدية إلى مرسل هذه الرسالة {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ} [النمل: 35]، ثم أعطت مؤشرًا أيضًا على أن هذا ليس القرار النهائي؛ بل مجرد اختبار أولي لجد المرسل، وتوجهه العام {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل: 35].

 

وهكذا مرَّ القرار بدورة تامة تتألف من:

أ‌- جمع المعنيين لإعطاء الرأي.

ب‌- بيان سبب الاجتماع ودافعه.

ت‌- بيان الهدف المنشود من الاجتماع.

ث‌- الاطمئنان على الانسجام حول الرأي الذي سيُؤخَذ، والتأكد من مرجعية القرار.

ج‌- بيان المخاطر المحدقة من أجل التأكيد على ضرورة إيجاد حلول لتجنبها.

 

وحين فشلت هذه الخطة سارت في الخطة البديلة، وهي الاستجابة لسليمان فيما طلب، دون الدخول في دينه، ثم لما غلبها بالتحديات الحضارية أعلنت عن قناعتها التامة بدينه {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44].

 

وهذه القصة في جانبيها المتعلق بسليمان والمتعلق بملكة سبأ تبين:

1- أن الوسائل المادية لا تحمي، ولا تنفع من الله.

2- وأن الله تعالى يُعطي المال والملك للمسلم والكافر.

3- أن وجود الأشياء عند الإنسان ليس دليلًا على خيريَّته من شريته؛ بل طريقة استخدامها، وما تعين عليه هما الفرق بين الصالح والطالح.

4- أن سليمان يُمثِّل النظير والمقابل لكل من قارون وفرعون، فهو ملك ذو مال صرف ماله وملك في خدمة دين الله.

ثم بعد هذا يمرُّ القرآن ببعض النماذج المكذبة كثمود، وكيف كادوا نبيَّهم صالحًا، فأنجاه الله منهم، ولوط، وكيف انقلبت فطرة قومه، حتى أمروا بإخراجه لا لشيء إلا لأنهم يتطهرون {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل: 56].

 

وبعد هذا تنتقل السورة إلى محاورها الأخيرة، لتعقد مقارنة بين الله وبين غير الله ممَّن يدعى لهم نوع استحقاق للعبادة، {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ * فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ * قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النمل: 64].

 

وهذه الأسئلة في غاية الحرج لمن يدعي أنه يعبد بحق شيئًا من دون الله أيًّا كان ذلك المعبود، نبيًّا أو وليًّا، أو صنمًا أو نارًا أو شمسًا أو قمرًا.

 

ودمج الأسئلة بالنِّعَم الظاهرة والباطنة في غاية التبكيت للمكذبين؛ إذ لسان حال القرآن من خلالها يقول كما في الآية الأخرى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ * وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [النحل: 52 - 54]، ولا يرضى ذو فطرة سليمة أن يكفر بمن كل شيء عنده منه.

 

وتمضي السورة قدمًا في هذا السياق، فتبيَّن اختصاص الله بالألوهية، والعلم المطلق الذي لا يشابه علم، {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65] ومنه علم الساعة التي يستعجلون بها، ويذكرهم القرآن بجهلهم، وخرصهم فيما لا علم لهم به، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [النمل: 67، 68]، ويذكرهم بتكذيبهم بالبعث رغم الشواهد الدالة على الهلاك فيمن كانوا قبلهم من المكذبين بالبعث والجزاء، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [النمل: 67، 68]، ويبين السياق أن هؤلاء المكذبين ربما يكون يوم هلاكهم قد قرب، {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} [النمل: 72]؛ ولكن لا يعلم ذلك إلَّا من يعلم ما تُكِنُّ صدورُهم وما يعلنون {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل: 74، 75].

 

ثم يلتفت السياق إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليرشده للطريق المناسب للتعامل مع هؤلاء.

 

• بأن يعلم حقيقة رسالته ودعوته، ولا يشك فيها بسبب تكذيبهم لها، فالمشكلة منهم وليست منه صلى الله عليه وسلم: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل: 79].

 

• أن يدعوهم إلى الله دون حزن عليهم ولا ضيق من أقاويلهم وتكذيبهم، {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُون} [النمل: 70].

 

• وأن الهداية بيد الله وليست بيده صلى الله عليه وسلم، {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} [النمل: 80، 81].

 

• إن محاسبة هؤلاء على جرائمهم إلى الله وليست إلى غيره، وسيقضي بينهم بما شاء جل وعلا، إن رحمة وهداية، وإن عذابًا وأخذًا {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [النمل: 78].

 

• وأن المردَّ إلى الله؛ فهو يُجازي النبي صلى الله عليه وسلم على ما بذل من جهد، ويُجازي المكذِّبين على ما كذبوا، والمحسنين بإحسانهم، وفق ميزان دقيق لا يخطئ ولا يحيف {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل: 89، 90].

 

وفي ثنايا هذا العرض تصوُّر السورة الكريمة مآل المكذبين، عند رؤية الآيات، وكيف يدركون صدقها حين لا ينفع ذلك الإدراك {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ * وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ * أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ* وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل: 82 - 88].

 

ثم تختم السورة بوصايا قصيرة موجَّهة للنبي صلى الله عليه وسلم تدور حول ما أكدته الآيات السابقة من وجوب الدعوة والبلاغ، ومن ترك النتيجة والجزاء لمن بيده الخلق والأمر.

 

{إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ * وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [النمل: 91 - 93].

 

وفي هذه الخاتمة من القوة، وحسن التلخيص ما يُبيِّن هدف السورة، ودورها في تسلية النبي صلى الله عليه وسلم والتربيت على كتفه، والتخفيف عن نفسه، ودورها في حجاج المشركين وبيان تهاتف حججهم، وسقوطها.

 

والله أعلم وأحكم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

_________________________________________________

الكاتب: سيد ولد عيسى