ماذا تبقى لفرنسا من مستعمراتها؟

منذ 2022-12-15

لا يُعرف على مستوى التاريخ المعاصر والحديث محتل جمع بين الاستعلاء العنصري والتعصب الديني والوحشية المفرطة والشره الكبير لثروات البلاد المحتلة؛ مثلما عُرف عن المحتل الفرنسي!!

لقد واجه العالم الإسلامي والعربي قديمًا أنماطًا من التحديات كثيرة، اتسمت بممارسات عنيفة، تعمل على زعزعة الثوابت الدينية، وتذويب هويته، وبالتالي تهميش حضارته واستئصال خصوصيته الاجتماعية والثقافية النابعة من معتقده الديني الراسخ عبر القرون. ومن أبشع هذه الأنماط؛ الاحتلال الفرنسي، الذي سعى لإبقاء نفوذه في العالم العربي والمسلم، من خلال معاهدات واتفاقيات وشراكات ومنظمات ما بعد الاستقلال المنقوص مثل الفرنكوفونية ليُبقي شعوبه مغيبة عن دورهم الحضاري، وخيرات بلادهم مستنزفة لغيرهم.

لا يُعرف على مستوى التاريخ المعاصر والحديث محتل جمع بين الاستعلاء العنصري والتعصب الديني والوحشية المفرطة والشره الكبير لثروات البلاد المحتلة؛ مثلما عُرف عن المحتل الفرنسي!!

فالفرنسيون كانوا مزيجًا غريبًا بغيضاً من كل النقائص البشرية والجرائم الأخلاقية، مع قشرة سميكة من التعصب الديني والرغبة العارمة لطمس وتذويب الهوية الوطنية وسحق تركيبة المجتمعات الإسلامية، وما إن يحطوا رحالهم المخيفة ويطؤون بأقدامهم الثقيلة بلدًا حتى تبدأ سلاسل المجازر الوحشية والإبادة الجماعية والتدمير الشامل لكل مكونات وموروثات هذا البلد؛ اجتماعياً ودينياً وثقافياً واقتصادياً، فهم تاريخيًا أقرب الأوروبيين شبهًا بالتتار في أسلوب الحركة والهجوم على الآخرين.

بدأت فرنسا في عام 1524 تدشين حملاتها المدمرة بمغامرات فردية للتجار والمستكشفين للتعرف على أماكن الفضاء الاستراتيجي التي يمكن التمدد خلالها وتحقيق التوازن مع القوى العالمية وقتها. وبالفعل بدأت الهيمنة الفرنسية على إفريقيا في القرن السابع عشر، عبر إنشاء أول مراكزها التجارية في السنغال، ومن ثم بدأت أبشع حملة سرقة للبلاد والعباد والعقول!

وخلال فترة الاحتلال الفرنسي اتبعت سياسات الاستيعاب من خلال فرض أنظمتها الثقافية وقيمها، ونجحت في صناعة "نخب سياسية وثقافية" تدافع عن الاحتلال وتحارب أفكار الاستقلال. ومع تراجع قوة الدولة العثمانية سارعت فرنسا إلى احتلال الجزائر عام 1830، ثم التوسع في شمال إفريقيا.

ورغم أن الجزائر لم تكن أول بلد عربي ومسلم تحتله فرنسا إلا إن النموذج الجزائري في الفرنسة وطمس الهوية الوطنية وسحق مكونات المجتمع كان الكتالوج الذي سار عليه الفرنسيون في باقي البلاد التي احتلوها.

ومن أجل تحقيق هدفه الاستراتيجي في سحق الهوية العربية والإسلامية للشعب الجزائري ركز المحتل الفرنسي هجومه على مكونات هذه الهوية ممثلة في اللغة والتعليم والثقافة ونمط الحياة المصبوغ بصبغة إسلامية وعربية واضحة.

 

حصلت على امتيازات ثقافية ت كرس هيمنتها المستقبلية على التعليم في الجزائر، ومـن ذلك: الحفاظ على 50 مركزًا بحثيًا، و18 ثانوية عليا، و2430 مؤسسة تعليم ابتدائي ومتوسط موزعين جغرافياً بدقة في شتى أرجاء الجزائر وتعمل بكل قوة حتى اليوم.

كان المحتل الفرنسي يدرك بأن التعليم ليس أداة تجديد خُلقي فحسب، بل هو أداة سلطة وسيادة ووسيلة نفوذ وسيطرة على القرار الوطني أقوى مانع من التبعية والانصهار في الغير، وأنه لا بقاء له إلا بالسيطرة عليه، ومن ثم فقد عمل الاحتلال الفرنسي على ضرب التعليم في الجزائر خاصة وأن الجزائريين كانوا يتفوقون على الفرنسيين بنسبة التعليم قبل الاحتلال الفرنسي لبلادهم. يقول الجنرال فالز في سنة 1834م بأن كل العرب (الجزائريين) تقريبًا يعرفون القراءة والكتابة؛ حيث إن هناك مدرستين في كل قرية، وكتب الرحالة الألماني (فيلهلم شيمبرا) حين زار الجزائر في شهر ديسمبر عام 1831م، يقول: "لقد بحثت قصدًا عن عربي واحد في الجزائر يجهل القراءة والكتابة، غير أني لم أعثر عليه، في حين أني وجدت ذلك في بلدان جنوب أوروبا، فقلما يصادف المرء هناك من يستطيع القراءة من بين أفراد الشعب".

وقد أُحصيت أكثر من 2000 مدرسة في الجزائر سنة 1830م، ما بين ابتدائية وثانوية وعالية تعتمد اعتمادًا كبيرًا على مردود الأوقاف الإسلامية في تأدية رسالته، فوضع الاحتلال يده على الأوقاف، قاطعًا بذلك شرايين الحياة التعليمية.

وبالفعل آتت هذه السياسة الآثمة أُكلها، وزادت معدلات الأمية والجهل بين الجزائريين، وتخلفوا عن ركب العلم والثقافة، وشاعت فيهم الخرافات والظلام. هذه السياسة المتعمدة للتجهيل جعلت التعليم في الجزائر يصل إلى أدنى مستوى له، فحتى سنة 1901م -أي بعد حوالي 70 سنة من الاحتلال-كانت نسبة المتعلمين من الأهالي لا تتعدى 3.8%، فأدى ذلك لتسارع وتيرة الفرنسة والتغريب.

وفي المقابل عمد الفرنسيون لإنشاء مدارس مخصوصة لتخريج أجيال من المتغربين والمتفرنسين من أبناء الجزائر لتحقيق عدة أمور هامة لخدمة أغراض الاحتلال، منها: تجريد الشعب الجزائري من شخصيته العربية الإسلامية، ومحاولة إدماجه وصهره في البوتقة الفرنسية بإعطائه تعليمًا هزيلاً يجعله أسهل انقيادًا لسياسته. ومنها قتل الروح الوطنية التي أدت إلى اشتعال الثورات المتوالية، وجعل الشعب أكثر خضوعًا للاحتلال. ومنها إيجاد قلة متعلمة للاستفادة منها في بعض الوظائف التي تخدم الاحتلال، وقد تصبح فيما بعد طابورًا خامسًا للمحتل، أو طبقة حاكمة يُعهد إليها بتسيير شؤون الحكم ولعب دور الوكيل للمحتل إذا اقتضت الحاجة لعودة المحتل إلى بلاده في أي وقت، ومنها خلق حالة من الشقاق والخلاف المجتمعي بين أبناء الوطن الواحد ممن تلقوا تعليماً دينياً عربياً في الزوايا والجوامع، وممن تلقوا تعليمياً فرنسياً غربياً، هذا ينادي بالأصالة والعروبة والحفاظ على الهوية، وذاك ينادي بالفرنكوفونية والفرنسة والتغريب.

وللتدليل على أثر فرنسة التعليم في الجزائر يبقى أن نعلم أن فرنسا وفي ظل معاهدات الاستقلال المنقوص حصلت على امتيازات ثقافية تكرس هيمنتها المستقبلية على التعليم في الجزائر، ومـن ذلك: الحفاظ على 50 مركزًا بحثيًا، و18 ثانوية عليا، و2430 مؤسسة تعليم ابتدائي ومتوسط موزعين جغرافياً بدقة في شتى أرجاء الجزائر وتعمل بكل قوة حتى اليوم.

 

 قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون: إن تونس ستكون خلال سنتين، قاعدة جديدة لتعليم اللغة الفرنسية، مشيرًا إلى أن الفرنكوفونية ستساعد التونسيين والتونسيات على النجاح في عدة مجالات وفي دول مختلفة

أما اللغة العربية فقد كان لها النصيب الأكبر من الهجوم الفرنسي. فقد ارتبط الاحتلال الفرنسي بتاريخ غزوه اللغوي للدول التي امتد نفوذه إليها، وقد بلغ نفوذ اللغة الفرنسية قمته في القرن الثامن عشر؛ حيث حلت اللغة الفرنسية في أوروبا محل اللغة اللاتينية المتراجعة، وعمّ الاحتلال اللغوي الفرنسي العديد من الأقاليم الأوروبية.

وهذا التغول اللغوي جعل من الحرب على اللغة الوطنية عامة والعربية خاصة أحد أهم بنود الحرب على الهوية، حيث بلغ مــزاج العدوان الفرنسي أعنف صوره وأشرس مظاهره، فهو لا يكتفـي بامتصاص الـدم والثروة، بـل عمل على ابتلاع شخصية الشعوب المحتلة؛ يبتلع تاريخها، ثقافتها، لغتها، سمت حياتها.

فرنسا أحكمت سيطرتها على دواوين الإدارة والحكم في الجزائر ثم جعلت اللغة الفرنسية هي اللغة الرسمية والوحيدة المسموح بها التعامل في هذه الدواوين، فاضطر الجزائريون في البداية لتعلم لغة المحتل لتسيير أموره المعيشية، كما سعت فرنسا لإبعاد اللغة العربية عن الساحة العلمية والفكرية والسياسية، وفرض لغتها وتصوير دارس اللغة الفرنسية على أنه المثقف الحقيقي، وأما دارس اللغة العربية فيُعامل كالأمي مهما بلغت رتبته العلمية ومكانته الثقافية، ومن هنا أبعدوه عن أية مناصب في المجال الثقافي، والسياسي، والاقتصادي، وعملت على تشويه صورته في وسائل الإعلام المختلفة.

أيضًا عمل المحتل الفرنسي على إحياء النعرات القومية بتشجيع بعض اللهجات المحلية مثل الأمازيغية في المغرب العربي، والعامية في مصر وبلاد الشام، أما في غرب أفريقيا فقد اتبعت طريقة أخرى، فقد ألزمت أبناء هذه البلاد المحتلة بكتابة اللغات الأفريقية بالحرف اللاتيني بدلًا عن العربي المستخدم لقرون طويلة، توسعت عملية استخدام الحروف العربية في كتابة العديد من اللغات؛ وكانت الكتابة بالحروف العربية هي الأكثر استعمالًا في معظم دول أفريقيا فكانت كل لغاتها تكتب بالأبجدية العربية؛ اللغة الأفريكانية، والبربرية، ولغة الهراري، والهوسا، والفولانية، والماندينكية، والولوفية، والنوبية، والسواحلية، واليوروبية وغيرها. وفي فترة الستينات من القرن العشرين، تم تكريس هذا الاتجاه عالميًا تحت إشراف اليونسكو خلال مؤتمر عقد في داكار، حيث اعتمدت كتابة اللغات الأفريقية بالحرف اللاتيني، ووضعت القواعد الثابتة لذلك، وهي خطوة حاسمة تم بها فصل الأفارقة عن تراثهم وتاريخهم المكتوب باللغة العربية، وعزل الأجيال الأفريقية ثقافيًا عن ماضيها العربي، بالرغم من أن الثقافة الأوروبية تعتبر دخيلة على أفريقيا.

أما خطة فرنسا في تغيير شكل ونمط حياة المجتمع الجزائري فقد اعتمدت على فكرة الاستيطان الفرنسي أو ذوي الأقدام السوداء كما أُطلق عليهم.

فقد عمل الاستعمار الفرنسي على إيجاد شعب فرنسي بالجزائر بكل ما يحمله من عادات وتقاليد وثقافة ونمط حياة ينافس ويشاكس نمط الحياة الإسلامي والعربي بالجزائر، وذلك من خلال تشجيعه لحركة الاستيطان بعد مصادرة الأراضي التي سهلت عملية إقامة القرى الجديدة في شكل مستوطنات –على غرار النموذج الإسرائيلي في فلسطين المحتلة-ساعدت على استغلال واستثمار الأرض بما يخدم المصلحة الفرنسية والمستوطنين. أما الشعب الجزائري فقد أخضعته لمجموعة من القوانين الاستثنائية شديدة القسوة والاضطهاد مثل (قانون الأهالي)، وتجريده من المقومات شخصيته وممتلكاته لتضييع الجزائري لهويته وعاداته الاجتماعية ونمط حياته الإسلامي والعربي. وهكذا أصبح صعاليك فرنسا الوافدين على الجزائر يتمتعون فيها بحق المواطنة الفرنسية، وأدمجت معهم ثلة من اليهود المتجنسين وفقا لقرار كريميو 1870م، ومعهم مجموعة لا تتجاوز 25000 جزائري من الذين تبرعت عليهم بحق التصويت، لأنهم متعلمون أو متعاونون مع أجهزة الاحتلال وأطلقت عليهم صفة النخبة.

في المجمل تم تلوين كل الأنشطة الاجتماعية والثقافية بالروح الفرنسية، الهندسة المعمارية والتماثيل، أسماء الشوارع، الاحتفاليات، المطاعم، المحال، المدارس، إلخ. وسرت روح فرنسا فريك أو Françafrique في جسد كل البلاد المحتلة فرنسياً بفعل سياسات الاجتثاث الثقافي والاجتماعي الذي مارسه الفرنسيون في الجزائر والتي صارت النموذج والمثال الذي طُبق فيما بعد على سائر المستعمرات الفرنسية في أفريقيا وأسيا.

وإنما نقول ذلك كله ونُذكر به في الوقت الذي اختتمت فيه القمة الفرنكوفونية منذ يومين بتونس بحضور 90 وفداً و31 رئيس دولة وحكومة معظمها مستعمرات فرنسا السابقة، وكل ذلك من أجل نشر الثقافة الفرنسية ولغتها ونمط معيشتها ومواصلة الهيمنة والاحتلال الفرنسي، وقد قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون: إن تونس ستكون خلال سنتين، قاعدة جديدة لتعليم اللغة الفرنسية، مشيرًا إلى أن الفرنكوفونية ستساعد التونسيين والتونسيات على النجاح في عدة مجالات وفي دول مختلفة.

فالمعركة مستمرة، والاحتلال يأبى الخروج، وهو مصّرٌ على مواصلة الحرب على الهوية العربية والإسلامية. ولو انتهى دور المدافع، فلم ينتهِ دور المطابع.

________________________________________________________

الكاتب: شريف عبدالعزيز الزهيري