مقتطفات من كتاب (شرح الصدور بتحريم رفع القبور) للإمام الشوكاني
منذ 2022-12-31
لا يخفى على الناظر ما تعج به بلاد المسلمين من القبور المشيدة، التي تدعى من دون الله، وينذر لها ويذبح، ويطاف بها وبعضها يكون له عيدا سنويا يحج إليها فيه الجهلة
الحمد لله أمرنا بإخلاص العبادة له، وحذرنا من الشرك ووسائله، والصلاة والسلام على البشير النذير والسراج المنير، وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:
فلا يخفى على الناظر ما تعج به بلاد المسلمين من القبور المشيدة، التي تدعى من دون الله، وينذر لها ويذبح، ويطاف بها وبعضها يكون له عيدا سنويا يحج إليها فيه الجهلة، وكل ذلك مما يغضب الله وينافي التوحيد الذي من أجله أرسل الله الرسل، ومساهمة في إنكار هذه المنكرات فهذه مقتطفات من هذه الرسالة اللطيفة وهي دليل إليها ولا تغني عنها:
- فاعلم أنه إذا وقع الخلاف بين المسلمين في أن هذا الشيء بدعة أو غير بدعة، أو مكروه أو غير مكروه، أو محرم أو غير محرم، أو غير ذلك، فقد اتفق المسلمون ـ سلفهم وخلفهم ـ من عصر الصحابة إلى عصرنا هذا ... أن الواجب عند الاختلاف في أي أمر من أمور الدين بين الأمة المجتهدين هو الرد إلى كتاب الله سبحانه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
- { {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُول} } ومعنى الرد إلى الله سبحانه الرد إلى كتابه، ومعنى الرد إلى رسوله صلى الله عليه وسلم الرد إلى سُنة بعد وفاته. وهذا مما لا خلاف فيه بين جميع المسلمين.
- فإذا قال مجتهد من المجتهدين: هذا حلال، وقال الآخر: هذا حرام، فليس أحدهما أولى بالحق من الآخر وإن كان أكثر منه علما أو أكبر منه سنا أو أقدم منه عصرا لأن كل واحد منهما فرد من أفراد عباد الله ومتعبد بما في الشريعة المطهرة مما في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
- العالم كلما ازداد علما كان تكليفه زائدا على تكليف غيره. ولو لم يكن من ذلك إلا ما أوجبه الله عليه من البيان للناس وما كلفه به من الصدع بالحق وإيضاح ما شرعه الله لعباده ... {{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ}}
- فلو لم يكن لمن رزقه الله طرفا من العلم إلا كونه مكلفا بالبيان للناس لكان كافيا فيما ذكرناه من كون العلماء لا يخرجون عن دائرة التكليف. بل يزيدون بما علموه تكليفا. وإذا أذنبوا كان ذنبهم أشد من ذنب الجاهل وأكثر عقابا. كما حكاه الله عمن يعمل سوءا بجهالة ومن عمِله بعلم.
- ليس لأحد من العلماء المختلفين، أو من التابعين لهم والمقتدين بهم أن يقول: الحق ما قاله فلان دون فلان، أو فلان أولى بالحق من فلان. بل الواجب عليه- إن كان ممن له فهم وعلم وتمييز- أن يرد ما اختلفوا فيه إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, فمن كان دليل الكتاب والسنة معه فهو على الحق وهو الأولى بالحق. ومن كان دليل الكتاب والسنة عليه لا له، كان هو المخطئ، بل هو معذور، بل مأجور.
- "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر" فناهيك بخطأ يؤجر عليه فاعله، ولكن هذا إنما هو للمجتهد نفسه، إذا أخطأ، ولكن لا يجوز لغيره أن يتبعه في خطئه، ولا يعذر كعذره، ولا يؤجر كأجره، بل واجب على من عداه من المكلفين أن يترك الاقتداء به في الخطأ، ويرجع إلى الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة.
- وليس أحد من العلماء المجتهدين والأئمة المحققين بمعصوم، ومن لم يكن معصوما فإنه يجوز عليه الخطأ كما يجوز عليه الصواب، فيصيب تارة ويخطئ أخرى. ولا يتبين صوابه من خطئه إلا بالرجوع إلى دليل الكتاب والسنة، فإن وافقهما فهو مصيب، وإن خالفهما فهو مخطئ ولا خلاف في هذه الجملة بين جميع المسلمين .
- من زعم للناس أنه يمكن معرفة المخطئ من العلماء من غير هذه الطريق (كتاب الله وسنة رسوله) عند اختلافهم في مسألة من المسائل فهو مخالف لما في كتاب الله، ومخالف لإجماع المسلمين أجمعين.
- الشيء إذا ضربت له الأمثلة، وصورت له الصور بلغ من الوضوح والجلاء إلى غاية لا يخفي معها على من له فهم صحيح وعقل رجيح.
- اعلم أنه قد اتفق الناس، سابقهم ولاحقهم، وأولهم وآخرهم من لدن الصحابة رضوان الله عنهم إلى هذا الوقت: أن رفع القبور والبناء عليها بدعة من البدع التي ثبت النهي عنها واشتد وعيد رسول الله لفاعلها.
- {{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}} ، ففي هذه الآية: تعليق محبة الله الواجبة على كل عبد من عباده باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن ذلك هو المعيار الذي يعرف به محبة العبد لربه على الوجه المعتبر، وأنه السبب الذي يستحق به العبد أن يحبه الله.
- ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهى عنه كان الأخذ به واتباعه واجبا بأمر الله سبحانه. وكانت الطاعة لرسول الله في ذلك طاعة لله، وكان الأمر من رسول الله أمرا من الله.
- وعند ذلك يتبين لكل من لهم فهم، ما في رفع القبور من الفتنة العظيمة لهذه الأمة، ومن المكيدة البالغة التي كادهم الشيطان بها. وقد كاد بها من كان قبلهم من الأمم السابقة، كما حكى الله سبحانه وتعالى ذلك في كتابه العزيز.
- تسوية كل قبر مشرف بحيث يرتفع زيادة على القدر المشروع واجبة متحتمة، فمن إشراف القبور: أن يرفع سمكها أو يجعل عليها القباب أو المساجد. فإن ذلك من النهي عنه بلا شك ولا شبهة. ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعث لهدمها أمير المؤمنين عليا. ثم أمير المؤمنين بعث لهدمها أبا الهياج الأسدي في أيام خلافته.
- رفع القبور ووضع القباب والمساجد والمشاهد عليها قد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعله تارة كما تقدم. وتارة قال: "اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، فدعا عليهم بأن يشتد غضب الله عليهم بما فعلوه من هذه المعصية ... وتارة نهى عن ذلك. وتارة بعث من يهدمه وتارة جعله من فعل اليهود والنصارى ...
- "لا تتخذوا قبري عيدا" أي: موسما يجتمعون فيه كما صار يفعله كثير من عباد القبور يجعلون لمن يعتقدون من الأموات أوقاتا معلومة يجتمعون فيها عند قبورهم، ينسِكون لها المناسك، ويعكفون عليها.
- ... أفعال هؤلاء المخذولين، الذين تركوا عبادة الله الذي خلقهم ورزقهم ثم يميتهم ويحييهم، وعبدوا عبدا من عباد الله، صار تحت أطباق الثرى، لا يقدر على أن يجلب لنفسه نفعا ولا يدفع عنها ضرا، كم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أمره الله أن يقول: {{لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً}} ... وكذلك قال فيما صح عنه: " «يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئا"» .
- فيا عجبا! كيف يطمع من له أدنى نصيب من علم، أو أقل حظ من عرفان أن ينفعه أو يضره فرد من أفراد أمة هذا النبي الذي يقول عن نفسه هذه المقالة؟ (أي (لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً)» .
- فهل سمعت أذناك -أرشدك الله- بضلال عقل أكبر من هذا الضلال الذي وقع في عباد أهل القبور؟!
- فلاشك ولا ريب أن السبب الأعظم الذي نشأ منه هذا الاعتقاد في الأموات هو ما زينه الشيطان للناس من رفع القبور، ووضع الستور عليها، وتجصيصها وتزيينها بأبلغ زينة، وتحسينها بأكمل تحسين. فإن الجاهل إذا وقعت عينه على قبر من القبور قد بنيت عليه قبة فدخلها، ونظر على القبور الستور الرائعة، والسرج المتلألئة، وقد سطعت حوله مجامر الطيب، فلا شك ولا ريب أنه يمتلئ قلبه تعظيما لذلك القبر، ويضيق ذهنه عن تصور ما لهذا الميت من المنزلة ويدخله من الروعة والمهابة ما يزرع في قلبه من العقائد الشيطانية التي هي من أعظم مكائد الشيطان للمسلمين، وأشد وسائله إلى ضلال العباد ما يزلزله عن الإسلام قليلا قليلا، حتى يطلب من صاحب ذلك القبر مالا يقدر عليه إلا الله سبحانه، فيصير في عداد المشركين.
- وقد يجعل الشيطان طائفة من إخوانه من بني آدم يقفون على ذلك القبر، يخادعون من يأتي إليه من الزائرين، يهولون عليهم الأمر، ويصنعون أمورا من أنفسهم، وينسبونها إلى الميت على وجه لا يفطن له من كان من المغفلين.
- وقد يصنعون أكاذيب مشتملة على أشياء يسمونها كرامات لذلك الميت، ويبثونها في الناس، ويكررون ذكرها في مجالسهم، وعند اجتماعهم بالناس، فتشيع وتستفيض، ويتلقاها من يحسن الظن بالأموات، ويقبل عقله ما يروى عنهم من أكاذيب، فيرويها كما سمعها، ويتحدث بها في مجالسه، فيقع الجهال في بلية عظيمة من الاعتقاد الشركي.
- وينذرون على ذلك الميت كرائم أموالهم ... لاعتقادهم أنهم ينالون بجاه ذلك الميت خيرا عظيما وأجرا كبيرا، ويعتقدون أن ذلك قربة عظيمة ... فيحصل بذلك مقصود أولئك الذين جعلهم الشيطان من إخوانه من بني آدم على ذلك القبر.
- فإنهم إنما فعلوا تلك الأفاعيل وهولوا على الناس بتلك التهاويل، وكذبوا تلك الأكاذيب، لينالوا جانبا من الحطام من أموال الطغام الأغتام وبهذه الذريعة الملعونة، والوسيلة الإبليسية تكاثرت الأوقاف على القبور، وبلغت مبلغا عظيما ... ولو بيعت تلك الحبائس الباطلة لأغنى الله بها طائفة عظيمة من الفقراء، وكلها من النذر في معصية الله.
- لأنها (أي النذور) تفضي بصاحبها إلى ما يفضي به اعتقاد الإلهية في الأموات من تزلزل قدم الدين؟ إذ لا يسمح بأحب أمواله وألصقها بقلبه إلا وقد زرع الشيطان في قلبه من محبة وتعظيم ذلك القبر وصاحبه، والمغالاة في الاعتقاد فيه ما لا يعود به إلى الإسلام سالما. نعوذ بالله من الخذلان.
- ومن المفاسد البالغة إلى حد يرمي بصاحبه إلى وراء حائط الإسلام ... أن كثيرا منهم يأتي بأحسن ما يملكه من الأنعام وأجود ما يحوزه من المواشي فينحره عند ذلك القبر، متقربا به إليه، راجيا ما يضمر حصوله له منه. فيهل به لغير الله، ويتعبد به لوثن من الأوثان.
- لا فرق بين نحر النحائر لأحجار منصوبة يسمونها وثنا، وبين قبر لميت يسمونه قبرا. ومجرد الاختلاف في التسمية لا يغني من الحق شيئا، ولا يؤثر تحليلا ولا تحريما فإن من أطلق على الخمر غير اسمها وشربها، كان حكمه حكم من شربها وهو يسميها باسمها، بلا خلاف بين المسلمين أجمعين.
- ولاشك أن النحر نوع من أنواع العبادة التي تعبد الله العباد بها، كالهدايا والفدية والضحايا، فالمتقرب بها إلى القبر والناحر لها عنده لم يكن له غرض بذلك إلا تعظيمه وكرامته، واستجلاب الخير منه واستدفاع الشر به، وهذه عبادة لاشك فيها.
- فإن كان هذا محرما منهيا عنه ملعونا فاعله في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما ظنك بقبر غيره من أمته؟
- التصنيف: