حديث القرآن الكريم عن القرى والمدن
لقد حفل القرآن الكريم بالحديث عن العباد والبلاد، وأكد القرآن الكريم على أن علاقة وثيقة بين العباد وبين البلاد، وأن تأثيرا كبيرا قد يكون تأثيرا ب(السلب) وقد يكون تأثيرا ب(الإيجاب)
أيها الإخوة الكرام: لقد حفل القرآن الكريم بالحديث عن العباد والبلاد، وأكد القرآن الكريم على أن علاقة وثيقة بين العباد وبين البلاد، وأن تأثيرا كبيرا قد يكون تأثيرا ب(السلب) وقد يكون تأثيرا ب(الإيجاب) من العباد على المواضع التي يسكنوها ..
تكلم القرآن الكريم عن مكة، وعن المدينة، وعن مصر، وعن الأحقاف، وعن الحجر، وعن الرس، وعن سدوم، وعن الشام، وعن اليمن.. وعن كثير من القرى والمدن والبلاد..
تكلم القرآن الكريم عن بلاد دمرت تدميرا وجعل الله تعالى عاليها سافلها..
وتكلم القرآن الكريم عن بلاد أخرى بورك فيها وحفظها الرحمن سبحانه وتعالى بحفظه..
أما القرى المغضوب عليها.. فلقد جلب عليها أهلها هذا الغضب، وتسببوا في ذلك، وهم الذين تجرعوا كؤوس العذاب..
وأما القرى التي رضى الله عنها.. فلقد استحق أهلها هذا الرضا، وهم الذين تسببوا ايضا في ذلك، وهم الذين تقلبوا في صنوف النعيم..
قال الله تعالى عن قوم (سبإ) الذين سكنوا اليمن قال الله تعالى {﴿ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِى مَسْكَنِهِمْ ءَايَةٌ ۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ ۖ كُلُوا۟ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَٱشْكُرُوا۟ لَهُۥ ۚ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ﴾﴿ فَأَعْرَضُوا۟ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ ٱلْعَرِمِ وَبَدَّلْنَٰهُم جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَىْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ﴾ ﴿ ذَٰلِكَ جَزَيْنَٰهُم بِمَا كَفَرُوا۟ ۖ وَهَلْ نُجَٰزِىٓ إِلَّا ٱلْكَفُورَ ﴾}
وقال سبحانه وتعالى عن قوم سكنوا الحجر والأحقاف ومصر وجميعها من ( بلاد العرب) قال الله تعالى في شأنهم {﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ﴾﴿ إِرَمَ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ ﴾﴿ ٱلَّتِى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى ٱلْبِلَٰدِ ﴾﴿ وَثَمُودَ ٱلَّذِينَ جَابُوا۟ ٱلصَّخْرَ بِٱلْوَادِ ﴾ ﴿ وَفِرْعَوْنَ ذِى ٱلْأَوْتَادِ ﴾﴿ ٱلَّذِينَ طَغَوْا۟ فِى ٱلْبِلَٰدِ ﴾ ﴿ فَأَكْثَرُوا۟ فِيهَا ٱلْفَسَادَ ﴾ ﴿ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ﴾ ﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ ﴾ }
هذه الآيات ماذا تقول؟
هذه الآيات تقول إن الإنسان هو محور هذا ( العالم) ولولا الإنسان لما خلقت السماوات والأرض، ولما كان الليل ولا النهار، ولا كانت البحار والأنهار، ولا كانت الشمس ولا كان القمر، ولا كان السهل ولا كان الجبل ..
ولذلك بعد ذهاب الإنسان عن هذه الحياة قبيل يوم القيامة تبدل هذه الأرض غير الأرض والسموات، وتذهب الشمس، ولا يبقى جبل، ولا قمر، ولا بحر ولا نهر..
قال الله تعالى {﴿ وَيَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّى نَسْفًا ﴾﴿ فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا ﴾ ﴿ لَّا تَرَىٰ فِيهَا عِوَجًا وَلَآ أَمْتًا ﴾} ..
وقال عز من قائل {﴿ إِذَا ٱلشَّمْسُ كُوِّرَتْ ﴾ ﴿ وَإِذَا ٱلنُّجُومُ ٱنكَدَرَتْ ﴾﴿ وَإِذَا ٱلْجِبَالُ سُيِّرَتْ ﴾ ﴿ وَإِذَا ٱلْعِشَارُ عُطِّلَتْ ﴾ ﴿ وَإِذَا ٱلْوُحُوشُ حُشِرَتْ ﴾ ﴿ وَإِذَا ٱلْبِحَارُ سُجِّرَتْ ﴾ ﴿ وَإِذَا ٱلنُّفُوسُ زُوِّجَتْ ﴾ ﴿ وَإِذَا ٱلْمَوْءُۥدَةُ سُئِلَتْ ﴾ ﴿ بِأَىِّ ذَنۢبٍ قُتِلَتْ ﴾ ﴿ وَإِذَا ٱلصُّحُفُ نُشِرَتْ ﴾ ﴿ وَإِذَا ٱلسَّمَآءُ كُشِطَتْ ﴾ ﴿ وَإِذَا ٱلْجَحِيمُ سُعِّرَتْ ﴾ ﴿ وَإِذَا ٱلْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ ﴾ ﴿ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ ﴾}
نعود فنقول: إن الإنسان هو محور هذا ( العالم) ولولا الإنسان لما كان شيء مما ترى..
وإن الإنسان بيديه يصنع سعادته، ويرسم هناءه، ويكتب رخاءه،
وفي الوقت نفسه بيد الإنسان أيضا أن يدق أول مسمار في نعشه، بيده أن يكتب تعاسته، ويرسم انتكاسته، ويصنع بيديه ملامح شقاءه..
حديث القرآن عن القرى والمدن في الغالب:
ليس مقصودا لذاته، إنما المقصود هو الحديث عن سكان هذه المدن وعن أهل تلك القرى..
إن كان الحديث ( معززا ) لتك البلاد كان بسبب إيمان الناس، وصلاح الناس، وسلامة نفوس الناس.. {﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَٰمِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَٰتٌ وَمَسَٰجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا ٱسْمُ ٱللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ ﴾﴿ ٱلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ أَقَامُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُا۟ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُوا۟ بِٱلْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا۟ عَنِ ٱلْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلْأُمُورِ ﴾}
وإن كان الحديث عن القرى والمدن ( منتقصا ) لتلك البلاد كان بسبب فسوق الناس وفجورهم وفسادهم..
{﴿ وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ ءَامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَٰقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ ﴾} والسبب الأول هو فسوق أهل تلك القرية وفساد سكان تلك المدينة.. قال الله تعالى نصا {﴿فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَٰقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ بِمَا كَانُوا۟ يَصْنَعُونَ ﴾}
وعلى العكس من ذلك تماما:
قرية أهلها آمنوا بعد أن كانوا كفارا يعبدون الأصنام، آمنوا بعد أن عاندوا وكذبوا رسولهم، وتابوا بعد أن كانوا عصاة قد أغضبوا نبيهم، فتوعدهم نبيهم بالعذاب يأتيهم بعد ثلاثة أيام، وخرج يونس بعيدا عنهم، فلما أحسوا باقتراب العذاب خافوا فأسلموا، واستسلموا لله تعالى، ولبسوا الأكفان، وخرج النساء، والرجال، والولدان، إلى الصحراء، يبكون ندما وأسفا على ما كان منهم، وصدق أهل ( نينوى) مع ربهم، ورجعوا إليه نادمين..
كانوا على أعتاب العذاب، كانوا على أبواب الهلاك لولا فضل الله تعالى عليهم، ولولا أنهم فتحوا صفحة جديدة مع ربهم سبحانه وتعالى، بالإيمان، والندم، فكشف الله تعالى بحوله وقوته العذاب عنهم، ورزقهم من حيث لم يحتسبوا {﴿ فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ ءَامَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَٰنُهَآ إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ ءَامَنُوا۟ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ ٱلْخِزْىِ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَمَتَّعْنَٰهُمْ إِلَىٰ حِينٍ ﴾}
إنها قرية يقال لها ( نينوى) قرية قريبة من البحر في بلاد (العراق)
إنها قرية النبي الصالح (يونس بن متى) عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام وكان يونس قد لبث فيهم يدعوهم إلى الإيمان (تسع سنوات) فلم يؤمن به أحد..
كان أهل ( نينوى) يتجاوز عددهم مائة وثلاثين ألفا وكانوا أهل فسق وكفر عبدوا الأصنام من دون الله تعالى، وأرسل الله إليهم رسولا منهم فكذبوه فاستحقوا العذاب على ذلك ، لكنهم تداركوا أمورهم قبل فوات الأوان، فندموا جميعا والندم توبة، وآمنوا جميعا ( ولم يسجل في تاريخ البشرية أن أمة بأكملها آمنت إلا قوم يونس عليه السلام) آمنوا جميعا لم يبق على الكفر منهم أحد، ثم إنهم تابوا والتوبة تجب ما قبلها كما قال النبي صلى الله عليه وسلّم..
{﴿ وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ ﴾﴿ إِذْ أَبَقَ إِلَى ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ ﴾﴿ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ ٱلْمُدْحَضِينَ ﴾﴿ فَٱلْتَقَمَهُ ٱلْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ﴾﴿ فَلَوْلَآ أَنَّهُۥ كَانَ مِنَ ٱلْمُسَبِّحِينَ ﴾ ﴿ لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِۦٓ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ ﴿ فَنَبَذْنَٰهُ بِٱلْعَرَآءِ وَهُوَ سَقِيمٌ ﴾ ﴿ وَأَنۢبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ ﴾﴿ وَأَرْسَلْنَٰهُ إِلَىٰ مِا۟ئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ﴾ ﴿ فَـَٔامَنُوا۟ فَمَتَّعْنَٰهُمْ إِلَىٰ حِينٍ ﴾}
قرية نينوى: من القرى التي تحدث القرآن الكريم عن أهلها، وأنها بقيت محفوظة ببركة إيمان أهلها، ورفع عنها العذاب بسبب رجوع أهلها إلى الله تعالى وبسبب توبتهم..
قرية نينوى: بقيت سخاء رخاء بسبب خشية أهلها لله رب العالمين.
لماذا؟
لأن الله تعالى قال {﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰٓ ءَامَنُوا۟ وَٱتَّقَوْا۟ ﴾} هذا ما نؤكد عليه دائما ف(الكرة بملعبنا) و ( أمرنا بأيدينا)
{ ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰٓ ءَامَنُوا۟ وَٱتَّقَوْا۟ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَٰتٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا۟ فَأَخَذْنَٰهُم بِمَا كَانُوا۟ يَكْسِبُونَ ﴾ }
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يصلح أحوالنا وأن يحسن عاقبتنا في الأمور كلها إنه ولي ذلك والقادر عليه.
الخطبة الثانية
بقى لنا في ختام الحديث أن نقول:
ليس من الحكمة تأخير البيان عن وقت الحاجة، وإن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلّم فقال {﴿ وَذَكِّرْ فَإِنَّ ٱلذِّكْرَىٰ تَنفَعُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ }
ومن هنا كان لزاما علينا أن نذكر الناس أننا هذه الأيام نعيش الأيام الأولى من شهر رجب..
وشهر رجب: هو أحد الأشهر الحرم، التي عظمها الله تعالى وجعلها أيام أمن وأمان وسلم وسلام..
شهر رجب: هو أحد الأشهر الحرم التي جعل الله تعالى منها ميدانا للعمل الصالح ففي بعض الأشهر الحرم حج البيت الحرام، وفي بعضها العمرة وزيارة مسجد النبي محمد صلى الله عليه وسلّم..
شهر رجب: هو أحد الأشهر الحرم التي حذر الله تعالى فيها من شؤم المعصية، وإن السيئة وإن لم تكن مضاعفة اليوم ولا في أي وقت ، إلا أن السيئة إذا وقعت من العبد في الأشهر الحرم كانت أشد حرمة، وكانت أبشع وأقبح، وقد يعجل الله بعقاب صاحبها..
قال الله تعالى {﴿ إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِى كِتَٰبِ ٱللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا۟ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ۚ ﴾}
ودائما أقول: إن لم تستطع أن تقول كلمة طيبة فلا تقل كلمة خبيثة، وإن لم تستطع أن تفعل خيرا فلا تفعل شرا، وإن لن تستطع أن تنفع غيرك فلا تؤذي غيرك، وإن عجزت نفسك عن عمل الصالحات فلا تعمل المنكرات..
فلا تشاحنوا في مثل هذه الأيام، ولا تقاتلوا، ولا تقاطعوا، ولا تخاصموا، ولا تلمزوا أنفسكم، ولا تنابزوا بالألقاب، ولا تجسسوا، ولا يغتب بعضهم بعضا، لا رفث في هذه الأيام، ولا فسوق، ولا جدال.. فإن هذه الآثام وإن كانت حراما في كل وقت، إلا أنها في الأشهر الحرم أشد حرمة، وقد يعجل الله تعالى صاحب المعصية بالعقوبة إذا كانت المعصية أشد قبحا ..
من هنا أذكركم وأدعوكم إلى ما دعاكم إليه الحسيب الرقيب سبحانه وتعالى في قوله { ﴿ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا۟ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ۚ ﴾}
نسأل الله بأسماءه الحسنى وصفاته العلى أن يرحم ضعفنا، وأن يجبر كسرنا، وأن يبارك أرزاقنا، وأن بحسن أخلاقنا إنه ولي ذلك والقادر عليه... اللهم آمين.
محمد سيد حسين عبد الواحد
إمام وخطيب ومدرس أول.
- التصنيف: