تعظيم الأشهر الحرم

منذ 2023-02-01

علامة الإيمان وصدق اليقين تعظيم العبد ما عظَّم الرحمن من الأشخاص والأماكن والأزمان، فبتعظيم ما عظَّم الرحمن تظهر شعائر الدين، وبالتسليم لشرع ربِّ العالمين تحصل السلامة يوم الدين.

الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلم على نبينا محمد.

علامة الإيمان وصدق اليقين تعظيم العبد ما عظَّم الرحمن من الأشخاص والأماكن والأزمان، فبتعظيم ما عظَّم الرحمن تظهر شعائر الدين، وبالتسليم لشرع ربِّ العالمين تحصل السلامة يوم الدين.

 

قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، وتظهر في الناس السنة، فإذا ظهرت شعائر الدين وانتشرت، اختفت البدعة، وخنست الفتنة.

 

والشعائر: هي أعلام الدين الظاهرة، وتُطْلَق على الزمان، ومنه الأشهر الحُرُم، وتُطلَق على المكان، ومنه المساجد الثلاثة والمشعر الحرام، وتُطلَق على الذوات؛ كالهَدْي والقلائد، قال تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [الحج: 36].

 

والعجيب ولا عجب أن أركان الإسلام فيها من الشعائر الظاهرة ما يمنع تحريفها أو تبديلها، فالشهادتان مُعْلنتان في كل أذان وإقامة، والصلاة يجتمع لأدائها أفراد الأُمَّة، فمن أصبح يغدو إلى المسجد فكأنما يرفع أعلام الإيمان، ويظهر شعائر الإسلام، ورسولنا عليه الصلاة والسلام يقول: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان»، وفي الصلاة الليلية يجهر بالقرآن، وهذا من أسباب حفظ القرآن، يقول الأوزاعي: "كتب عمر رضي الله عنه إلى عُمَّاله: اجتنبوا الأشغال عند حضرة الصلاة، فمن أضاعها فهو لما سواها من شعائر الإسلام أشد تضييعًا"، وفي صدقة الفطر تجد الزكاة مُعْلنةً فيُشترى الطعام ويُكال ويُنقل ويُوزَّع، والصيام مُعْلَن برؤية الهلال ومثل ذلك الأعياد.

 

عباد الله، إن الله تعالى تكفَّل بحفظ الإسلام من التبديل والتحريف، وجعل من الأسباب الشرعية لذلك هذه الشعائر الظاهرة التي توارثتها الأُمَّة عمليًّا من عهد رسولنا صلى الله عليه وسلم إلى يومنا.

 

فهي شعائر مُعْلنة منها اليومي المتكرِّر؛ كالأذان والصلاة، ومنها الأسبوعي؛ كصلاة الجُمُعة، ومنها الحولي؛ كالصيام وصدقة الفطر والعيدين والحج، ومن أهمية شعائر الإسلام وظهورها أن الإنسان يُحكَم عليه بها، مَنْ أظْهَرَها حُكِم بإسلامه، والله يتولَّى سريرته كما عند البخاري من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: ((مَن صلَّى صلاتنا، واستقبل قِبْلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم الذي له ذِمَّة الله وذِمَّة رسوله)).

 

وفي الجانب الاجتماعي الأسري تجد أن إعلان النكاح وإشهاره هو شعاره كما جاء في الحديث «فصل ما بين الحلال والحرام، الدُّف والصوت في النكاح».

 

يقول ابن القيم رحمه الله: "إن ختان الصبي من أظهر الشعائر التي يُفرَّق فيها بين المسلم والنصراني، واللِّحى شعار الرجال في الإسلام؛ ولذا أُمِروا بإعفائها وإكرامها، كما أن الحجاب هو شعار النساء فأُمِرْن بالتزامه".

 

عباد الله، إن الدين لا يبقى إلا ببقاء شعائره وإظهارها، فليحتسب كل مسلم في إظهار شعائر الدين قربة لله العظيم، ودعوة للدين القويم.

 

عباد الله، ومن الشعائر التي نعيشها هذه الأيام الأشهر الحرم، قال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 36].

 

فهذه الأشهر المُحرَّمة هي ذو القعدة وذو الحجة وشهر الله المحرم ورجب مضر الذي بين جُمادى وشعبان كما صحَّ ذلك الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

والذي ينبغي علينا ونحن نعيش في هذه الأشهر الحُرُم التي عظَّمها الله في كتابه: أن نعظم ما عظم الله في كتابه، فإن تعظيمنا لها عبادة قلبية، ومن أجل العبادات التي نسأل الله قبولها، قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32].

 

والإرشاد الإلهي في هذه الآية {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36]، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: كُلُّ ما نهى الله عنه راجع إلى الظُّلْم، ويقول كذلك: جماع السيئات الظلم، وهذا أصل جامع عظيم، وقيل: معنى الظلم بأنه "وضع الشيء في غير موضعه، ومن ذلك أن يبخس المحسن شيئًا من حسناته، أو يحمل عليه من سيئات غيره".

 

والظلم يا عباد الله ذنبٌ عظيمٌ، وإثمٌ مرتعه وخيم، هو سبب كل شَرٍّ وفسادٍ، فهو منبع الرذائل والموبقات، ومصدر الشرور والآفات، وسبب في هلاك المجتمعات.

 

ولقد نفى الله عن نفسه الظلم، قال تعالى: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49]، وقد حرَّمه سبحانه على نفسه كما في الحديث القدسي: «يا عبادي، إنِّي حرَّمْتُ الظُّلْمَ على نفسي، وجعلتُه بينكم حرامًا فلا تظالموا»؛ رواه مسلم والبُعْد عن الظُّلْم هو سبب في الأمان، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]؛ بل أمر بالعدل حتى مع الأعداء، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8].

 

والظلم أنواع ثلاثة: منها ما لا يغفر؛ وهو أظلم الظلم وأعظم الذنب؛ وهو الشرك بالله، فكيف يساوي مع الله أحدًا وهو الموصوف بصفات الجلال والكمال، سبحانه له الأسماء الحسنى والصفات العلى، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 116].

 

ومن أنواع الظُّلْم الذي لا يتركه الله تعالى: هو ظلم العبد لغيره من الخلق، فهذا لا بُدَّ فيه من أخذ الحق للمظلوم كما قال الله سبحانه في الحديث الإلهي: «وعِزَّتي لأنْصُرنَّك ولو بعد حين».

 

فاتقوا ظلم الناس، فحقوق الناس مبناها على المشاحة والمطالبة؛ كظلم الأولاد بالتفريق بينهم والتمييز في العطية لأحدٍ دون أحد، وإظهار الحب والاحترام لأحدٍ دون أحد، والتقصير، وفي التربية وتضييع المسؤولية، فهذا من أسباب دمار البيوت وامتلائها بالأحقاد والأغلال، ورسولنا عليه الصلاة والسلام يقول: «اتقوا اللهَ واعْدِلُوا بين أولادِكم».

 

ومن الظلم ظُلْم الزوجة أو الزوجات بترك المعاشرة بالمعروف وترك الإحسان، وحُسْن الكلام وإظهار الاحترام.

 

والنفقة المستحقة والله جل وعلا يقول: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].

 

ومن الظُّلْم ظُلْم الخدم والعمال؛ وذلك بتكليفهم ما لا يطيقون، وعدم إعطائهم ما يستحقُّون، ورسولنا عليه السلام يقول: «أعْطُوا الأجيرَ حقَّه قبل أن يجِفَّ عَرَقُه»، وكذا العُمَّال والخَدَم كم ظلموا وجحدوا وكذبوا وخانوا فليتقوا الله.

 

عباد الله، إيَّاكم ثم إيَّاكم أن تتصدَّقوا بأعمالكم وحسناتكم، حافظوا عليها محافظتكم على أموالكم وأنفسكم، فاحفظ لسانك عن ظُلْم الناس وغيبتهم والكلام في أعراضهم وبخس حقوقهم، وتذكَّر على الدوام أنه {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18].

 

ألا فلنتدارك أمرنا قبل الفوات، ولنستعد قبل الممات، فما هي إلا سويعات ثم يبعث مَن في القبور، ويُحصَّل ما في الصدور، وعند الله تعالى تجتمع الخصوم، فيُقتصُّ للظالم من المظلوم، فتحلَّلُوا من المظالم قبل ألَّا يكون درهم ولا دينار، واعملوا بوصية نبيِّكم.

 

فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كانت له مظلمةٌ لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلَّلْه من اليوم قبل ألَّا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإنْ لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه، فحمل عليه»؛ (رواه البخاري).

 

قال تعالى: {إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} [النبأ: 40].

__________________________________________
الكاتب: الشيخ إسماعيل بن عبدالرحمن الرسيني