ذَبْحٌ بلا سِكّين

منذ 2023-03-08

فعند القهر يشعر المقهور بألم نفسيٍّ قاتل يصاحبه انكسار القلب، وقد ظهرت دراسات حديثة تؤكد وجود مرض يسمى "متلازمة القلب المنكسر"

محمد ونيس

مصر

أطفالٌ يبكون جوعًا، وبيت خالٍ من طعام، ورجل لا يملك من حطام الدنيا سوى ثلاث جنيهات، خرج الرجل من بيته هائمًا على وجهه؛ هربًا من هذا البكاء؛ فبكاؤهم يفتت الأكباد، ويقطع نياط القلوب، اصطحب ابنته الصغيرة في يده، يسير في طريقه لا يدري بما حوله ولا بمن حوله، ولا كم من المسافة قطع، ولا إلى أين يتجه؟

كل ما يشغله صورة أبنائه وهم يبكون، تلك الصورة التي لا تفارقه، وقد حان موعد العشاء، فماذا يصنع مع هذه الأفواه الجائعة؟ وماذا تصنع ثلاث جنيهات مع جوع قاتل؟ وهل يريق ماء وجهه كي يستعطف أحدًا؟ وهل يجد قلبًا رحيمًا يطعمهم؟

كل هذا يجول في خاطره!

امتلأ قلبه همًّا وغمًّا، وضاق صدره من قسوة الحياة، وبينما هو غارق في تفكيره إذ به يسْتفيق على صوت بائع أمامه، فقال في نفسه: لعل الرحمة هنا عند البائع.

استجمع شجاعته وأقبل عليه، فقال للبائع: بكم تبيع كيلو البطاطس؟

قال البائع: بسبع جنيهات.

الرجل: هل أستطيع شراء نصف كيلو بثلاث جنيهات ليس معي غيرها.

انتفخت أوداج البائع ونظر إليه باحتقار، ثم قال له: أيها المتسول، اغرب عن وجهي فأنا لا أبيع أمثالك، أهْون عليَّ إلقاء البطاطس في القُمامة ولا أعطيها لأمثالك.

نزلت الكلمات طعنات في قلب الرجل، فقد ذُبِح من الوريد إلى الوريد، ورأى الرحمة تُذبح أمام عينيه، ذُبحت الرحمة بأبْخسِ الأثمان، لقد ذُبحت بنصف جنيه.

فسقطت الهموم على قلبه كالجبال؛ فقد خاب ظنه في البائع، وبذل الرجل ماء وجهه بلا ثمن، وأهانه البائع بلا عِوَضٍ.

شعر الرجل بالذل والهوان، والدونية والاحتقار، أظلمت الدنيا في وجهه، وتملَّكه اليأس والإحباط، فشعر بالعجز والضعف، عجز عن وجبة عشاء لأطفاله، فظهر القهر على صفحات وجهه.

رأت الصغيرة القهر في عيني أبيها؛ فأمسكت بيده وقالت: هيا يا أبي، لا نريد عشاء اليوم!

لله درُّكِ من فتاة! أأنتِ عزة النفس أم عزة النفس أنتِ؟

نظر الرجل إلى ابنته بعين القهر ثم انصرف.

لم يبتعد الرجل عن البائع سوى خطوات حتى سقط على الأرض، وقد خرجت الدماء من فمه وأنفه، وانقطعت أنفاسه، ألْقتِ الصغيرة بنفسها على أبيها وهي تصرخ وتبكي، أسرع الناس إلى الرجل وأحاطوا به، ثم أحضروا الطبيب لفحصه، فقال الطبيب: لقد مات الرجل.

قال أحد الحاضرين: وما سبب وفاته؟

الطبيب: تعرض الرجل لضغط عصبي شديد، أدى إلى انفجار الشرايين.

أيها البائع ...

إن الرجل ما أتى إليك إلا محتاجًا، إن ماء وجهه أغلى من ماء الذهب وقد بذله متألمًا؛ ليسد جوع أولاده، ما طلب الرجل كثير مال حتى تنْهره، لم يطلب سوى نصف جنيه، ألمْ يشفع له عندك ذل المسألة؟ ألم يرق قلبك لملابسه الرثة أو ابنته الصغيرة؟ إما أنْ تعطيَه أو تردَّه ردًّا جميلًا؛ ﴿  {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ}  ﴾ [الضحى: 10]، قال تعالى: ﴿ { وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}  ﴾ [البقرة: 83].

كان يكفيك كلمة طيبة تجبر بها خاطره، فالقلب الذي لا تستطيع أنْ تجبره لا تكسره، إن قلوبنا كالزجاج تعكس مشاعرنا على صفحات وجوهنا، وتجرحها الكلمات القاسية، فإذا جُرحت انكسرت، وإذا انكسرت يصعب جبرها.

واحرصْ على حفظ القلوب من الأذى 

فرجوعها بعد التنافر يصعبُ 

إن القلوب إذا تنافر ودُّها 

شبه الزجاجة كسرها لا يشعبُ 

فاحذر من لسانك، تطعن به قلب غيرك، فكم من كلمة جرحت قلوبًا! وكم من كلمة قتلت نفوسًا!

إن الكلمة الجارحة تُدمي القلب، وتنغص العيش، ويضيق بها الصدر، وربما لم يندمل جرحها.

جراحات السنان لها التئام 

ولا يلتام ما جرح اللسانُ 

مات الرجل، لكنه مات قهرًا عندما وجد نفسه عاجزًا عن توفير وجبة عشاء لأولاده.

مات الرجل عندما لم يجد الرحمة.

مات الرجل عندما استعطف أخاه الإنسان؛ فكسر بخاطره وأذله.

مات الرجل عندما قرعت أذنه كلمات قاسية، تشق بقسوتها قلوب الجبال.

مات الرجل قهرًا بطعنات كلمات البائع الجارحة وسُمِّ لسانه.

فلماذا نتعامل مع الإنسان كأنه جماد؟

هل طغت المادة على مشاعرنا فتبلد الإحساس؟

لماذا نستهين بقهر الرجال؟

فما أقسى قهر الرجال! لا يطفئ لهيبه إلا الموت، عندما تجد الرجل يسلم روحه لملك الموت مختارًا طائعًا، فاعلم حينها أن الرجل قد حمل ما تنوء بحمله الجبال.

لا شيء يقهر الإنسان أكثر من أن يقهر في لقمة عيشه، أو قوت عياله، أو الكسوة التي تستر عورتهم، أو السقف الذي يحميهم من حر الصيف وبرد الشتاء، حينها يشعر بالعجز، وأن الحياة أصبحت ليس لها طعم ولا بها أمل.

يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: (( «كنت أخدم رسول صلى الله عليه وسلم ... فكنت أسمعه كثيرًا يقول: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحَزَنِ، والعجز والكسل، والبخل والجبن، وضلع الدين، وغلبة الرجال» ))؛ [صحيح البخاري].

وعلَّم النبي صلى الله عليه وسلم أبا سعيد الخدري أن يتعوذ بالله ويقول: ((... «وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال» ))؛ [صحيح، الجامع الصغير].

يقول أحدهم: أنا طالب بإحدى الجامعات، وبينما أنا جالس أشاهد الطلاب يتحركون في ساحات الجامعة هنا وهناك، وقع نظري على بعض الطلاب يسبون ويشتمون شابًّا فقيرًا بأبشع الكلمات التي لا توصف من شدتها، يقذفون حرماته، ويعايرونه بفقره، ويحترمون الذي يشتمه ويعايره، رأيت الشاب ينظر إلى السماء؛ ليخفي دمعاته المتساقطة؛ حتى لا يراها الحاضرون فيزيدهم ذلك سخرية على سخرية، واحتقارًا على احتقار.

ماذا يظن هؤلاء الحمقى؟

هل يظن أحدهم أنه بعيد عن الفقر؟

هل اتخذ أحدهم عهدًا عند الله أن يظل غنيًّا؟

هل يدري أحدهم ماذا صنعت كلماته بقلب هذا الشاب المسكين؟

لماذا نجعل ألسنتنا تنفث سمًّا ولا تقطر عسلًا؟

إن ذبح المشاعر وطعن القلوب ذبح بلا سكين، وقتل بلا دماء، وقهر بلا جيوش.

فعند القهر يشعر المقهور بألم نفسيٍّ قاتل يصاحبه انكسار القلب، وقد ظهرت دراسات حديثة تؤكد وجود مرض يسمى "متلازمة القلب المنكسر"، سببه تعرض الشخص لضغوط نفسية شديدة تؤدي أحيانًا إلى تكون جلطات دموية في القلب؛ بسبب ضعف العضلة القلبية، وأحيانًا تسبب الوفاة.

فإياكم وكسر القلوب، ولا تذبحوا إخوانكم بلا سكين.