شهر رمضان بين الرابحين والمغبونين
لا شك أن بلوغ شهر رمضان نعمة كبرى لا يقدّرها حق قدرها إلا المحبون لربهم المشتاقون إلى رضاه، وإن مَن أحسن استشعار هذه النعمة بادر باغتنامها؛ فإنها إن فاتت كانت حسرةً ما بعدها حسرة...
لا شك أن بلوغ شهر رمضان نعمة كبرى لا يقدّرها حق قدرها إلا المحبون لربهم المشتاقون إلى رضاه، وإن مَن أحسن استشعار هذه النعمة بادر باغتنامها؛ فإنها إن فاتت كانت حسرةً ما بعدها حسرة، وأي خسارة أعظم من أن يدخل المرء فيمن عناهم المصطفى بحديثه على منبره في مسألة بينه وبين جبريل الأمين: «من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له، فدخل النار فأبعده الله قل: آمين، فقلت: آمين»[1]، فمن حُرم المغفرة في شهر المغفرة فماذا يرتجي؟! ومن أضاع موسم الخيرات فمتى يسابق وينافس في أعمال البر؟!
إن استشعار هذه النعمة وشكر الله عليها، هو مفتاح القبول؛ فعَنْ عَطِيَّةَ بْنِ بُسْرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَيُّمَا عَبْدٍ جَاءَتْهُ مَوْعِظَةٌ مِنَ اللَّهِ فِي دِينِهِ؛ فَإِنَّهَا نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ سِيقَتْ إِلَيْهِ، فَإِنْ قَبِلَهَا بِشُكْرٍ، وَإِلا كَانَتْ حُجَّةً مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِ لِيَزْدَادَ بِهَا إِثْمًا وَيَزْدَادَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا سَخَطًا»[2]. وإن من نعم الله تعالى على عباده إدراك نفحات هذا الشهر ورحماته، فإذا تقبل العبد هذه النعمة بالشكر واغتنم الشهر في الصالحات، فاز برضا رب الأرض والسموات. ولِمَ لا ورمضان منحة عظيمة تضاعف فيه الحسنات، وتعظم فيه السيئات، وتفتح فيه أبواب الجنات، وتقبل فيه التوبة إلى الله من ذوي الآثام والسيئات.
تأتي أيام رمضان ليفتح الله برحمته أبواب الأجر والخير على عباده، وتكثر فيه سُبل اكتساب الحسنات، مع ما اختص الله به هذا الشهر العظيم من مضاعفة أجور الأعمال الصالحة، فضلًا من الله - عز وجل - وكرمًا منه على عباده، فينادي منادٍ في أول ليلة من رمضان فيقول: «يا باغي الخير! أقبل، ويا باغي الشر! أقصر»[3].
وبرغم ما في هذا الشهر المبارك من أعمال صالحات، ورغبة الصالحين في الإكثار من العبادات والدعاء، والتوسع في المعروف والبذل، وتفريج الكربات، إلا أن بعض الناس أرخص لياليه بمتابعة الفضائيات، والسهر في غير طائل، والنوم غالب النهار، فإذا انقضى شهر الصيام خرج بحصيد الهشيم، فلا لمال فيه جمع، ولا للآخرة ارتفع، فيربح الناس وهو الخاسر.
وإن الذي يطالع بلاد المسلمين وكيفية استقبالها لشهر رمضان في هذه الأيام، يجد بونًا شاسعًا بين ما نفعله في زماننا من مظاهر استقبال شهر رمضان، وما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، فالسلف رحمهم الله كانوا يدعون الله تعالى ستة أشهر حتى يبلغهم رمضان، فإذا بلغوه اجتهدوا في العبادة فيه، ودعوا الله سبحانه ستة أشهر أخرى أن يتقبله منهم.
أما أصحاب الفضائيات والإذاعات في زماننا، فإن معظمهم يستعد لرمضان قبل مجيئه بستة بحشد أشهر الممثلين وإنتاج أضخم المسلسلات والأفلام للعرض على المسلمين في أيام وليالي رمضان!!
وقبل دخول شهر رمضان بأيام.. إذا ذهبت إلى الأسواق والمتاجر والجمعيات ستجد الناس يجمعون أصنافًا وألوانًا من الطعام والشراب بكميات كبيرة، وكأنهم مقبلون على حرب ومجاعة وليس على شهر التقوى والصيام!!
وإن السعيد حقًّا من اغتنم مواسم الشهور، والأيام، والساعات وتقرب فيها إلى مولاه بما فيها من وظائف الطاعات، فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات فيسعد بها سعادة من يأمن بعدها من النار وما فيها من اللفحات، وينجو من الغفلة المهلكة فإن الغفلة ضيعت عمر كثير من الناس واستهلكت لياليهم وأيامهم، وحين ينزل الموت بساحة أحدهم يستذكر ما فرط فيه، ولات ساعة مندم.
من صور الغبن والخسارة في شهر رمضان:
من أراد الله به خيرًا حبَّب إليه الإيمان وزيّنه في قلبه، وكرَّه إليه الكفر والفسوق والعصيان فصار من الراشدين، ومن أراد به شرًّا خلَّى بينه وبين نفسه، فأتبعه الشيطان فحبَّب إليه الكفر والفسوق والعصيان فكان من الغاوين. ولذا يجب الحذر من المعاصي، فكم سلبت من نعم! وكم جلبت من نقم! وكم خرّبت من دِيَار! وكم أخلت دَيَّارًا من أهلها فما بقي منهم من أحد! كم أخذت من العصاة بالثأر! كم محت لهم من آثار!
وهناك أمور كثيرة إذا اجتمعت على العبد أفسدت عليه شهر رمضان وخرج منه خاسرًا لأفضل ما فيه، ومن هذه الأمور:
أولًا: الغفلة عن النية وعدم احتساب الأجر:
كثير من الناس إذا اعتاد سماع النصوص الشرعية المتعلقة برمضان وبغيره من المواسم الشرعية أغلق مسامعه، ولم يعد يتدبر في هذه النصوص، فضلًا عن أن يستنبط من الآيات والأحاديث المعاني التي فيها، فإذا سمع - مثلًا - الوعاظ والعلماء في رمضان يذكرون حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»[4]، اكتفى بسماعه الأول ولم يعد يتدبر في معانيه، ويغفل عن الإيمان والاحتساب في هذا الشهر الفضيل.
اعلم يا عبد الله أنك ما تركت الطعام والشراب، وابتعدت عن المعاصي والشهوات إلا لله وحده؛ طلبًا لرضاه، واستجابة لأمره، فلا يهمنّك أحد من الناس، علم أو لم يعلم، فصومك لله وخوفك لله، ولهذه المعاني الجميلة قال الله في الحديث القدسي: «... إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي»[5]، إذًا فالصيام عبادة خفية بينك وبين الله لا يعلم بها إلا الله، فقد تشرب وتأكل لا يعلم بك أحد من الناس، ولكن {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 85] ، فمن صام بهذه المعاني وجد حلاوة الصيام، وشعر بلذة رمضان، فأقدم على الأعمال الصالحة أيما إقدام.
ثانيًا: إهمال الصلوات الخمس، وتأخيرها عن وقتها، وأداؤها بكسل وخمول:
وهذا من أعظم أسباب خسارة رمضان، فمن لم يحرص على الفرائض ولم يقم بالواجبات، فكيف تُرجى منه النوافل؟! بل كيف يرجى منه استغلال رمضان؟! ربما صلى الرجل في آخر الوقت الصلاة ينقرها نقر الغراب، فكيف لمن كان هذا حاله أن يستغل رمضان في طاعة الله والفوز فيه؟! بل هذا يخشى على صيامه ألا يقبل، والعياذ بالله.
ثالثًا: السهر في غير طاعة:
وهو من أعظم أسباب خسارة رمضان، وكيف يرجى لمن سهر طوال الليل في غير طاعة أن يفوز برمضان؟! فتجد أكثر الناس يجلسون طوال الليل مع الأقارب أو مع الأصحاب وتذهب الساعات بالقيل والقال، ولعب الورق، وتتبع القنوات الفضائية، وربما جلسوا حتى وقت السحر لم يقرؤوا حرفًا من كتاب الله، أليست خسارة أن تضيع هذه الساعات الطوال من رمضان في كل ليلة بمثل هذا؟!
رابعًا: كثرة الأكل والشرب عند الإفطار والسحور:
فكثرة الأكل والشرب والإفراط في ذلك - فضلًا عن أنه يقسّي القلب - يصيب الإنسان بالخمول والتخمة، فيرغب في النوم، فلا يتلذذ بصلاة ولا يتدبر القرآن، ولا يستطيع القيام؛ وهذا فيه من الخسارة ما الله به عليم؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ»[6]. فإذا أراد العبد أن يصح جسمه ويقل نومه فليقلل من الأكل؛ فإن مما يترتب على كثرة الأكل والسهر: كثرة النوم والخمول والكسل. ولو نام العبد في الليل ساعات لجلس بعد صلاة الفجر يذكر الله، ويقرأ القرآن، وأصبح طوال نهاره طيب النفس نشيطًا.
المعينات على الربح في شهر رمضان:
إذا عرف العبد قدر نعمة الله عليه، وقدرها حق قدرها، ربح. والعكس بالعكس ولا يظلم ربك أحدًا. وإن من المعينات على الربح في شهر رمضان أمور كثيرة، منها ما يلي:
1- تعظيم شعائر الله:
لا شك أن شهر رمضان وصيامه وقيامه من شعائر الله تعالى، وإن رضا المسلم عن ربه تبارك وتعالى، ورضاه بما اختاره له وفرضه عليه، وتعظيم ما عظمه الله وإقامة حدوده؛ هو من تعظيم الله وتعظيم حرمات الله، قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} [الحج: 30]، وقال تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32].
وإن من تعظيم الله تعالى في شعيرة رمضان تعظيم حرمات الشهر، ولزوم ما أمر الله بأدائه، واجتناب نواهيه ومحرماته، فإذا كانت الطاعة فيه عظيمة فالمعصية أيضًا خطيرة، قال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِـمُونَ} [البقرة: 229].
وإن تعظيم حرمات الله تعالى واحترام أوامره وامتثالها، ومعرفة نواهيه واجتنابها، لهو طريق إلى الفلاح، وسبيل للنجاح، ودليل على الإيمان، وبرهان على الإحسان، وسبب للغفران.
2- تلمح الأجر والبصر بالعواقب:
إذا تلمح العبد الأجر فيما يعمل وتبصر بعواقب عمله، دفعه ذلك دفعًا إلى اتباع مراضي الله تبارك وتعالى وعدم التفريط في طاعته. وتدبر معي هذا الحديث الجليل عَنْ أَبِي صَالِحٍ الزَّيَّاتِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قَالَ اللَّهُ: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ، إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ. وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ. لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا؛ إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ»[7].
وهذا الحديث يدعونا في مواضع منه إلى تملح الأجر وبيان عاقبة العمل الصالح، فتخيل قوله تعالى: «إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به»، وكذا تخيل فرحة الصائم، يفرح عند فطره بأمرين، باستكمال صوم اليوم الذي منّ الله عليه بصيامه، وقواه عليه، ويتناول ما أحل الله له من طعام وشراب، ويفرح عند لقاء ربه بما يجده عند ربه مدخرًا له من أجر الصيام.
3- اتخاذ القدوة الحسنة:
إن اتخاذ المسلم لمن سبقوه من الصالحين قدوة حسنة له، لهو من طرق النجاة وسبل الفوز في الآخرة؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة. ولذلك أن يلجأ العبد في رمضان إلى سير السلف يقوي عزيمته ويعلي همته، فيطالع سِيَرهم، وينظر في أحوالهم؛ كل هذا يدفعه إلى مزاحمة الصالحين، ومتابعة السلف الصالح الذين كانت لهم في رمضان أحوال خاصة مع شهر الصيام، إذ كانوا ينتظرون رمضان بشوق وحنين متخذينه شهر مضمار وسباق إلى الله تعالى، فإذا دخل رمضان كانوا قليلًا من الليل ما يهجون وبالأسحار هم يستغفرون، يبيتون لربهم سجدًا وقيامًا، فيصبحون شعثًا غبرًا صفرًا، ولكنهم فازوا بالنعيم وزيادة.
لقد كان السلف يهتمون برمضان اهتمامًا بالغًا، إذ هو شهر الفضائل والمنازل، ويحرصون على استغلاله في عمل الطاعات والقربات، وقبل أن نشير إلى حال السلف مع رمضان نشير إلى حال قدوة السلف، بل إلى قدوة الناس أجمعين، محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم في رمضان، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: «كان من هديه صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان: الإكثار من أنواع العبادات، فكان جبريل - عليه الصلاة والسلام - يدارسه القرآن في رمضان، وكان إذا لقيه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة، وكان أجـود الناس، وأجود ما يكون في رمضان، يكثر فيـه الصدقة، والإحسان، وتلاوة القرآن، والصلاة، والذكر، والاعتكاف. وكان يخص رمضان من العبادة ما لا يخص غيره به من الشهور حتى إنه كان ليواصل فيه أحيانًا ليوفر ساعات ليله ونهاره على العبادة»[8].
وقد كان السلف سباقين إلى الخير، تائبين إلى الله من الخطايا في كل حين. فما من مجال من مجالات البر إلا ولهم فيه اليد الطولى، وخاصة في مواسم الخيرات، ومضاعفة الحسنات. لذلك نجد أن حال السلف مع القرآن في رمضان حال المستنفر نفسه لارتقاء المعالي، فهذا الإمام البخاري رحمه الله كان إذا كان أول ليلة من شهر رمضان يجتمع إليه أصحابه فيصلي بهم ويقرأ في كل ركعة عشرين آية، وكذلك إلى أن يختم القرآن. وكان يقرأ في السحر ما بين النصف إلى الثلث من القرآن، فيختم عند الإفطار كل ليلة ويقول: عند كل ختم دعوة مستجابة[9].
وروي عن الشافعي أنه كان يختم في رمضان ستين ختمة سوى ما يقرأ في الصلاة، قال الربيع: «كان الشافعي يختم كل شهر ثلاثين ختمة، وفي رمضان ستين ختمة سوى ما يقرأ في الصلاة»[10].
وقد يتبادر إلى ذهن أحدنا إشكال فيقول قد جاء النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذم من يقرأ القرآن في أقل من ثلاث، فكيف هؤلاء العلماء يخالفون ذلك؟ يقول ابن رجب رحمه الله: «إنما ورد النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث على المداومة على ذلك، فأما في الأوقات المفضلة كشهر رمضان خصوصًا الليالي التي يطلب فيها ليلة القدر، أو في الأماكن المفضلة كمكة لمن دخلها من غير أهلها فيستحب الإكثار فيها من تلاوة القرآن اغتنامًا للزمان والمكان، وهو قول أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة، وعليه يدل عمل غيرهم»[11]. يعني من السلف الذين كانوا يقرؤون القرآن في أقل من ثلاث ليال وذلك في رمضان وخاصة في العشر الأواخر.
وأما حال السلف في رمضان مع الصلاة وقيام رمضان فقد ذكر الحافظ الذهبي عن أبي محمد اللبان أنه «أدرك رمضان سنة سبع وعشرين وأربعمائة ببغداد فصلّى بالناس التراويح في جميع الشهر فكان إذا فرغها لا يزال يصلي في المسجد إلى الفجر، فإذا صلى درّس أصحابه. وكان يقول: لم أضع جنبي للنوم في هذا الشهر ليلًا ولا نهارًا. وكان ورده لنفسه سبعًا مرتلًا»[12].
وقد كان للسلف في كل باب من أبواب القربات أوفر الحظ، فلا بد أن نذكر أنفسنا بشيء من حياتهم، حتى يزداد إيماننا، وتقوى صلتنا بخالقنا، وحتى تقوى عزائمنا، وتشحذ هممنا، فنقتدي بهم.. نرجو من الله ذلك.
وخلاصة رمضان السلف: الإمساك عن تعاطي جميع المفطرات الحسية والمعنوية، وفعل ما يرضي الله، يحتسبون نومتهم كما يحتسبون قومتهم، يتنافسون في الطاعات والقربات، ويفرون من مقاربة المعاصي والسيئات، يحفظون صيامهم من جميع المفطرات، يعملون بكتاب الله وسنة رسوله، ويوصي بعضهم بعضًا بأن لا يكون يوم صوم أحدهم كيوم فطره؛ فعن جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - قال: «إذا صمت فليصم سمعك وبصرك، ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء».
إذا لم يكن في السمـع مني تصــــاون ** وفي بصري غض وفي منطقي صمت
فحظي إذًا من صومي الجوع والظمأ ** فإن قلت إني صمت يومي ما صمت[13]
4- الحذر من اللصوص:
يكثر اللصوص في رمضان، لصوص الطاعة، ممن يريدون للمؤمن الخسارة، فتكثر متابعة الشاشات، والإعداد الخلاب للأفلام والمسلسلات، وبرامج المسابقات، وهناك السهرات الرمضانية، وخيام الإفطار والسحور، وغير ذلك الكثير من مفسدات الشهر ولصوصه، ولذا يجب الحذر من هؤلاء اللصوص والالتجاء لله تبارك وتعالى أن يأخذ بيد العبد للهداية ويوفقه للطاعة ويحميه من المفسدين.
إن كثيرًا من المسلمين في هذا الزمان لم يفهموا حقيقة الصيام، وظنوا أن المقصود منه هو الإمساك عن الطعام والشراب والنكاح فقط! أمسكوا عما أحل الله لهم، لكنهم أفطروا على ما حرم الله عليهم! فأي معنى لصيام هذا الذي يقول عند أذان المغرب: «ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله».. ثم يشعل سيجارته؟!
وأي تقوى لهذا الذي يجمع الحسنات في النهار، من صيام وصلاة وصدقة وقراءة للقرآن...، ثم في الليل يعكف على القنوات الفضائية، أو الشبكات العنكبوتية، أو أن يكون زبونًا في الملاهي الليلية، والتجمعات الغوغائية، والخيام - المسماة زورًا - بالرمضانية؟! وإذا دعي إلى صلاة التراويح والقيام، تعلل بالحمى والأسقام، والبرد والزكام، وغواية اللئام! فالحذر الحذر عباد الله.
5- تذكر الأحبة الراحلين:
إذا كان إدراك رمضان من أجلِّ النِّعَم؛ فإن مما يعلي وينمي قيمة هذه النعمة تذكر الأحبة الراحلين الذين ماتوا قبل رمضان، فكم غيّب الموت من صاحب، ووارى من حميم ساحب، وكم اكتظت الأسِرَّة بالمرضى الذين تتفطر قلوبهم وأكبادهم، ويبكون دمًا لا دموعًا حتى يصوموا يومًا واحدًا من أيام رمضان، أو يقوموا ليلة واحدة من لياليه، ولكن حيل بينهم وبين ما يشتهون!
وإن طول العمر والبقاء على قيد الحياة فرصة للتزود من الطاعات، والتقرب إلى الله - عز وجل - بالعمل الصالح. فرأس مال المسلم هو عمره، لذا احرص على أوقاتك وساعاتك حتى لا تضيع سُدًى، وتذكر مَنْ صَام معك العام الماضي وصلى العيد!! ثم أين هم الآن بعد أن غيبهم الموت؟! وتخيل أنهم خرجوا إلى الدنيا اليوم فماذا يصنعون؟! سيبحثون عن حسنة واحدة، وها هو شهر الخيرات بين يديك فاغتنمه.
6- لعله آخر رمضان:
فاحرص - أخي المسلم - على اغتنام هذا الشهر المبارك، وتذكر حال إخوان لك كانوا بالأمس معك فحضروا رمضان وقاموا وصلوا وصاموا، ثم أتتهم آجالهم فقضوا قبل أن يدركوا رمضان الآخر، فهم الآن في قبورهم مرتهنون بأعمالهم، فتذكر حالهم ومصيرهم وجد في عمل الصالحات، فإنها ستنفعك وأنت أحوج ما تكون إليها، وتذكر حال إخوان لك آخرين أدركوا رمضان وهم على الأسرَّةِ البيضاء لا حول لهم ولا قوة، يتجرعون مرارة المرض، ويزيدهم حسرة وألمًا أنهم لا يستطيعون أن يشاركوا المسلمين هذه العبادة.
وأنت لا تدري هل تعيش للعام المقبل أم يكون هذا هو آخر رمضان، فصم صوم مودع عسى أن نكون من المرحومين.
دقائق الليل غالية:
إن الأيام صحائف الأعمار، والسعيد من يخلدها بأحسن الأعمال، وراحة النفس في قلة الآثام، وقد حثَّ أحد المجددين أتباعه على اغتنام دقائق الليل الغالية، فقال: «دقائق الليل غالية، فلا ترخصوها بالغفلة»[14].
وصدق - رحمه الله - فإن الليل واحة المتقين، يجتمع فيه شتات المهموم، وتصفو النفوس ويتوجه العبد للقاء الحي القيوم، والسَّحَر وقت شريف، يقترب الله جل وعلا من عباده، لعلهم يتوبون أو يناجون ربهم ويُنزلون حاجتهم به ويستغفرونه ويتوبون إليه.
وما أروع ليل رمضان، يتقلب العبَّاد بين أنوار الساعات المباركة في ساعات رمضان، فتهتز قلوبهم من روعة المشهد ولذة الإيمان، فتنساب الدموع.
ومع أن كثيرًا من المسلمين طوال العام يكونون نائمين في هذا الوقت الشريف، إلا أنهم إذا غمرهم رمضان قاموا إلى السحور، فعمروا هذا الوقت بالصالحات فذكروا ربهم، وصلوا ركعتين في جوف الليل، ودعوا ربهم واستغفروه.
أيها المقبل على ربه! ما أحوجك في رمضان إلى توبة صادقة ودمعة صادقة، تغسل عنك أدران الذنوب، تكون عنوان ضراعاتك لمولاك، وبرهان خوف ورجاء ومحبة للرحمن، علها تكون طوق النجاة.
وختامًا، فإن أيام رمضان أيام معدودات، سريعة الانقضاء، وهو موسم يتطلع فيها الصالحون لرحمات الله تبارك وتعالى، وينتظرون فيها فرجه ومدده، وحسن عطائه لمن أطاعه، وصبر على أوامره، وابتعد عن نواهيه، أما الغافل المتبع لهواه غير المتفكر في آلاء الله ونعمه، فيوشك أن يخسر خسارة قد لا تعوض، إلا أن يتوب، فرب رمضان هو رب سائر العام، من جاءه تائبًا نادمًا تقبله وغفر له.
إن هذا الشهر سيرحل كما رحل ما قبله من الشهور، ولكن السؤال: هل تزودنا منه ليوم النشور؟!
أسأل الله أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يتقبل منا صالح الأعمال، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
____________________________________________________________
[1] أخرجه البخاري في الأدب المفرد (644)، وصححه الألباني.
[2] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (6/29، رقم 7410)، وأبو نعيم في الحلية (6/136) عن عطية بن بسر. قال المناوي (3/141): قال الحافظ العراقي: فيه أحمد بن عبيد بن ناصح قال ابن عدي يحدث بمناكير وهو عندي من أهل الصدق.
[3] أخرجه الترمذي (682) وصححه الألباني.
[4] أخرجه البخاري (1901) ومسلم (760).
[5] أخرجه مسلم (1151).
[6] أخرجه الترمذي (2380) وصححه الألباني.
[7] أخرجه البخاري (1904) ومسلم (1151).
[8] انظر: زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم (2/30). الناشر: مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الرابعة عشرة (1407هـ).
[9] انظر: صفة الصفوة لابن الجوزي (4/170). الناشر: دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثانية (1399هـ).
[10] انظر: صفة الصفوة لابن الجوزي (2/255).
[11] انظر: لطائف المعارف للحافظ ابن رجب، ص (183).
[12] انظر: تاريخ الإسلام (1/3145).
[13] انظر: لطائف المعارف، للحافظ ابن رجب، ص(168).
[14] من وصايا الشيخ حسن البنا رحمه الله، انظر: مجلة الدعوة في دورتها القديمة عدد 63.
_________________________________________________________
الكاتب: عبدالعزيز مصطفى الشامي
- التصنيف: