عندما يكون الحاكم لصاً
منذ 2011-09-26
الحاكم سواء كان رئيساً أو ملكاً أو أميراً، إنما يراد لقيادة الدولة والمجتمع وفق هويته وثوابته لتحقيق أهدافه وتطلعاته، ومن ثم فقد أعطيت للحاكم صلاحيات واسعة حتى يتمكن من القيام بمهمته على الوجه الأكمل...
الحاكم سواء كان رئيساً أو ملكاً أو أميراً، إنما يراد لقيادة الدولة والمجتمع وفق هويته وثوابته لتحقيق أهدافه وتطلعاته، ومن ثم فقد أعطيت للحاكم صلاحيات واسعة حتى يتمكن من القيام بمهمته على الوجه الأكمل، وقد روعي وجود صفات نفسية في الحاكم تعينه وتساعده على التغلب على وساوس الانس والجن التي تزيّن له الاستعلاء بالباطل واستخدام صلاحياته لتحقيق ثراء له ولأسرته بغير وجه حق، كالأمانة والعفة والصدق وخشية الله تعالى ومراقبته في السر والعلن، لكن في أحيان كثيرة وخاصة في أزماننا المعاصرة تجري الرياح بما لا تشتهي السفن ويصل إلى سدة الحكم من ليس أهلا لذلك، فلا هو قادر على تحقيق تطلعات المجتمع من خلال خطط سوية مؤدية لتحقيق الهدف، ولا هو يتمتع بصفات نفسيه تعصمه من الانحراف.
قد يجد المتابع التفسير لكون الحاكم متسلطاً يتعامل بكل قسوة مع مخالفيه فيكمم الأفواه ويمنع الحقوق ويصادر الحريات ورغم أن هذا غير مقبول ولا مسوغ له، لكن في الإمكان أن يفسر في ضوء محافظته على كرسيه الذي يريد أن يجلس عليه فلا ينزل عنه إلا إلى المقبرة، لكن ليس في الإمكان أن يجد الإنسان تفسيراً-ولو كان غير مقبول-لكون الحاكم لصاً أو سارقاً، فالقضاء على السرقة واللصوصية داخلة في أهم أعماله الواجبة عليه، فكيف به يكون هو اللص الأول أو السارق الأعظم.
قد تستغرب كثيرا عندما ترى الفقر ضارباً بأطنابه في شعب من الشعوب وترى البؤس على وجوه الناس الكبير والصغير والذكر والأنثى، وترى انعدام أو ضعف الخدمات الأساس كالصحة والتعليم مع الغلاء الفاحش في أسعار السلع الغذائية حتى يسقط بعض الناس قتلى أمام المخابز في سبيل الحصول على بضعة أرغفة من الخبز يقدمها لأطفاله الصغار الذين ينتظرون رجوعه إليهم بالخبز بفارغ الصبر، بينما ترى كل هذا ترى بعض حكام هؤلاء وهم يمتلكون المليارات من الدولارات التي ما امتلكوها إلا بعد وصولهم لكرسي الحكم.
جلست ذات مرة أتأمل في هذا الجشع الذي لا يكاد أن تجد له نظيرا فافترضت لو أن إنساناً أنفق في كل ساعة تمر به ألف دولار وحسبت فوجدت أن الإنسان يحتاج لمائة وعشرين سنة ينفق في كل ساعة تمر به ألف دولار حتى يتمكن من انفاق مليار دولار، فكيف بمن حصل العشرات من المليارات بالسرقة والنهب والجور على حقوق الناس الذين هم أمانة في رقبته،هل سيعيش قرونا حتى يتمكن من إنفاق هذه الثروة،ورحم الله من قال:
وانظر إلى من حوى الدنيا بأجمعها...هل راح منها بغير الحنط والكفن،
وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم حالة الجشع التي تستولي على جنس بني آدم فقال: "لو أن لابن آدم واديا من ذهب أحب أن يكون له واديان، ولن يملأ فاه إلا التراب، ويتوب الله على من تاب".
عندما يكون الحاكم لصاً أو سارقاً تسري هذه الروح الخبيثة في أوصال الدولة كلها فتفسدها وتصبح مجموعة من السرّاق واللصوص فتجد غالبية المسئولين يرتعون في السرقة فكبيرهم الذي يخشونه ويعملون حسابه هو رأسهم في ذلك فلا يخافونه، وكبيرهم لا يقدر على مؤاخذتهم ومحاسبتهم لأنه يعلم أنهم بسرقاته عالمون، فتفسد حينئذ الدولة وتنتشر السرقات على جميع الأصعدة وترفع البركة من كل شيء، ولو نظرنا في التاريخ القديم والحديث وما يجري في أيامنا لتبين لنا أن انقلاب الحاكم من شخص عفيف أمين إلى لص جشع من أسباب الفساد العام وزوال البركة التي تعم البلاد والعباد.
ويصير من المهمات العاجلة أن نتحسب لذلك عبر آلية أو وسيلة منضبطة بحيث نضمن نزاهة الحاكم وعفته وأمانته، وقد كان عمر رضي الله تعالى عنه إذا أراد أن يولي شخصا ولاية أحصى عليه ممتلكاته قبل الولاية وعندما تنتهي ولايته يحصيها مرة أخرى فإن زادت وكانت الزيادة منطقية أمضاها، وإن كانت غير منطقية شاطره الزيادة وأخذ الشطر لبيت مال المسلمين على أساس أن هذه الزيادة غير المنطقية قد جاءته من قبيل مجاملة الناس له ومراعاتهم إياه عند البيع والشراء أو من قبوله بعض الهدايا التي تهدى له بحكم منصبه، وما نستفيده من هذا التدبير العمري روحه لا نصه فإن زيادات بعض الحكام بسبب ما تولوه من الولاية ربما بلغت عشرات المليارات من الدولارات، وهو لو أمسك كل راتبه من غير أن ينفق منه سنتا واحدا لما تجاوز ذلك عشر معشار المليارات التي معه، فلو افترضنا أن حاكماً ما يتقاضى راتبا شهريا قدره مائة ألف دولار لم ينفق منه سنتا واحدا فإن مجموع ما يتقاضاه على مدى ثلاثين عاما لا يزيد عن 36 مليون فأين هذا من عشرات المليارات التي نسمع بها.
كذلك من التدابير التي يصلح العمل بها منع الحاكم أو أقاربه من الدرجة الأولى من التعاملات المالية مع الدولة ومؤسساتها لأن مثل هذه التعاملات قد لا تنجو من المجاملات، وها هنا قصة فقد أخرج مالك في الموطأ وغيره قال: "خرج عبد الله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب في جيش إلى العراق. فلما قفلا مرا على أبي موسى الأشعري. وهو أمير البصرة. فرحّب بهما وسهّل. ثم قال: لو أقدر لكما على أمر أنفعكما فيه، ثم قال: بلى، هاهنا مال من مال الله أريد أن أبعث به إلى أمير المؤمنين، فأسلفكماه، فتبتاعانه متاعاً من متاع العراق. ثم تبيعانه بالمدينة. فتؤديان رأس المال إلى أمير المؤمنين، ويكون لكما الربح. فقالا: وددنا. ففعل. فكتب إلى عمر بن الخطاب، أن يأخذ منهما المال، فلما قدما باعا فأربحا. فلما دفعا ذلك إلى عمر، قال: أكُلَّ الجيش أسلفه مثل ما أسلفكما؟قالا: لا.فقال عمر بن الخطاب: ابنا أمير المؤمنين فأسلفكما (أي أنه أسلفكما مجاملة لكما لأنكما ابنا أمير المؤمنين) أديا المال وربحه، فأما عبد الله فسكتوا أما عبيد الله، فقال: ما ينبغي لك يا أمير المؤمنين هذا، لو نقص المال أو هلك لضمناه. فقال عمر: أدياه فسكت عبد الله. وراجعه عبيد الله. فقال رجل من جلساء عمر: يا أمير المؤمنين، لو جعلته قراضاً.فقال عمر: قد جعلته قراضاً. فأخذ عمر رأس المال ونصف ربحه. وأخذ عبد الله، وعبيد الله، ابنا عمر بن الخطاب نصف ربح المال"، فلم يقبل عمر رضي الله تعالى عنه أن يستفيد ابناه من مال الدولة مراعاة له، لذا لا بد من وضع آلية ونظام محدد لضمان الأمانة وعدم استغلال المنصب وعند وجود مثل هذا النظام سترتفع السرقة وتحل البركة.
المصدر: مجلة البيان
محمد بن شاكر الشريف
باحث وكاتب إسلامي بمجلة البيان الإسلاميةوله عديد من التصانيف الرائعة.
- التصنيف: