مواعظ رمضانية لابن الجوزي (3)

منذ 2023-04-06

تالله لو قيل لأهل القبور: تمنوا لتمنوا يومًا مِنْ رمضان.

1- ويحك، هذا الشهرُ ربيعُ التقى، وقد فاحَ قدَّاحُه[1].

2- واعجبًا، أحوالُكَ تُشبِهُ شهورَ السَّنةِ:

مالُكَ في بابِ الإيثار "المُحرَّم".

وقلبُكَ من الذِّكر "صفر".

وهواك وشهواتُك "ربيعان".

وكفَّاكَ في البَذْل "جُمَادَيان".

وسَمْعُكَ عن المواعظِ "رجب".

وهمُّكَ في شبابهِ "شعبان".

فابنِ في هذا الشهر بالنَّدم ما قد وَهى وانهدم[2].

 

3- أيها الصائم، اعرفْ خطرَك، واغضضْ بصرَك، وسلِّم العبادة خالصًة لمَنْ فطرَك، ولا تترك شيئًا مما ندبَك إليه وأمرَك.

 

4- احفظوا صومكم مِن غِيبةٍ، وصلاتكم عن غَيْبةٍ، واعرِفوا للحق سبحانه الهَيْبةَ، واحذروا أن يكون حظكم الخيبة.

 

5- سبِّحوا في رمضان والتسبيحة بسبعين، واحفظوا جوارحَكم واللهُ المعين، وتسحَّروا بدمعةٍ وحزنٍ وأنين، وصلوا ركعتين تنالوا بها الحورَ العين، كونوا مع الله؛ فإلى كم مع الشيطان اللعين؟

 

6- هذا رمضان زمنُ القرآن، هذا رمضان مفتحُ الأذهان، أفيكم مَنْ تأثيرُ صومهِ قد بان؟

 

7- فيه تشرقُ المصابيح، فيه تحلو التراويح، فيه يُهجَرُ الفعلُ القبيح، يهبُّ نسيمُ القبول؛ فهل تجدون الريح؟

 

8- أطيلوا في هذا الشهر القيام، وحضُّوا نفوسَكم في أداء الصيام، واصبروا فإنما هو أيام، فيه تُمحى الأوزارُ والآثامُ، فيه تُنشَرُ للمُخلصِ الأعلامُ.

 

9- القطُوا وردَ العمر قبل أن يفوت، اغتنموا بقاء الجسد قبل أن يموت، انطقوا بالذكر فإلى كم سكوت؟ اذكروا بيتًا لا يشبه البيوت.

 

10- أين مَنْ كان معكم في العام الأول؟ أما دارت الدوائرُ فتحوَّل؟ أفيكم مَنْ قد عزمُ على التوبة وعوَّل؟ أفيكم مَنْ أزعجه الوعيد إذْ هوَّل؟

 

11- لو قيل لأهل القبور: تمنُّوا، لتمنوا مثلَ شهركم، فانظروا - رحمكم الله - في أمركم، أُخِذوا وسلمْتم، وفاتهم غنمُ الصومِ وغنِمْتُم، فاشكروا مَنْ أماتهم وأحياكم، واعرِفوا نِعمَه، فقد أعطاكم.

 

12- مَنْ لكم بالبقاء إلى العامِ الثاني؟ فلْينشَطْ في جدِّه المتكاسلُ المتواني[3].

 

13- أيها الغافلُ عن فضيلة هذا الشهر، اعرفْ زمانَك.

يا كثيرَ الحديث فيما يؤذي، احفظْ لسانَك.

يا مسؤولًا عن أعماله، اعقِلْ شانَك.

يا متلوثًا بالزلل، اغسِلْ بالتوبة ما شانك.

يا مكتوبًا عليه كل قبيح، تصفَّحْ ديوانَك.

 

14- ما صام مَنْ ظلَّ يأكلُ لحومَ الناس!

 

15- إخواني، هذا شهرُ التيقُّظ، هذا أوانُ التحفُّظ.

 

16- كم مؤمِّلِ إدراك شهرك ما أدرَكه، فاجَأه الموتُ بغتةً فأَهلكه، كم ناظرٍ إلى يومِ صومه بعين الأمل، طمَسها بالممات كفُّ الأجل، كم طامعٍ أن يلقاه بين أترابه، ألقاه الموتُ في عَفر[4] ترابه.

 

17- اغتنمْ سلامتَك في شهرك، قبل أن تُرتهن في قبرك، قبل انقراضِ مدتك، وعَدَمِ عُدَّتك، وإزماعِ قُوتك، وانقطاع صوتك، وعثور قدمك، وظهور ندمك، فإن العمر ساعات تَذهب وأوقات تُنهب، وكلها معدودٌ عليك، والموتُ يدنو كلَّ لحظة إليك.

 

18- تالله لو قيل لأهل القبور: تمنوا لتمنوا يومًا مِنْ رمضان.

 

19- إذا خسرتَ في هذا الشهر فمتى تربح؟ وإذا لم تسافر فيه نحو الفوائد فمتى تبْرح؟

 

20- عبادَ اللهِ، فرحة الحِسِّ عند الإفطار، تناولُ[5] الطعام، وفرحة الإيمان بالتوفيق لإتمام الصيام.

 

21- يا مُضيعَ الزمان فيما يُنقص الإيمان، ما أراك في رمضان إلا كجمادى وشعبان، أما يَشُوقك إلى الخير ما يَشُوق؟ أما يعوقُك عن الضَّيْر ما يعوق؟ متى تصير سابقًا يا مسبوق؟

 

22- باع قومٌ جاريةً قبيل رمضان، فلما حصلتْ عند المشتري قال لها: هيِّئي لنا ما يصلحُ للصوم، فقالت: لقد كنتُ قبلكم لقوم كل زمانهم رمضان!

 

23- مَنْ فطَّر صائمًا فله أجرُ صائمٍ، فاجتهدْ أن تصوم رمضان ستين يومًا.

 

24- كم أقوامٍ أمَّلوا هذا الشهرَ فخاب الأمل، أين هم؟ خَلَوْا في الألحاد بالعمل، تالله إن نسيان النَّقْلِ في العقل خلل، أما يكفي زَجْرُ المقيم بمَنْ رحل؟

 

25- يا ذا الكسل هذا زمانُ النشاط، يا ذا الأنفة إن للتوبيخ ألم السياط!

 

26- إخواني، راعوا حقَّ هذه الأيام مهما أمكنكم، واشكروا الذي وهبَ لكم السلامةَ ومكَّنَكم، فكم مؤمِّلٍ لمْ يَبْلغْ ما أَمَّل، وإنْ شَككْتَ فتلمَّحْ جيرانَك وتأمَّل[6].

 

27- أيها المجتهد، هذا الشهر ربيع جَدِّك.

ويا أيها الشاكر، هذا أوانُ جَهْدك.

ويا أيها الساعي إلى الخير، هذا حين قَصْدك.

 

28- آهٍ مِنْ أوقاتٍ زاهرةٍ ما أشرفها! وساعاتٍ كالجواهر ما ألطفها!

قد أضاءتْ لياليها بصلاة التراويح، وأشرقتْ أيامُها بالذكر والتسبيح.

نتيجتُها: الإخلاصُ والصِّدْقُ، وثمرتُها: الخلاصُ مِنَ الذنوب والعِتْقُ.

 

29- أين مَنْ كان معكم في شهر رمضان الماضي؟ أمَا أفْنَتْه المَنون القواضي؟

أين مَنْ كان معكم مثل هذه الأيام؟ أمَا أفْنَتْه الشهورُ والأعوام؟[7].

 


[1] القَدَّاحُ: نورُ النَّبات قبل أَن يَتَفَتَّح.

[2] (1- 2) من كتاب (المقامات، صـ 261، 262، 263).

[3] (5 -12) من كتاب (المرتجل، ق/ 94، 95، 96).

[4] في المطبوع: عقر، ولعل الصواب ما أُثبت.

[5] في بعض النُّسخ: بتناول.

[6] (15 -26) من كتاب (التبصرة 2/ 513- 537).

[7] (29) من كتاب (النور صـ 42، 44، 51).