معالم النجاح في شخصية الصديق رضي الله عنه
"إن من عوامل النجاح في الدنيا والآخرة تقصِّي آثار الناجحين؛ ليقتفى الأثر وتَرتفع الهممُ"
إن من عوامل النجاح في الدنيا والآخرة تقصِّي آثار الناجحين؛ ليقتفى الأثر وتَرتفع الهممُ، فيتجدد النشاط ويتأكد، هذا عندما تأتي الشهادة من المعصوم صلى الله عليه وسلم لرجل من الرجال الخيِّرة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما لِأَحدٍ عندَنَا يَدٌ إلا وقَدْ كافأناهُ، ما خلَا أبا بكرٍ، فإِن لَهُ عِندنَا يَدًا يُكافِئهُ اللهُ بِها يَومَ القيامَةِ، ومَا نفَعَنِي مَالُ أحَدٍ قَط مَا نَفَعِني مالُ أبي بِكْرٍ، ولَوْ كنتُ متخِذًا خَلِيلًا، لاتخذْتُ أبا بكرٍ خلِيلًا، أَلَا وَإِنَّ صاحبَكُمْ خليلُ اللهِ» .
ما أعظم هذه الشهادة ولا عجب، فهو صديق هذه الأمة تعالى نقلب صفحات السيرة لهذا العلم، لنتعرف على ميزانه تجد رجلًا عظيم القدر رفيع المنزلة عبد الله متأسيًا برسول الله، جاهد في الله وأنفق كل ماله في سبيل الله نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم خلا له الناس وآمن به، يوم كفر به الناس وصدَّقه، يوم كذبه الناس، أول من أسلم من الرجال، لو وُزن إيمانُه بإيمان الأمة لرجَح إيمانه، إنه الورِع الحيي الحازم الرحيم التاجر الكريم صاحب الفطرة السليمة من أدران الضلال، لم يؤثر أنه شرب خمرًا قط، ولم يؤثر أنه سجد لصنم قط، لم يتعامل بربا قط، ولم يؤثَر عنه كذبٌ قط، حتى في دخوله الإسلام كان متميزًا، فحين دعي إلى الإسلام ما كبا ولا تردَّد، وإنما بادر إلى الإسلام وما تلبَّس ولا تلعثَم.
وفي هذا يروي ابن إسحاق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما دعوت أحد إلى الإسلام، إلا كانت عنده كبوة وتردُّد ونظر، إلا أبا بكر ما عكم عنه حين ذكرته، ولا تردد فيه»، ويعني ما عكم؛ أي ما تباطأ، بل سارع، فإلى شيء من معالم النجاح في شخصية الصديق رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
الصديق والهمة العالية:
إن رجلًا يعيش مع النبي صلى الله عليه وسلم ويضع له خطى ثابتة، وفضلًا في الإسلام لرجل احترم نفسه، وخدم دينه وبذل له، وتنزل القرآن في شأنه في أكثر من موضع {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:40].
رجل عاش للآخرة قدَّمه في الدنيا وعيَّنه، وفؤاده تسبحان في الجنان، يقص مرة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلم عن أبواب الجنة الثمانية، فترفرف أشواق الصديق لها، فيقول: بأبي أنت وأُمي يا رَسولَ اللهِ ما علَى مَن دُعِيَ مِن تِلكَ الأبْوَابِ مِن ضَرُورَةٍ، فَهلْ يُدْعَى أحَدٌ مِن تِلكَ الأبْوَابِ كُلهَا؟ قال: «نعم وأرجو أن تكون منهم» إنها الهمة العالية.
يا عباد الله، نريد همة وهامة تحمل همَّ الإسلام يريد أن يفوز بأبواب الجنة الثمانية، فرضي الله عنه وعمن ترضى عنه وأرضاه.
من معالم النجاح في شخصية الصديق رضي الله تعالى عنه وأرضاه: الصديق والتسليم:
وفي خبر الإسراء والمعراج المعروف يقول الراوي: حينما لقوا الصديق قالوا له: هل علمت ما قال صاحبك؟ قال: وما قال؟ قال: يزعم أنه أُسري به الليلة إلى بيت المقدس، وأنه أصبح بين ظهرانينا، فقال الصديق رضي الله عنه عبارته المشهورة التي تنبني على عمق العقل والتسليم، فبالعقل تثبت من الخبر، ثم أتبعه التصديق فقال: لئن كان قاله فقد صدق.
يا أتباع محمد ويا محبي الصديق رضي الله عنه، إن التسليم للنصوص الشرعية، ومن ثم العمل بها في حياتنا، ضعْ نفسك مكان الصديق؛ لتعرف منزلته الذهاب لبيت المقدس في ذلك الزمان يكون في شهر والعودة في شهر، ثم التصديق والتسليم، انظروا رجاحة عقله وربط الأمور: إني أصدِّقه بأكبر من ذلك، أصدقه بخبر السماء يأتيه في لحظة.
يا ألله، ما أعظم تسليمه! وما أعظم رجاحة عقله رضي الله عنه!
من معالم النجاح في شخصية الصديق رضي الله عنه: الصديق والمبادرة:
أول من أسلم من الرجال وأسلم على يديه، فهو في صحيفة حسناته ستة من العشر المبشرين بالجنة: عثمان بن عفان، وطلحة والزبير، وسعد وعبدالرحمن وأبو عبيدة.
في جيش العسرة يُدعى المسلمون لتجهيزه، فيجود كلٌّ بما يستطيع، فعثمان يأتي بمال كثير، وعمر بن الخطاب يعلن التحدي للصديق، فيأتي بنصف ماله، وينتظر الصديق لتأتي المفاجأة، يأتي بماله كله مبادرًا مستعدًّا، في كل ميادين الخير له سهم!
لقد روى الإمام مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل ذات يوم، فقال: «من أصبح منكم اليوم صائمًا» ؟ قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا، قال: «فمن تبع منكم اليوم جنازة» ؟ قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا، قال «فمن أطعم منكم اليوم مسكينًا» ؟ قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا، قال: «فمن عاد منكم اليوم مريضًا»، قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما اجتمعن في امرئ، إلا دخل الجنة»، فذاك خير كبير فأين المبادرون؟
من معالم النجاح في شخصية الصديق رضي الله عنه وعمن ترضى عنه: الصديق وهمُّ الدعوة، وحملُ همِّ المساكين والمستضعفين:
ها هو الصديق الذي استغرق الإسلام عليه وقته، فوجوده للإسلام وهويته رسالته للإسلام، متجرد لله في كل خاطرة في قلبه، لم يسبق في نفسه، متجرد لله بكل خاطرة في قلبه، يتلفت فإذا ميدان من ميادين المسابقة جديد قد هتك، وإذ بالمستضعفين من المسلمين صبَّ عليهم طغاةُ الكفر سوء العذاب، حبسوهم وجوَّعوهم وعطَّشوهم وعذَّبوهم، فاشترى العبيد والمماليك وأعتقهم؛ كي يخلِّص المسلمين من وطأة الكفار وتعذيبهم.
فيأتيه المخذِّلون ويصفونه بتضييع المال وعدم الحكمة، وهم موجودون في كل زمان ومكان، ومن حدد هدفه لم ينظر لبنيات الطريق، يأتيه أبوه شيخ كبير ما زال حينها على دين قومه يقول: يا بني، أما وقد أبيت إلا أن تضيع مالك، فهلا أنفقته على رجال أشداء جُلداء، ينفعونك ويعينونك في وقت الشدائد؟ فيقول يا أبتِ إنما أريد ما أريد!
لم يكن في حياة الصديق متسع لمجادلة وحوار أصحاب الهمم القاصرة، فتتنزل الآيات من فوق سبع سماوات لترد على أولئك ومن شاكلهم إلى قيام الساعة، كما ذكر غير واحد من المفسرين: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} [الليل:17]، {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} [الليل:18]، {وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى} [الليل:19] {إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} [الليل:20]، {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:21]؛ أيُّ عطاء أعظم من وعد الله جل جلاله {وَلَسَوْفَ يَرْضَى}، رضي الله عنك وعمن ترضى عنك يا أبا بكر!
من معالم النجاح في شخصية الصديق رضي الله عنه التي ينبغي أن نقتفي أثرها ونحن في زمن فتن وتقلُّب: الصديق والثبات والتثبيت، والموقف العظيم يوم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم:
الرجال الأشداء والمؤمنون الأتقياء يظهرون في المواقف، وفي موقف لم يصمد فيه إلا الصديق رضي الله عنه، ثبت في نفسه وثبت الناس معه، تثبَّت من الوفاة دخل المسجد، ثم دخل على بيت عائشة رضي الله عنها، فيمَّم وجهه نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مسجى ببُرده، فيكشف عن وجهه الشريف ثم يكب عليه، فينظر علامات الموت، فيبكي ويقول: بأبي أنت وأمي، ما أطيبك حيًّا وما أطيبك ميتًا، ثم خرج وعمر يكلم الناس، فقال: اجلس يا عمر، فأبى عمر أن يجلس، فأقبل الناس على أبي بكر، فقال: أما بعد، فمن كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144].
يقول ابن عباس: والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبوبكر، فتلقاها الناس فما أسمع بشرًا إلا يتلوها.
عقيدة راسخة وثبات مذهل: {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء} [إبراهيم:27].
أين الثبات في حياتنا وقد تخطَّفتنا الفتن من كل مكان؟!
اثبتوا يا عباد الله فوعد الله حق، {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:33].
من معالم النجاح في شخصية الصديق رضي الله عنه: الصديق وحفظ الدين، وذلك بقتال المرتدين وقتال مانع الزكاة، حتى استقام أمر الإسلام جمع القرآن وأخمد الفتنة.
الصديق وتعظيم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم:
يا أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، ويا محبي أبي بكر، ما قدرُ تعظيم أمر الله ورسوله في قلوبكم؟ أويُعقَل أن يقدَّم أمرٌ على أمر الله ورسوله، حتى لو اشتهت النفس واشتهت الزوجة، واشتهى الأولاد؟! فالله أعظم وأجل أن يقدر أمره ويعظم!
الصديق وتعظيم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبركة الاتباع:
بدأ أبوبكر رضي الله عنه خلافته بتطبيق المنهج الذي أخذه من النبي صلى الله عليه وسلم، وبدأ ببعْث جيش أسامة رضي الله عنه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم عقد اللواء لأسامة وهو لم يتجاوز الثامنة عشرة، وقد أمر الجيش بالتوجه للشام في وقت ارتدت فيه بعض قبائل العرب، وعظُم الخطب، ونجم النفاق، وسار المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية، لفقْد نبيهم وكثرة عدوِّهم، فأشار الناس على الصديق ألا يبعث جيش أسامة، وأن يؤجل ذلك، فوثب الصديق وثبة الأسد، وأبى أشد الإباء، وقال: والذي نفسي بيده، لا أحل عقدة عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي لا إله إلا هو، لو ظننت أن الطير تخطَّفني، وأن السباع من حول المدينة، أو أن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين، ما رددت جيشًا وجَّهه رسول الله، وما حللت لواءً عقده رسول الله، والله لو لم يبق في القرى غيري، لأنفذته ولسان حاله رضي الله عنه وعمن ترضى عنه: أفأطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم حيًّا وأعصيه ميتًا؟! فيا للحزم ويا للاتباع!
فكانت البركة بتعظيم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلمت العرب حين إنفاذ جيش أسامة أن المدينة وأهلها مستقرة أحوالهم، وأنهم على ما مات عليه حبيبهم صلى الله عليه وسلم، فخمدت الفتن ببركة الاتباع، فهل يكون لنا ببركة الاتباع فيما أمر به عليه الصلاة والسلام، حتى ولو ظننا أن الخير في غير اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يا من أراد السلامة اقتفِ الأثر لتسلم دنياك وأخرتك، {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23].
- عباد الله، اتقوا الله واعلموا أن معالم النجاح في شخصية الصديق رضي الله عنه ثاني رجل في الإسلام - أنه كان مسلِّمًا أمرَه لله ورسوله، مبادرًا لفعل الخيرات، حاملًا همَّ الدعوة والإسلام، حاملًا همَّ المستضعفين والمساكين، كان الثبات والتثبيت همهم، فأعانهم الله عليهم.
الصديق حفظ الدين وعظَّم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فارتفع شأنه فذكره القرآن وقص خبرَه: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:40].
________________________________________________________--
الكاتب: الشيخ إسماعيل بن عبدالرحمن الرسيني
- التصنيف: