محمد التابعي ملك الصحافة المصرية !!
والكتاب حافل بكثير من المواقف والذكريات، لكني أحببت أن أقتبس سيرة من يسمونه ملك الصحافة المصرية «محمد التابعي» كرمز من رموز التوجيه والتأثير الفكري في المجتمع المصري
{بسم الله الرحمن الرحيم }
في كتابه الجريء «مسائل شخصية» كشف الصحفي (مصطفى أمين) عن جانب من حياته وحياة الطبقة التي كانت تدير مصر إبان فترة الملكية وبدايات عهد الثورة، تلك الطبقة التي تتكرر في كل زمان ومكان في حياة الشعوب المغلوب على أمرها، وبقصد أو بدون قصد كشف مصطفى الستار عن حياة من يسمونهم «النخبة» .. تلك الحياة المترفة والتافهة والماجنة في آن واحد، في الوقت الذي كان يعاني فيه المصريون من الجهل والفقر والمرض، وكانت إبان عهد الملك تنظم حملات محاربة الحفاء.
وخلاصة الكتاب تأكيد لحقيقة أن الفقراء والبسطاء هم دوما الذين يدفعون ضريبة مجون طبقتهم السيادية المستبدة، والكتاب حافل بكثير من المواقف والذكريات، لكني أحببت أن أقتبس سيرة من يسمونه ملك الصحافة المصرية «محمد التابعي» كرمز من رموز التوجيه والتأثير الفكري في المجتمع المصري الذي خرج بعد كل هذه العقود من القيادات التافهة فقيرا بعد أن بددوا ثرواته، سطحيا بعد أن ميعوا طموحاته.
يقول مصطفى أمين:
شيعت جنازة الزعيم مصطفى كامل في عام 1908، كان يسير في مقدمة الجنازة أصغر تلميذين في المدرسة السعيدية الثانوية في الجيزة، كانا يحملان باقتين كبيرتين من الأزهار..
الطالب في السنة الأولى الثانوية في تلك الأيام كان لا يقل عمره عن 14 سنة
كان التلميذان الصغيران هما.. محمد التابعي وفكري أباظة.
وكانت الصورة التي التقطت في الجنازة تحدد يوم ميلادهما الحقيقي، ولكن الكاتبين الكبيرين عاشا طول حياتهما ينكران سنهما الحقيقي، وبلغ الأمر بالأستاذ التابعي أن حصل على جواز سفر جديد في الأربعينيات أنقص به عمره عشر سنوات، وكان فكري أباظة إذا ووجه بصورته وهو يشيع جنازة مصطفى كامل سنة 1908 ادعى أنها صورته وهو يشيع جنازة الزعيم سعد زغلول!.
وقد مات سعد زغلول في 23 أغسطس سنة 1927 وكان فكري أباظة يومها نائبا في مجلس النواب منذ عامين، وكان عمر النائب كما ينص الدستور في ذلك اليوم يجب أن يزيد عن ثلاثين عاما على الأقل!
وهكذا لا يجوز أن نتهم المرأة وحدها بأنها هي التي تحاول إخفاء عمرها الحقيقي!
وعلى هذا الأساس يكون الكاتب الساخر الكبير محمد التابعي قد ولد في عام 1894وهو الأمر الذي كان ينكره التابعي طول حياته!
كان التابعي أحد «ملوك الصحافة» في مصر، عاش حياته بالطول والعرض، ذاق الفقر والحرمان، واستمتع بحياة أصحاب الملايين، عشق الراقصات والأميرات، نام على مقعد في بدروم عمارة الشاعر أحمد شوقي بشارع «جلال» حيث كانت إدارة مجلة روز اليوسف في أيامها الأولى، ونام في الجناح الملكي بفندق «جوج سانك» بباريس، كان يركب «بسكليت» وينتقل بهذه الدراجة من إدارة المجلة إلى المطبعة، وامتلك السيارات من أحدث طراز في زمن كانت السيارات وقفا على الباشوات وأصحاب الملايين!
عرف الجوع، وكان طعام عشائه في بعض الليالي هو «سميطة» وبيضة ثمنها في تلك الأيام خمسة مليمات، ثم بعد سنوات قليلة أصبح يقيم في بيته مآدب ملكية يحضرها الوزراء والعظماء، وتغني فيها أم كلثوم أو أسمهان أو ليلى مراد.
لم يحدث في تاريخ الصحافة المصرية أن عاش صحفي في المستوى الملكي الذي عاش فيه التابعي. أذكر أنني سافرت معه مرة إلى باريس وصحبني إلى فندق «البرنس دوجال» وسأل عن الجناح الملكي فقيل له إنه محجوز، فرفض أن ينزل في جناح آخر، وصحبني إلى فندق «جورج الخامس» المجاور، وسأل موظف الاستقبال عن الجناح الملكي فأجاب الموظف: إن صاحب السمو الملكي الأمير «أمبرتو» ولي عهد إيطاليا يقيم فيه، وأصر التابعي أن نحمل حقائبنا ونذهب إلى فندق ثالث ورابع وخامس وسادس.. وكان الفندق السابع هو فندق «ماجيستيك» ووجدنا الجناح الملكي خاليا وعندئذ خرجنا وأحضرنا حقائبنا من سيارة التاكسي التي داخت معنا!
وبعد ذلك أراد التابعي أن يسافر إلى «سان موريتز» وأصر أن ينزل كذلك في الجناح الملكي الذي كان ينزل فيه الملك فاروق!
ومع أن التابعي كان لا يعرف كيف يتزحلق على الجليد فقد أصر أن يشتري الملابس الخاصة بهذه اللعبة، وأن يرتديها شأن أبطال هذه اللعبة.
وكان كل أصدقاء التابعي في هذه الرحلة من والأمراء والأميرات والدوقات والكنتيسات، وكان التابعي يجد متعة غريبة إذا جلس معهم في مقهى أو في مشرب أن يدفع هو الحساب!، وكان يجد متعة أن ينافس البارون «روتشيلد» على غرام حسناء.
ولم يخطر ببال أحد من هؤلاء الأميرات والكونتيسات أن التابعي استدان مصاريف هذه الرحلة قبل سفره من الخواجا «ساسون» تاجر الورق المشهور في تلك الأيام! ولم يكن «الدين» في نظر التابعي ذلا في الليل وهما في النهار، بل كان شامبانيا في الليل وكافيارا في النهار!
كان شخصية غريبة.. طرد من مدرسة الحقوق، وعمل موظفا صغيرا بمصلحة التموين أثناء الحرب العالمية الأولى بستة جنيهات في الشهر، كان ينفق خمسة جنيهات منها في اليوم الأول، ويعيش التسعة والعشرين يوما الباقية على جنيه واحد، بواقع ثلاث قروش في اليوم، قرش في الإفطار وقرش في الغذاء وقرش في العشاء.. وتبقى عشرة قروش يدخل بها إلى دارين من دور السينما، ويحصل على مقعد «لوج» بأربعة قروش، ويدفع في كل مرة قرش صاغ بقشيشا لعامل السينما!
واستطاع وهو موظف أن يستذكر دروس مدرسة الحقوق، ويدخل امتحان الليسانس من الخارج، ويكون ترتيبه الأول بين الناجحين!
وكان يقرأ كثيرا باللغة الانجليزية، واستطاع أن يجيد الكتابة بهذه اللغة، وتقدم بطلب وظيفة في جريدة «الاجيبشيان جزيت» التي كانت تصدر باللغة الانجليزية في مدينة القاهرة، وأعجب به مستر «أوفاريل» رئيس التحرير فاختاره ناقدا فنيا للجريدة باللغة الانجليزية بثلاثة جنيهات في الشهر! وفرح الشاب بالمبلغ التافه وكأن ثروة هائلة هبطت عليه من السماء!
وهكذا ارتفع إيراد التابعي إلى تسعة جنيهات في الشهر.. وشعر التابعي أن هذا المبلغ الصغير نقله من طبقة الفقراء إلى طبقة كبار الأثرياء! وأحب على الفور إحدى راقصات الأوبرا الأجنبيات ودعاها للعشاء معه في فندق «شبرد» أكبر فنادق المدينة في تلك الأيام، وفتح لها زجاجتي «شامبانيا» وأعطى الجرسون جنيهين بقشيشا.. وبهرت الراقصة بالشاب المليونير، ولم تعرف أنه في تلك الليلة عاد إلى بيته مشيا على القدمين لأنه لم يبق من مرتبه سنة مليمات يدفعها ثمنا لتذكرة الترام إلى غرفته الصغيرة!
وكان هذا أول حب كبير في حياة الكاتب الكبير.
وأنقذ الموقف افتتاح البرلمان المصري سنة 1924، وأعلنت سكرتارية مجلس النواب حاجتها لمترجم من اللغة العربية إلى اللغة الانجليزية بمرتب 12 جنيها في الشهر.
وحددت موعدا للامتحان .. وتقدم التابعي وتقدم معه حاملو درجات علمية من جامعتي «اكسفورد» و «كامبريدج» في انجلترا.. وإذا بالتابعي يصبح أول الناجحين، وعين على الفور في الوظيفة المطلوبة.
ولم يكتف بالوظيفة بل خطر بباله أن يصبح ناقدا مسرحيا لجريدة الأهرام وكتب ينقد إحدى المسرحيات وذهب بها إلى «داود بركات» رئيس تحرير الأهرام وفوجئ في صباح اليوم التالي بمقاله ينشر في الصفحة الأولى، وكانت هذه أول مرة في تاريخ الصحافة المصرية أن ينشر مقال نقد مسرحي في الصفحة الأولى!
ولم يجرؤ التابعي أن يوقع المقال باسمه الصريح خشية أن يرفت من وظيفته في مجلس النواب، إذ لا يليق بالبرلمان الوقور أن يكون أحد موظفيه ناقدا مسرحيا ينقد الروايات الكوميدية والدرامية، ولهذا وقع المقال باسم «حندس» وهو الاسم الذي كان يدلله به أصدقاؤه وزملاؤه.
وأصبح «حندس» في يوم وليلة ناقدا مشهورا، وأطلق عليه الفنان يوسف وهبي: الكاتب الذي يسقيني السم في برشامة.
وكان التابعي معجبا بتمثيل السيدة روز اليوسف الممثلة الأولى في روايات يوسف وهبي على مسرح رمسيس، وكان يثني على روز في كل مقال، ويسخر من يوسف وهبي في كل نقد، وهكذا بدأت الصداقة الوطيدة بين روز اليوسف ومحمد التابعي.
وعندما أصدرت روز اليوسف مجلتها في عام 1925 عرضت على التابعي أن يعمل معها فتردد وقال إنه لا يصلح إلا للكتابة في الصحف اليومية، وعندما عرف أن زملاؤه في الكتابة في المجلة هم عباس محمود العقاد وإبراهيم عبد القادر المازني ومحمد لطفي جمعة وإبراهيم رمزي ذعر وأصر على أن لا مكان له بين هؤلاء العمالقة.. وبعد إلحاح قبل أن يكتب صفحة مسرحية واحدة.
وصدرت المجلة وفشلت .. وهوى توزيعها.
وبعد أسابيع قليلة تخلص التابعي من العقاد والمازني ولطفي جمعة وإبراهيم رمزي وأصبح يكتب المجلة من الغلاف للغلاف.
وارتفع توزيع المجلة، وأصبحت مجلة خفيفة الدم، واستطاعت أن تشق طريقها بين المجلات الأسبوعية في البلاد!
وأصبح التابعي رئيس التحرير الحقيقي ولكنه لم يجرؤ أن يعلن اسمه في المجلة حتى لا يفقد وظيفته في مجلس النواب، واتفقت السيدة روز اليوسف مع صديق لها يعمل كاتب حسابات في جريدة البلاغ أن يكون الرئيس التحرير الصوري للمجلة ويختفي خلفه التابعي.
وعاش التابعي مجهولا مغمورا ثلاث سنوات بينما كانت مقالاته الساخرة متعة القراء.
وذات يوم كتب التابعي سلسلة مقالات عن حياة ملوك وملكات أوروبا السابقين، واحتجت المفوضيات الأوروبية لأنها اعتبرت هذه المقالات تشهيرا بحياة ملوكهم الخاصة.
وقبضت النيابة على إبراهيم خليل رئيس التحرير المسئول، وإذا برئيس التحرير يقول أمام النائب العام أنه «طرطور» وإن رئيس التحرير الحقيقي هو محمد التابعي !!
وقبضت النيابة على محمد التابعي، وقدمته هو ورئيس التحرير إلى محكمة الجنايات فحكمت عليهما المحكمة بالسجن ستة أشهر مع إيقاف التنفيذ!
وعندما صدر الحكم استدعاه فؤاد كمال بك سكرتير عام مجلس النواب واستجوبه.. كيف وهو موظف يعمل في الصحافة؟ وأجاب التابعي أنه أرسل هذه المقالات للمجلة كهاو لا كمحترف.. ونشرتها المجلة عملا بحرية النشر.
وكان فؤاد كمال معجبا بكفاءة التابعي في الترجمة فحفظ التحقيق.
واستمر التابعي رئيسا للتحرير من وراء ستار، وكان يرفض أن يكتب في السياسة بحجة أنه كان لا يفهم في السياسة! وقال إنه يفضل الكتابة عن الفنانة «زينب صدقي» أكثر من أن يكتب عن «عبد الخالق ثروت» باشا رئيس الوزراء.
وأرغمته السيدة روز اليوسف على الكتابة في السياسة فكتب فيها مضطرا، ولم يلبث أن تألق، وأدت مقالاته السياسية الساخرة إلى انتشار مجلة روز اليوسف، وبدأ التابعي يهاجم خصم الوفد بعنف، وإذا بنواب حزب الأحرار الدستوريين يتقدمون بشكوى إلى مجلس النواب يقولون كيف يسمح لموظف في مجلس النواب أن يشتم النواب! وحقق مكتب المجلس مع التابعي، فأنكر أنه يكتب في روز اليوسف! ولما كانت غالبية المجلس وفدية قررت حفظ الشكوى ضد التابعي.
وأقيلت وزارة الوفد، وحلت الوزارة الجديدة مجلس النواب، ورأى التابعي أن يستقيل من وظيفته ويتولى رسميا رئاسة التحرير.
وصادرت الحكومة مجلة روز اليوسف فتضاعف التوزيع، ولمع اسم التابعي، فقد أصبح يوقع مقالاته بإمضائه الصريح لأول مرة.
وأصبح باعة الصحف ينادون على مجلة روز اليوسف «روزا والتابعي يا جدع» وهكذا أصبح اسم التابعي على كل لسان، وكانت مقالاته الساخرة حديث البلاد العربية كلها.
وكان أسلوب التابعي لاذعا في بساطة، يحول بجملة الوزير إلى «بلياتشو» والزعيم إلى «بهلوان»، قادرا أن «يسخط» المشروع الحكومي الهام ويجعله «نكتة» على أفواه الملايين، استطاع بعبقرية غريبة أن يجعل حكومة «محمد محمود» تفقد أعصابها، وتضرب مجلة روز اليوسف وتبطش بها وتهددها وتتوعدها، وكلما سعت الحكومة في اضطهادها للمجلة كلما انطلقت المجلة في توزيعها وسعة انتشارها!
إن الكلمة كالطبلة، إذا ضربت عليها بشدة دوى صوتها وارتفع ضجيجها!
وفي يوم وليلة أصبح التابعي أحد كبار كتاب مصر والشرق العربي، وأصبح أكبر كاتب ساخر من المحيط للخليج.
كان التابعي قويا مع الرجال ضعيفا مع النساء، كان لا يثق في أي رجل بسهولة، وكان يثق في أي امرأة بمنتهى السهولة! وكان أستاذا في جذب النساء بكل اللغات ومن كل الأجناس!!
لم يترك دولة أوروبية إلا وله فيها حبيبة، يبرق لها بالتهنئة في عيد ميلادها، ويقدم لها الأزهار في ذكرى لقائهما الأول، وكان سخيا مع النساء إلى درجة الإسراف، ومقتصدا مع الرجال إلى درجة التقتير، فهو يجد متعة لا حد لها في أن يقدم لسيدة يعرفها لأول مرة خاتما سوليتير، ولكنه يستكثر على صديق حميم قلم حبر أمريكانيا!
وكان يستثني من هذا «الاقتصاد» رجلا واحدا هو الموسيقار محمد عبد الوهاب.
فقد اكتشف التابعي موهبته وهو في بداية حياته، وكرس قلمه للإشادة به ومعاونته على الصعود على سلالم المجد.
وكان عبد الوهاب إذا زار التابعي في بيته ذهب إلى غرفة نومه وفتح دولاب ملابسه وأخذ منه أي رباط رقبة يعجبه، ويفتح خزانة اسطواناته ويختار أي قطعة موسيقية يريدها!
وكان الشعب منقسما بين أم كلثوم عبد الوهاب، وانضم التابعي إلى حزب عبد الوهاب، وأصبح ينتهز الفرصة للسخرية بأم كلثوم!
ثم أصبح بعد ذلك من أصدق أصدقاء أم كلثوم.
وذات يوم وقع التابعي في هوى المطربة اسمهان وقرر أن يتزوجها ووافقت اسمهان، ووضع في أصبعها دبلة الخطبة، ووضعت في أصبعه دبلة الخطبة!
وكنت يومئذ رئيس تحرير مجلة آخر ساعة، وكان «على أمين» سكرتيرا للتحرير.. وكنا نعارض هذا الزواج بشدة لأن اسمهان كانت مطربة عظيمة، ولكنها امرأة هوائية، تحب في الصباح وتكره في المساء.
ولاحظنا أن التابعي منذ أحب اسمهان أصبح يهمل عمله، ويتابع أخبار اسمهان ولا يتابع أخبار الوزارة! وكان له أكثر من مندوب في بيت اسمهان يوافونه بأخبارها، ومن يزورها، ومن يتكلم في التليفون، ومن ضحكت له..
وكان التابعي يحرص على مقابلة هؤلاء المندوبين أكثر من حرصه على مقابلة مندوبي الجريدة والمحررين، فقد أصبحت الفنانة الجميلة دنياه كلها!
وكان التابعي غيورا على أسمهان، وكانت هي غيورة عليه، وكان التابعي إذا غار احترق، وكانت اسمهان إذا غارت اختفت.. ثم يحل الوفاق بعد الخصام، وبعد أيام تعود الحرب من جديد بين العاشقين، ويتبادلان الكلمات والاتهامات .. وبعد يومين يتبادلان القبلات!
وكان التابعي روميو وعطيل ومجنون ليلى في وقت واحد!
وذهبت أنا وعلي أمين إلى أم كلثوم وكانت صديقة لنا.. وطلبنا منها أن تنقذ أستاذنا التابعي من أن يغرق في بحر اسمهان!
وقالت أم كلثوم: وماذا تريدون مني أن أفعل؟
قلنا: أن تتزوجي أنت التابعي لتنقذيه من الغرق!
وضحكت أم كلثوم وقالت: أنقذ التابعي من الغرق .. لأغرق أنا ؟!
التابعي لا يصلح زوجا لي! التابعي تزوج الممثلة زوزو حمدي الحكيم ولم يدم الزواج سوى شهر واحد وطلقها.. وذهبنا للتابعي وقلنا له إذا تزوج من اسمهان فإنني سأستقيل من رئاسة التحرير، ويستقيل علي أمين من منصب سكرتير التحرير.
وفوجئ التابعي بهذا التهديد الصبياني، وأصر أن يتزوج اسمهان ولتذهب آخر ساعة للجحيم.
وفجأة اكتشف التابعي في نفس اليوم أن اسمهان أحبت شخصية كبيرة من وراء ظهره فمات الحب الكبير بالسكتة القلبية.
وفي اليوم التالي بدأ قصة غرام مع ابنة أحد الباشاوات!
فقد كانت حياة التابعي عشقا مستمرا، يخرج من حب إلى حب، وكان قلبه يتغير مع فصول السنة! كان يسافر إلى أوروبا مرتين كل عام، وفي كل مرة يقع في حب جديد، حبيبة للصيف وحبيبة للشتاء! وكان يمضي ستة أشهر من السنة في مصر، فيحب مصريات وفلسطينيات ولبنانيات وسوريات، كأن قلبه مثل الأمم المتحدة فيه ممثل لكل دولة من دول العالم!
وكان شخصية متناقضة، كان يتولى بنفسه مراجعة حسابات مجلة آخر ساعة يدقق في كل مليم، ويعيد جمع وطرح وضرب كل عملية حسابية عدة مرات.
أذكر أنه ذات يوم أبقانا معه في مكتبه من الساعة الثامنة مساء إلى منتصف الليل يبحث عن ثلاثة قروش ناقصة في حساب المجلة، ووجد الغلطة الحسابية في آخر الأمر، فأخذني أنا وجميع محرري المجلة بعد منتصف الليل إلى صالة «بديعة» وكانت يومئذ في شارع عماد الدين، وأنفق في تلك السهرة مائة جنيه عندما كانت مائة جنيه تساوي عشرة آلاف جنيها في هذه الأيام!
وهو يحرص أن يكتب في أجندة خاصة كل مبلغ أنفقه، وفي صفحات الأجندة تجد مفارقات غريبة، مثل، خمسة مليمات ثمن جريدة الأهرام، مائة وعشرين جنيها سهرة بديعة مصابني، خمسة قروش فنجان قهوة في قهوة الأنجلو، مائة وخمسين جنيها ملابس من الخياط ماركو، خمسة مليمات مسح الحذاء، ثلاثة قروش بن، خمسين قرشا مصاريف المطبخ، سبعين جنيها هدية لجولييت!.
وإذا قرأت أجندات التابعي طوال السنوات الماضية استطعت أن تعرف تطور سعر كيلو البامية الخضراء من سنة 1930 إلى سنة 1976.
وقلم التابعي رشيق أنيق .. أحيانا يشبه أغصان الفل والياسمين، وأحيانا يشبه السيف أو الخنجر أو المدفع الرشاش.
لا يحب الذين يدافع عنهم، ولا يكره الذين يهاجمهم، لا يحقد على عدو ولا يطمئن إلى صديق.. يندفع كالسهم ويصمد كالجبل، يهوى المعارضة ويمقت التأييد. وإذا عارض أشفق على خصمه وهو يذبحه، وإذا أيد سخر بزعيمه وهو يدافع عنه.. وفدي متحمس على الورق، ومستقل الرأي في الحقيقة، صادق الملك فاروق وخاصمه، وتحمس للنحاس وانتقده، وأحب النقراشي وعارضة، وطالب بالدستور والديمقراطية ثم طالب بوقف الحياة النيابية في مصر لمدة ثلاثين عاما!
وهو فنان أكثر مما هو صحفي.. كانت هوايته أن يجمع قلوب الممثلات والراقصات وكأنه يجمع طوابع البريد.
وذات يوم أحب سيدة من أسرة كبيرة حبا جارفا، وسألته عن كل امرأة عرفها في حياته.. وقال لها إنه سيكتب مقالا كل أسبوع في مجلة آخر ساعة عن كل امرأة عرفها، وجمع هذه المقالات كلها في كتاب «بعض من عرفت» وكان من أروع ما كتب.
عرفته سنوات طويلة، عرفته عبقريا إذا كتب.. وشابا إذا عشق.. ومقاتلا عنيفا إذا حارب.. وعاشقا مجنونا إذا أحب.
وعرفته رجلا له مزاج في الكتابة.. إذا حوصر عمل 18 ساعة كل يوم.. وإذا أفلت من الحصار مكث ستة أشهر دون أن يكتب مقالا واحدا.. التحدي يثير نشاطه ويقوي خياله ويبرز عبقريته، والرخاء يجعل قلمه يسترخي، وعقله يستريح، ويفضل أن يتمدد على شاطئ البحر في كابري على أن يجلس في مكتبه بميدان التحرير.
كتب سلسلة مقالات رائعة نشرها في مجلة آخر ساعة عن قصة غرامه باسمهان، هذه المرأة الساحرة التي فتنت القلوب.
وقد غيرت هذه المقالات تاريخ حياته.
فقد أحب قارئة أعجبت بمقالاته، أطول قصة حب في حياته!
ومن الغريب أن تخلق قصة حب قديم قصة حب جديد!
وتزوج من قارئة قصة حبه لاسمهان، بعد أن كان أقسم ألا يتزوج إلى الأبد، بعد أن فشلت زيجته لاسمهان!
وعاد التابعي شابا من جديد ودامت قصة زواجه السعيد من سنة 1946 إلى أواخر السبعينات، كان عندما تزوج في الخمسين من عمره، وكانت القارئة التي أحبته في العشرين من عمرها.
ومات بين زراعي المرأة التي أحبها أكثر من ثلاثين عاما!
وقبلها كانت أطول قصة حب في حياته لا تدوم أكثر من ستة شهور.
هذه قصة أحد سلاطين الحب في القرن العشرين!
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
alnaggar66@hotmail.com
خالد سعد النجار
كاتب وباحث مصري متميز
- التصنيف: