بعد انتخابات صيف ساخن في تركيا "الأردوغانية" ومعارضيها الى أين ؟
لقد نجح أردوغان في تحويل تركيا من دولة عالم ثالث مثقلة بالديون والمشكلات الى دولة من أعضاء مجموعة العشرين الأقوى اقتصاديا في العالم
في الانتخابات التركية الأخيرة فاز تحالف الجمهور بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان وحزبه بأغلبية مقاعد البرلمان التركي كما فاز أردوغان نفسه بمنصب رئيس تركيا فترة رئاسية جديدة تمتد حتى 2028، وذلك يعني أن أردوغان وحزبه مستمرون في توجيه الشئون العامة في تركيا لربع قرن على الأقل، لقد نجح أردوغان في تحويل تركيا من دولة عالم ثالث مثقلة بالديون والمشكلات الى دولة من أعضاء مجموعة العشرين الأقوى اقتصاديا في العالم، كما حول تركيا لدولة بارزة ومؤثرة في السياسة الدولية والإقليمية، وأيضا حول تركيا لدولة صناعية مهمة لا سيما في مجال التصنيع العسكري.
ومن هنا ربما ليس من المبالغة أن نسمي هذا المسلك السياسي والاقتصادي الذي شهدته تركيا منذ 2002 بـ"الأردوغانية" لاسيما وأن أحد المحللين الأتراك المهمين وهو سليم كورو المحلل في مؤسسة أبحاث السياسة الاقتصادية في تركيا قال: "أردوغان لديه رؤية واضحة لما يريده للبلاد، ولديه هذه الرؤية منذ كان صغيرًا جدا، وما يعجب الناس فيه هو أنه لم يتنازل عن ذلك". {صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية 29 مايو 2023}.
مستقبل المعارضين للأردوغانية
وصبيحة هذا الفوز الأردوغاني المزلزل في انتخابات تركيا 2023 البرلمانية والرئاسية يجدر بنا أن نمد بصرنا لتفحص معالم مستقبل المعارضين للأردوغانية بعيد سقوطهم، وكذلك استكشاف آفاق تعامل أردوغان وحزبه مع هؤلاء المعارضين.
وفي البداية ينبغي إدراك أن المعارضة التركية تنقسم لمعارضة وثيقة الصلة عضويا وفكريا بالتحالف الأوروبأمريكي، ومعارضة ليست كذلك حتى وإن كانت منفتحة فكريا بقدر كبير على الأفكار الغربية، ونقصد بالارتباط العضوي التبعية الكاملة وعدم القدرة على عصيان الأوامر والتوجيهات وهو ما يطلق عليه البعض تعبير "الوظيفية" كأنهم موظفون لدى أجهزة التحالف الغربي.
ومن هنا فالمعارضة ذات الروابط العضوية بالتحالف الغربي فهذه ستستمر فى عداوتها لأردوغان والسعي لإفشال سياساته الداخلية والخارجية بل وإسقاطه، مستخدمة شتى الطرق ولكنها ستفشل ما لم يحدث لها تغير جذري في فكرها السياسي والإداري وفي حالتها النفسية المريضة أصلا بنرجسبة عالية جدا، فهى ستظل فاشلة على المدى القريب والمتوسط، أما على المدى البعيد فهناك سيناريوهان محتملان:
السيناريو الأول- الاستمرار على نفس الحالة مع تغير الوجوه فقط دون الجوهر.
السيناريو الثاني- التطور والتغير بما يمثل تهديدا للتيار الأردوغاني، وهذا لو حدث لن يحدث إلا إذا تدخلت أجهزة التحالف الغربي تدخلا قويا فى إعادة بناء وهندسة أحزاب المعارضة الرئيسية المرتبطة بالغرب عضويا.
ولكن هناك سيناريو ثالث محتمل بدرجة بعيدة نسبيا وهو أن تندثر هذه المعارضة المرتبطة بالغرب عضويا تماما أو تتدهور جدا فتصير لا وزن ولا قيمة لها فى اى انتخابات تالية، وهذا احتمال مستبعد لحد كبير إلا إذا نجح أردوغان فى إحداث تغيرات اجتماعية عميقة وواسعة النطاق في مجمل المجتمع التركي بقدر يقلل به أعداد الفئات الاجتماعية الأتاتوركية والعلمانية القومية والكردية الإنفصالية، لأن هذه الفئات هي التي شكلت القاعدة الاجتماعية للمعارضة التي نازلت أردوغان وتحالفه في انتخابات هذا الصيف الساخن 2023.
قوى معارضة مرشحة لتأييد أردوغان
المعارضة المرتبطة بالغرب فكريا دون تبعية كاملة له ودون ارتباط عضوي فهذه غالبا ستتقارب مع أردوغان تدريجيا وصولا للتحالف معه وفق صيغة تحالف الجمهور الذي يقوده أردوغان أصلا ومن أقرب المرشحين لهذه الحالة التحالفية سنان أوغان اذ ربما يشكل حزبا خاصا به وربما يسهل له أردوغان الرجوع لحزب الحركة القومية تمهيدا لخلافة بهجت بهشتلى حال تقاعده أو وفاته.
كما أن محرم انجه وحزبه مرشح لدخول تحالف الجمهور (الحاكم) او التنسيق معه بقوة كأنه عضو فيه دون الإعلان صراحة، لاسيما عندما يتحرك أردوغان بسياسات ناجحة بشأن الإرجاع الطوعي للسوريين وإصلاح مشكلتي تدهور قيمة الليرة والتضخم الاقتصادي.
لأن كلا من محرم انجه وسنان أوغان أعلنا مرارا موافقتهما على جوانب من سياسات أردوغان خاصة السياسة التصنيعية لاسيما فى مجال السلاح، كما أن مواقفهما القومية تجعلهما قريبان من سياسات أردوغان الخارجية وإنما خلافهما بات في موضوع التضخم واللاجئين.
وقد اقتنع سنان أوغان أخيرا برؤية أردوغان وحالفه انتخابيا قبيل الجولة الثانية لا سيما أنه رأي أن أردوغان هو الحصان الرابح، بينما نجد أن محرم انجه صار أضعف سياسيا بعد إجباره على الانسحاب من السباق الانتخابي الرئاسي وبينما هو مجروح بسبب عمليات الابتزاز التى تعرض لها فلم يمد يد العون لها معنويا وعمليا سوى أردوغان بنفسه، وكل هذا له ما بعده.
وبدأ على بابا جان إرسال إشارات التقرب من أردوغان وحزبه منذ ظهور نتائج الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية لا سيما بعد أن ظهر له أن حزب على بابا جان حاز 14 مقعدا فى البرلمان في إطار نزول مرشحيه على قوائم حزب الشعب الجمهوري؛ فأعلن استعداده للتعاون مع أردوغان لتغيير الدستور.
ومعلوم أن أردوغان يسعى لوضع دستور جديد لتركيا وسيحتاج مزيدا من الأصوات في البرلمان لتمرير هذا، لأن عدد مقاعد تحالف الجمهور في البرلمان لا تبلغ الثلثين وهى النسبة اللازمة لتمرير تغيير الدستور وعلى بابا جان يدرك هذا، وجاءت الإشارات التالية فور فوز رجب طيب أردوغان فى جولة الانتخابات الرئاسية الثانية حيث كان على بابا جان من أوائل من هنأوا أردوغان بالفوز.
أردوغان ردا على سؤال لصحفيين: نفى أى إمكانية للتعاون مع الذين انشقوا عن حزب العدالة والتنمية، والمقصود هنا نواب حزب أحمد داود اوغلو وعلى بابا جان، لكن أردوغان ببرجماتيته المشهورة ومناوراته المعهودة من غير المتوقع منه أن يرفض اليد الممدودة له وهو محتاج لها.
ومن جهة أخرى فإن زعيمة حزب "الجيد" ميرال اكشنار نفسها سارعت بتهنئة أردوغان بالفوز ومطالبته بفهم رسالة الشعب له.
وهذه كلها رسائل تصالحية غير معروف إلى أي مدي ستصل لكن الباب سيظل مفتوحا أمام عدد من الأحزاب المعارضة للدخول تحت مظلة "الأردوغانية" وتحالف الجمهور بما في ذلك بعض الأحزاب من أعضاء الطاولة السداسية، ولن يمنعهم من هذا إلا درجة ارتباطهم بالتحالف الغربي هل وصلت للارتباط العضوي أو الوظيفي أم هي مجرد ارتباط فكري ومصلحي؟؟
بل قد يضطر الغرب نفسه لمداهنة "الأردوغانية" الحاكمة في تركيا ودفع بعض أذرع الغرب من الأحزاب التركية للشراكة مع أردوغان من باب الانحناء للعاصفة حتى تمر أو من باب التأثير على تيار "الأردوغانية" من داخله.
أردوغان وإعادة هندسة الحياة السياسية
وفي مقابل هذا كله نلاحظ أن الرئيس رجب طيب أردوغان وحزبه مازال يمارس الهندسة السياسية للمعارضة عبر إعادة تشكيلها من داخلها فهو فاز في الانتخابات الرئاسية بالتحالف مع سنان أوغان، وتم تحصيل خطوات مشابهة مع محرم انجه إذ أعلن محامي محرم انجه قبيل انطلاق انتخابات الجولة الأولى للانتخابات قائلا: "سنواصل التعاون مع الرئيس أردوغان لتطهير تركيا من إرهاب حركة جولن الارهابية و PKK بعد انتهاء الانتخابات".
ثم نجد أن الرئيس رجب طيب أردوغان يواصل محاولاته لتأليب حزب الشعب الجمهوري ضد كمال كيلتشدار أوغلو بتذكريهم تكرارا بكيف أضاع كليتشدار 40 مقعدا من الحزب وهبها لأعضاء أحزاب "السعادة" و "المستقبل" و"الديمقراطية والتقدم"، كما قال بعد فوزه بالانتخابات: "أنا متأكد ان حزب الشعب الجمهوري سيحاسب باي باي كمال على فشله".
وهكذا يتقدم أردوغان وحزبه فى الهندسة السياسية الحزبية بإعادة تشكيل كافة القوى السياسية والحزبية بما يخدم أهداف "الأردوغانية" سياسيا واقتصاديا، ويتم هذا بأساليب سياسية طبيعية من إقناع وتحالف وضغط سياسي سلمي مشروع دون أى ابتزاز أخلاقي أو قمع سياسي أو أمني، وهذا كله يمثل نجاحا وفاعلية فى العمل السياسي، ولا شك أن الرئيس رجب طيب أردوغان سيستمر في فعل هذا باستغلال الزلزال السياسي الذي أحدثه فوز تحالف الجمهور بقيادة أردوغان وخسارة تحالف الطاولة السداسية الذي يضم أغلب القوى المعارضة.
"الأردوغانية" بجانب هذا كله ستظل تواجه مشكلات داخلية تحتاج حلا ناجحا على المدى القصير والمتوسط وأبرز هذه المشكلات المشكلة الكردية ومشكلة التضخم الاقتصادي ومشكلة تدهور قيمة الليرة التركية، وهى مشكلات عصية نسبيا بالنسبة لأي حكومة في هذه المرحلة، لكن لا مناص من حلها كما أن الإبداع المعتاد من أردوغان وحزبه يمكن أن يفاجئ الجميع بحلول مناسبة لهذه المشكلات.
عبد المنعم منيب
صحفي و كاتب إسلامي مصري
- التصنيف: