أخطاء المعارضة التركية.. أخطر دروس العمل السياسي المعارض
وفي واقع الأمر فإن هذا "الخطأ/الدرس" ليس واحدا وإنما هي ثلاثة أخطاء أولها اجتماعي وثانيها سياسي وثالثها اقتصادي.
تدفق سيل من التحليلات حول الانتخابات التركية الأخيرة ولكن أيا منها لم يدقق في أهم الأخطاء الجوهرية لتحالف المعارضة الذي ساند كمال كيلتشدار أوغلو منافس رجب طيب أردوغان في الانتخابات الرئاسية اذ تطرقت التحليلات للعديد من أخطاء المعارضة ولكنها لم تركز الاهتمام على الخطأ الأساسي الذي يمثل حقيقة مرجع كل أخطاء المعارضة كما يمثل الوعي به درسا مهما لأي عمل سياسي معارض.
وفي واقع الأمر فإن هذا "الخطأ/الدرس" ليس واحدا وإنما هي ثلاثة أخطاء أولها اجتماعي وثانيها سياسي وثالثها اقتصادي.
فالخطأ الاجتماعي هو أن المعارضة لم تجر تحليلا دقيقا لطبيعة المجتمع وقواه المجتمعية وأيديولوجية وقيم هذه القوى لتحديد البوصلة الاجتماعية و السياسية بشكل صحيح، هذه القوى التي ظهرت بوضوح وبالأرقام في نتيجة الانتخابات البرلمانية حيث بلغ مجموع نسبة الأصوات التي حصلت عليها الأحزاب الدينية و المحافظة والقومية ما مجموعه 65.59% من أصوات الأتراك حيث جاءت نتائجهم التفصيلية كالتالي:
حزب "العدالة والتنمية" حصل على نسبة 35.49%
حزب "الحركة القومية" حصل على نسبة 10.06%
حزب "الرفاه الجديد" حصل على نسبة 2.83%
حزب "الاتحاد الكبير" حصل على نسبة 0.99%
حزب "الهدى بار" حصل على نسبة 2.7%.
الحزب "الجيد" حصل على نسبة 9.75%
حزب "السعادة" حصل على نسبة 1.34%
حزب "النصر" حصل على نسبة 2.43%
حزب "المستقبل" لم تتضح أرقامه بدقة لأنه شارك في الانتخابات على قوائم حزب الشعب الجمهوري ولكن أغلب استطلاعات الرأي أعطته 1% من الأصوات.
حزب "الديموقراطية والتقدم" لم تتضح أرقامه بدقة لأنه شارك في الانتخابات على قوائم حزب الشعب الجمهوري ولكن أغلب استطلاعات الرأي أعطته 1% من الأصوات.
وهذا يوضح أن أكثر من 65% من الناخبين الأتراك هم متدينون أو محافظون أو قوميون، فينبغي على من يرد أن يحوز أصواتهم ان يتبنى برنامجا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا محافظا وقوميا، ولكن تحالف المعارضة لم يراع هذا بل نجده يقدم برنامجا ويرفع شعارات لا تخاطب الأغلبية الاجتماعية التركية وإنما يتبنى برنامجا وشعارات إنما ترضي الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية برفع شعارات حرية المثلية الجنسية و الحريات الفردية وحقوق الانسان بالمفهوم الغربي والارتماء في حضن أوروبا والولايات المتحدة وإرضاءهما، وبالتالي فمن الطبيعي ألا تحصل المعارضة على أصوات الأغلبية المحافظة والقومية حتى لو رفعت شعارات أخرى دينية براقة لأن النفاق لا ينفع في هذه الأحوال لأنه نفاق صفيق ومفضوح.
وفي هذا الإطار يمكننا فهم ما قاله المحلل التركي ضياء ميرال عندما قال: "إذا رأيت أن ما حدث في انتخابات تركيا هو مجرد تلاعب باستخدام أجهزة الدولة، فأنت تتجاهل الدعم الاجتماعي الواسع حقيقة لما يمثله أردوغان، القوميون والإسلاميون والمحافظون الدينيون وأولئك الذين ينظرون إليه ببساطة على أنه الشخص الموثوق به الذي يمكنه تغيير الأمور فيمكن أن يدعمه هؤلاء جميعًا بشكل مريح". (الجارديان 29 مايو2023).
أما الخطأ الجوهري الثاني الذي وقعت فيه المعارضة التركية بقيادة كمال كليتشدار أوغلو فهو خطأ سياسي تمثل فيما نطلق عليه في تعبيرنا الدارج "إمساك العصا من منتصفها" وهو أمر لا يفيد أبدا في السياسة الداخلية في أغلب الحالات التنافسية خاصة في حالات الاستقطاب الحاد لأن أغلبية الناس يحترمون ويفهمون ذا الموقف الواضح المحدد ويتحيرون بل يتشككون بشأن المواقف المائعة أوغير المحددة.
فتحالف المعارضة الذي أطلق عليه الطاولة السداسية ضم ستة أحزاب، منها ثلاثة أحزاب دينية أو محافظة وهي أحزاب "السعادة" و "المستقبل" و "الديموقراطية والتقدم"، كما ضم أيضا الحزب "الجيد" بقيادة ميرال اكشينار وهو ثاني أكبر الأحزاب القومية التركية، بالإضافة لأكبر حزب أتاتوركي يساري وطبعا علماني وهو حزب "الشعب الجمهوري" بقيادة كمال كيلتشدار أوغلو، وتحالفت الطاولة السداسية عمليا دون إعلان رسمي مع حزب الشعوب الديموقراطي الكردي الذي يعده الأكثرون مجرد واجهة سياسية لحزب العمال الكردستاني المسلح والمصنف إرهابيا.
قد يرى أي سياسي ساذج أنها خلطة تجمع الجميع: إسلامي ومحافظ وقومي و"كردي انفصالي" و"علماني أتاتوركي" فبالتالي فإنها ستحصل على أصوات الجميع بحسب توهم هذا الساذج، ولكن الحقيقة أن أغلب المصوتين الإسلاميين ذوي الوعي سيمتنعون عن التصويت لكتلة تضم "العلمانية الأتاتوركية" التي طالما سامتهم الاضطهاد طوال 80 عاما، ونفس الشيء سيفعله بعض الأتاتوركين إزاء الكتلة بسبب وجود إسلاميين وانفصاليين أكراد متحالفين معها، أما "الأكراد الانفصاليين" فلا شك أن بعضهم سينفرون من نفس الكتلة بسبب وجود القوميين والاسلاميين بها، ونفس الشيء سنجده من القوميين بسبب تحالف الكتلة مع "الأكراد الانفصاليين"، وهذا هو ما رأيناه فعلا في نتائج الانتخابات البرلمانية ومن ثم الرئاسية، وهذا الخطأ السياسي رغم أنه شائع لكنه قاتل، فمن يرد أن يكسب رضا كل المتناقضات معا سيخسر بلا أدنى شك.
ويأتي الخطأ الجوهري الآخر لكتلة المعارضة وهو عدم طرحها برنامجا اقتصاديا متكاملا ومتماسكا ومقنعا للشعب التركي، ويزيد من خطيئة هذا الخطأ أن جانبا رئيسيا في خطاب المعارضة ركز على المشكلة الاقتصادية التي تعصف بتركيا منذ سنتين متمثلة في انهيار قيمة القوة الشرائية لليرة التركية بجانب التضخم الاقتصادي الذي فاق الـ40%.
ومن هنا فالمفترض أن المشكلة الاقتصادية كانت حصان طراودة بالنسبة للمعارضة ولكن المعارضة لم تطرح برنامجا اقتصاديا متكاملا ولا واضحا وانعكس تنوع التوجهات الايديولوجية لأعضاء التحالف المعارض سلبا على وضوح خطاب المعارضة الاقتصادية فبينما قائد التحالف هو كمال كيلتشدار اوغلو زعيم حزب المفترض والمعلن انه يساري فنجد أن على بابا جان زعيم حزب "الديموقراطية والتقدم" (ديفا) يزعم أنه سيتولى الملف الاقتصادي ويحل كل المشاكل في حين أن على بابا جان محسوب ايديولوجيا على المذهب النيوليبرالي، كما تخبطت التصريحات الاقتصادية لكمال كليتشدار أوغلو فتارة يقول سأحضر 300 مليار دولار من لندن وتارة يقول سأمنح حق تشغيل مطار اسطنبول لشركة كذا الأمريكية، دون تبيان صيغة أي من هذه الإجراءات مما حولها لتصريحات ضارة بالمعارضة، فضلا عن أنها وغيرها لا تعكس برنامجا اقتصاديا متكاملا ومقنعا.
وربما يقول قائل وماذا قدم أردوغان وتحالفه غير وعود اقتصادية وشعارات أيضا، ولكن هناك فارق مهم وهو أن أردوغان سبق وطبق برنامجه الاقتصادي ونجح ففي يناير عام 2002 كان معدل التضخم في تركيا 73%، وبعد أقل من عامين نجح أردوغان في تخفيض معدل التضخم إلى أقل من 9% في يونيو 2004، ومن هنا فأردوغان لدية ورقة قوية في طرحه وعودا اقتصادية، أما المعارضة فلم يمكنها امساك ورقة قوية في المجال الاقتصادي لأنها لم تقدم برنامجا اقتصاديا يقنع الناخب التركي.
وكانت هذه هي ثالثة الأثافي بالنسبة لتحالف المعارضة التركية التي توحدت لمنازلة أردوغان في الانتخابات برلمانيا ورئاسيا.
وبسبب هذه الأخطاء الجوهرية الثلاثة للمعارضة انتقل الصراع السياسي ومعاركه الانتخابية الى ميدان أجاد أردوغان وحلفاؤه الاشتباك فيه بل الانقضاض على خصومهم فيه وهو ميدان الصراع بين الإسلام ومعارضيه، وبين التقاليد التركية المحافظة والافكار الاجتماعية الغربية من مثلية ومكافحة الحجاب ونحو ذلك، وكذلك صراع بين الاعتزاز بالقومية التركية المستقلة عن الغرب وبين الأتراك المنفتحين على الغرب والارتباط به، ومن هنا جاء التصويت على الأيديولوجية والتقاليد والأفكار وهذا أوضح أن خندق المحافظين والمتدينين والقوميين المعتزين بالاستقلالية التركية عن أي تبعية للقوى الأجنبية هم الأعلى صوتا وهم أصحاب الحراك الأكثر نشاطا.
وإذا كانت نتيجة أخطاء المعارضة المباشرة تمثلت في خسارتها أغلبية مقاعد البرلمان و خسارتها للانتخابات الرئاسية، فإن هذه الأخطاء سيكون لها نتائج أخرى غير مباشرة سوف تظهر في الأسابيع والشهور المقبلة حيث ستشهد أحزاب المعارضة عاصفة عاتية ستغير وجه أغلب هذه الأحزاب وربما نشهد مزيدا من التدهور والتآكل بداخل العديد منها أيضا.
عبد المنعم منيب
صحفي و كاتب إسلامي مصري
- التصنيف: